اتهام لـ البشير.. واتهامات لـ أوكامبو

قوبل قرار المحكمة الجنائية الدولية, ضد الرئيس السوداني عمر البشير, بالرفض من أصحاب الشأن, المهتمين بمستقبل السودان,
والراغبين عمليا في حل أزمة دارفور, وإنقاذ5 ملايين يتعرضون لحروب وحروب متبادلة في غرب السودان, سواء من الحكومة, أو من الجماعات المتمردة, أو الانفصالية, أو الراغبة في اقتسام السلطة مع حكومة الخرطوم.
وما أعنيه بأصحاب الشأن هم العرب والأفارقة, وفي مقدمتهم الشعب السوداني في الشمال والجنوب.. ولست هنا بصدد تقييم قرار المحكمة الدولية قضائيا ضد رئيس عربي إفريقي هو الرئيس البشير, وإن كنا جميعا مع العدالة,
ومع أن ينزل القصاص بكل من ارتكب جريمة, ولكن هذا القرار يعد سابقة خطيرة, إذ لأول مرة يصدر قرار بتوقيف رئيس علي رأس حكومة ونظام, في دولة ذات سيادة هي السودان, مع توجيه اتهامات خطيرة إليه لا تستطيع أي محكمة, مهما أوتيت من كفاءة أو قدرة, أن تتيقن منها, ومن ثم فهناك صعوبات جمة في الحكم سواء بالبراءة أو الإدانة.
كما أن السودان, وما تمثله من نقطة التقاء بين حضارتين( الإفريقية والعربية) وباعتبارها أكبر دولة إفريقية, فإن تعريضها للاهتزاز أو للاضطراب هو جريمة في حد ذاته, ولذلك أطالب القانونيين العرب والأفارقة, أصحاب الشأن في استقرار بلادهم وقارتهم,
أن يقوموا برفع دعوي ضد السيد أوكامبو المدعي العام للمحكمة الدولية, متهمين إياه أنه بهذه الدعوي وبهذا القرار الذي اتخذه ضد رئيس عربي إفريقي, يعرض بلاده للانقسام والتشرذم, ويمهد الطريق للاضطراب, ويفتح باب الجحيم في المنطقة, مستخدما قضية عادلة هي حقوق أهالي دارفور ومعاناتهم, ولكنه يؤدي إلي زيادتها, بل إلي تعريض بلاد كاملة للاضطراب بحجة محاكمة متهم, ولا أبالغ إذا قلت إن المدعي العام في قضية دارفور استبق المحاكمة.. وحاكم الرئيس بالفعل أمام الرأي العام مستخدما منبر المحكمة, كما أن طريقته في الإعلان تستهدف تأجيج الصراعات والحروب في دارفور, وتمهد الطريق للمتمردين وللجماعات للاستمرار في الصراع بدلا من الجلوس إلي مائدة المفاوضات, وإشعال السودان كله وتدمير دارفور,
بما يعنيه ذلك من زيادة معاناة المواطنين السودانيين في غرب السودان وزيادة التهجير والمعاناة.
إن قرار المدعي العام لم يراع مصالح السودان كله, كما لم يراع مصالح أهالي دارفور, بل إنه يمهد لتقسيم السودان بين الشمال والجنوب, ويخيف الجنوبيين ويدفعهم إلي الانفصال وليس للوحدة في الاستفتاء المرتقب.
أقول ذلك وأنا لست راضيا أو متفقا, بل إنني معارض لسياسات الرئيس عمر البشير, ولا أخفي تحميله مسئولية ما يحدث في السودان كله, خاصة في دارفور, فهو بحكم مسئولياته كرئيس, لا يمكن إعفاؤه من المسئولية السياسية, وعليه أن يضع حدا لهذه الحرب, وأن يعمل علي تجميع المنظمات والتحاور معها, كما أنني لا أقبل رد فعل الرئيس السوداني بطرد المؤسسات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة, أو منظمات المجتمع المدني التي تعمل علي تخفيف معاناة أهالي دارفور من الكارثة التي حلت بمنطقتهم, ومن الصراعات الدامية التي أدت إلي ترحيل وتشريد الملايين, وفقد الآلاف من الأبرياء ضحية لهذا الصراع وهذه الحرب المقيتة.
ويجب أن تتضمن صحيفة الاتهام الموجهة إلي المدعي العام الدولي, أنه لا يمكن مقارنة رئيس في نظام عربي أو إفريقي برئيس في نظام أوروبي أو أمريكي, فالأنظمة الأخيرة قادرة علي حماية نفسها من الانهيار في حالة توجيه اتهام لرئيس أو لأحد قادتها.. لكن في حالة عالمنا الإفريقي فإن الرئيس يرتبط بالكبرياء الوطني, وبسيادة الدولة وحريتها واستقلالها, وهي حالة تطور تاريخي, لا يمكن أن تخفي علي المدعي العام الدولي, ولذلك فقد اتهم بأن هذا القرار لم يقصد وجه العدالة, بل قصد مباشرة توجيه ضربة قاتلة لنظام( عربي ـ إفريقي) يحاول الاستقرار, وتلافي الآثار والاضطرابات علي بلاده, ولم يساعدها المدعي العام لمواجهة أزمة دارفور,
بل أراد تعميق المشكلة وتأجيج الصراعات, فلا يخفي الأثر الجنائي والتعمد في الإيذاء الموجه للسودان بقرار المدعي العام, فقد أراد إسقاط النظام ومساعدة المتمردين, والقوة المناوئة لحكومة السودان في تحقيق أهدافها, ومن هنا فإن المدعي العام أدخل نفسه والمحكمة الجنائية الدولية معه كطرف في صراع داخلي سوداني علي السلطة.
كما يجب أن يتضمن الاتهام الموجه إلي المدعي أوكامبو, أنه بقراره الأخير ضد الرئيس البشير, لم يوجه ضربة إلي السودان أو إلي الرئيس السوداني مباشرة, بل وجه ضربة أعتقد أنها ستكون مؤثرة علي نظام المحكمة الجنائية الدولية نفسه, الذي ظهر للوجود في يونيو عام1998 بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لأن التعمد في إيذاء السودان قبل البشير, ظاهر وبين في قرار المدعي العام.
فلا يمكن معالجة عملية نزاع بين القبائل علي أماكن الرعي والسيطرة علي منابع المياه, وهي سمات المجتمعات القبلية, والتي يحاول, عبر التاريخ, أهلها حلها بالطرق العرفية لتسوية المشكلات البيئية والصراعات المحلية.. أقول لايمكن معالجتها بتحويلها إلي قضية إبادة جماعية.
لقد تعرض المدعي العام لخطأ قاتل, لا يهدده بالمحاكمة فقط, بل يجعل العالم كله يتخوف من تأثير هذه المحكمة علي كل المنازعات الدولية, مما يشكك في قدرتها, وينزع نزاهتها وحيدتها, فالحالة الجنائية, التي نحن بصددها, واضحة ولا تحمل اللبس, وستؤدي نتائج قراره إلي عكس ما أراد تماما, بل إنها ضد أهالي دارفور وضد السودان, بل ضد إفريقيا, وتؤثر علي مصالح العرب جميعا.
كما وضع المدعي العام, بقراره, النظام القضائي العالمي كله في موضع الاتهام والمساءلة. وسيكون لويس مورينو أوكامبو متهما أمام العالم وأمام منطقتنا, ولا أريد أن أسطح قراره المثير في عالم السياسة والقانون, وأنه استهوته النجومية والإثارة علي حساب العدالة والقانون, وأنه فضل تهديد سلامة السودان والمنطقة بهذا القرار, بدلا من السعي إلي مواجهة واستئصال أزمة دارفور, ومواجهة الحقيقة, وإعلاء شأن العدالة, وأنه استخدم قضية دارفور في اتجاه معاكس, سوف يسأل عنه مستقبلا.
ولكن أمام السودان والبشير فرصة يجب انتهازها, ليس بالرقص أو المظاهرات في الشوارع أو التنديد, واستخدام الشعارات لمواجهة الاستعمار أو غيرها فكل هذا لن يجدي.
والسودان يستطيع أن يحمي وحدته ويسعي إلي احترام اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل بين الشمال والجنوب, والتي تنسحب علي إقليم دارفور.
السودان عليه أن يسعي إلي عملية السلام الشاملة, وأن يوقف لعبة الحرب في دارفور من ناحية أخري.
والسودان عليه أيضا أن يواجه قرار المحكمة الجنائية بالتفاوض الشامل, وتوحيد السودان لا تمزيقه, وعلي الرئيس البشير أن يستمع إلي السودان كله, ولا ينفرد بقراره, وأن يعمل علي تكريس وحدة الشمال السوداني بلا حساسيات, وأن يكون حكما بين الفصائل المتنازعة, ولا يدخل في المنازعات, وإذا أراد أن يدخل كطرف فيها فعليه أن يترك الرئاسة لغيره ليحمي السودان, وليس ليحمي نفسه, وعلي الدول العربية والإفريقية أن تعين السودان علي حل أزمة دارفور, فهي ليست أزمة هامشية, أو جانبية, بل إنها أزمة لها أهميتها في حفظ بقاء السودان موحدا.
وهنا أؤكد أنني لم أدخل في مجال ازدواجية المعايير فهي بينة وساطعة, ولا تحتاج إلي الإشارة, فكل القضايا الكبري, التي تحتاج إلي تدخل المحكمة الجنائية الدولية, كانت بعيدة حقيقة, وما يستحق المحاكمة هو ما يجري في العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين وآخرها في غزة. فهل يجرؤ أوكامبو علي أن يوجه اتهاما لأي مسئول إسرائيلي عما جري في قطاع غزة في العملية الأخيرة التي لم يجف بعد دماء ضحاياها؟!
كما أنه لا مجال للربط بين قضية رئيس في السلطة, وتأثيره علي بلاده, وقضية رئيسين سابقين حاكمتهما المحكمة الدولية, وهما تشارلز تايلور الرئيس الليبيري, الذي حوكم بجرائم حرب في سيراليون واعتقل في المنفي عام2006, بعد أن ترك الحكم بـ3 سنوات, وميلوسوفيتش الذي اتهم بجرائم حرب في يوجوسلافيا السابقة ضد البوسنة والهرسك خلال حرب عام1998 ـ1999 وحوكم في عام2008.
وإلا فلينتظروا لمحاكمة البشير بعد خروجه من السلطة, حتي يكون الاتهام شخصيا وليس لنظام ودولة واستقرارها بل واستقرار المنطقة كلها.