مصــر وأمريــكا معالم جديدة للسلام الإقليمي

تتسم التحركات السياسية والدبلوماسية المصرية, خاصة زيارات الرئيس حسني مبارك خارجيا ولقاءاته مع قادة العالم داخليا ـ بالدقة, وتحمل في طياتها معاني ودلالات تستمر طويلا, لأنها مبنية علي تقويم عميق للسياسات واتجاهاتها المستقبلية.
فلقد أعلن الرئيس مبارك في لقائه مع ضباط الجيش الثاني أنه لم يزر أمريكا منذ أبريل عام2004 بسبب مواقف الإدارة الأمريكية السابقة, أي أنه قرار مصري ولم يكن أمريكيا. قرار حمل رسالة جدية وعملية للإدارة السابقة بوجهة النظر المصرية في السياسات الأمريكية بالشرق الأوسط خلال السنوات الماضية برغم زيارات الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لمصر والمنطقة.
ومعني قبول مصر بالزيارة الرئاسية لأمريكا في عهد الإدارة الجديدة هو أن هناك اتجاهات يمكن الإبقاء عليها لصوغ وإعادة بعث الشراكة المصرية ـ الأمريكية علي صعيد العلاقات الثنائية والعلاقات الإقليمية, وتحديدا القضية التي تشغلنا جميعا, وهي القضية الفلسطينية, أو ما نستطيع أن نطلق عليه معالم صنع السلام الإقليمي, وتحديدا صنع السلام العربي ـ الإسرائيلي, والمرتبط فلسطينيا بمبدأ الحل الدولتين, وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة علي الأراضي المحررة من احتلال1967, واستكمال الانسحابات الإسرائيلية علي الصعيدين السوري واللبناني.
وتضاف قضية جديدة للسلام الإقليمي هي الموقف العربي الذي تمثله مصر وشقيقاتها العربيات ـ من الخليج إلي المغرب ـ من قضية الملف النووي الإيراني التي أصبح لها تأثير واضح علي السياسات الإقليمية بأبعادها المختلفة, ومن المهم أن نؤكد هنا أنه كان من أسباب الاختلافات المصرية ـ الأمريكية في إدارة بوش الإبن الرفض المصري للحروب في المنطقة العربية واتساعها, وتحديدا في العراق, وفي أسلوب معالجة الملف الإيراني بالأساليب القديمة.
وبالتالي فلا داعي للنفخ في الصراعات الإقليمية, والإشارة إلي أن العرب متضررون من النهج الأمريكي الجديد لإقامة علاقات مع إيران, أو أسلوب إدارة الملف الإيراني, فالعرب يتضررون بالحروب والعقوبات علي الشعوب في منطقتنا, أما عن الحلول السلمية والتفاوض, فقد كان المصريون أول من طالبوا بذلك, واعتبروه منهجا يجب أن يستمر في العلاقات الدولية.
إن رحلة الرئيس مبارك لواشنطن تحمل هموم المنطقة, باعتباره القائد الموثوق به مصريا وعربيا, بل عالميا لصياغة السياسة المستقبلية وعلاقات دولنا وشعوبنا في المنطقة بالقوي الكبري, باعتباره ايضا الشريك القادر علي التعبير عن طموحات الشعوب العربية, بل منطقة الشرق الأوسط كله في كيفية صنع السلام وحل المشكلات المزمنة التي أوجدتها أخطاء الإدارة السابقة سواء في حرب العراق أو تداعيات ما سمي الحرب علي الإرهاب, وما سببه من خلافات وهوة عميقة في الثقة ليس مع الأمريكيين وحدهم ولكن أيضا ما بين الغرب والشرق كله.
………………………………………………………….
وتجيء الرحلة المصرية الجديدة في دقة توقيتها, حيث تبدو إدارة أوباما بصدد صياغة السياسات, تمهيدا للوصول إلي استراتيجية مختلفة للتعامل مع قضايا السلام والعلاقات البينية الإقليمية بين دول الإقليم الأصعب عالميا سواء في قضية فلسطين أو أفغانستان وباكستان وصولا إلي إيران.
ومصر ـ مبارك كعادتها دائما في علاقاتها الدولية قادرة علي صياغتها بدقة ووضوح كاملين يعكسان الثقة, والشفافية الكاملة, حيث تقوم بدورها كاملا علي الصعيد الفلسطيني باستمرار المحاورات والمفاوضات بين الفصائل الفلسطينية لتوحيدها والوصول إلي اتفاق بينها, وصولا إلي حكومة موحدة بين( الضفة وغزة), تحظي بالاعتراف الدولي والقدرة علي تحقيق مصالح الفلسطينيين
والوصول أيضا إلي معرفة كاملة بالاتجاهات الإسرائيلية لحكومة بنيامين نيتانياهو عبر مباحثات مكثفة, تجريها في إسرائيل, وعبر لقاء بين الرئيس مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد, لكي يتم استقراء المواقف الإسرائيلية المتغيرة علي الأرض وكيفية التعامل معها مستقبليا, إنه عمل سياسي دقيق يستطيع أن يسبر غور الأحداث, ليصل إلي سياسة تحقق المصالح العربية عبر التوفيق بين المتعارضات
ولا يقف أمامه حائل حتي ولو كانت حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل, تقودها عناصر ضد السلام والاستقرار الإقليمي, هذه هي السياسة التي تحقق الهدف وتكشف المتطرف أيا كان كنهه إسرائيليا أو عربيا.
.. سياسة لا تلعب علي الشعارات أو الأوهام أو تخدير الشعوب, عبر حملات وسيناريوهات لا تبغي شعبية زائفة أو تؤثر علي سلامة وحقوق الشعوب فاكتسبت مصداقية عالية ليس لدي الحكومات فقط, بل عبر الشارع العربي كله.
ولعلنا هنا نشير إلي آخر ما حققته السياسة المصرية في حفظ مصالح الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم بعد العدوان الإسرائيلي الغاشم علي غزة, حيث كان للسياسة المصرية مصداقية عالية لدي العرب والأوروبيين, استخدمها الرئيس مبارك بحنكة بالغة لوقف العدوان, وحشد المجتمع الدولي من جديد لإعادة إعمار غزة, وإعادة الاعتبار لسياسة حل الدولتين, والمكانة والاعتبار للقضية الفلسطينية علي كل المستويات.
وها هو مرة أخري يستعد لعبور جديد لإعادة خلق صياغة أمريكية قوية, تكون قادرة علي دفع عملية السلام نحو أفق مختلف, لا يهمل معالجة المواقف الإسرائيلية برغم تطرفها عبر توجيهها للمسار الوحيد للتسليم بحقوق الفلسطينيين, فلا جدوي للقوة أو العنف, فمهما بلغا, لن يحققا أهدافهما.
………………………………………………………………..
هذه هي السياسة الحقيقية التي تعيش وتحقق الأهداف, ونعتقد أن المؤشرات القادمة من واشنطن ومن الرئيس الأمريكي باراك أوباما تسمح بالبناء عليها, ولعلنا نذكر هنا كل الذين راهنوا علي أن قضية الشرق الأوسط, لن تحتل الأولوية التي تستحقها لدي الإدارة الأمريكية في عصر الأزمة الاقتصادية, واتساع الحرب في أفغانستان, وإستعداداتها للانسحاب من العراق..
نذكرهم بأن خطوة دعوة مصر والفلسطينيين والإسرائيليين من الرئيس أوباما, كل علي حدة للتفاوض حول ملف السلام, هي مؤشر ثان إيجابي كبير بعد تعيين مبعوث أمريكي محترم هو السيناتور جورج ميتشيل للملف الفلسطيني علي نفس مستوي تعيين مبعوث للملف الإيراني, يعكس أن تكامل الصورة لدي الإدارة الأمريكية الحالية مختلف عن سابقاتها, وأن حالة الفرز في السياسات الأمريكية التي تجري حاليا تفتح مجال الرؤية لتغيير حقيقي في السياسات الأمريكية المستقبلية, وعلي دولنا العربية أن تأخذه بجدية كاملة خاصة الفلسطينيين, للوصول إلي الحل التاريخي الذي نتطلع إليه بدون إهدار الفرصة المتاحة.
وإذا استطاع الفلسطينيون وباقي الأشقاء العرب التعاون مع السياسة المصرية المتكاملة, فسوف نستطيع أن نصل إلي حقائق جديدة, تجبر الإسرائيليين علي الانسحاب والاعتراف بالدولة الفلسطينية المرتقبة في عبور سياسي لايقل قيمة وقوة عن العبور العسكري في عام1973, ذلك العبور الذي فتح آفاق السلام والاستقرار للمنطقة العربية.