ثـورة ضـد الفقـر

رغم قنابل الدخان الكثيف التي هي أبرز سمات الشارع المصري في عصر الحرية, فإن مصر تمضي في طريقها إلي الأمام خلال العامين المقبلين, فعام2010 يطرق الأبواب بعنف, ففي منتصفه انتخابات مجلس الشوري, وفي نهايته انتخابات مجلس الشعب.. وهناك من يسارعون بوضع عام2011 علي مائدة السياسة المصرية, لعمل بروفات للانتخابات الرئاسية!
وكل فريق من هؤلاء وأولئك لا ينظر حوله أو أمامه, ولكنه ينظر تحت قدميه, فلا يري إلا ما يريده, وكأنهم مثل المراهقين, أو إذا شئنا الدقة, فهم من اللاعبين الجدد, والباحثين عن أدوار, أما القدامي منهم فتحصنوا في شخوصهم, وغابت عنهم الرؤية الحقيقية, وتجاوزتهم الأيام.
وسط كل هذا تفاجئنا حادثة قطار مؤلمة, لم ينتظرها أحد.. في وقت كانت فيه التوقعات بل إعلانات وزارة النقل تبشر المواطنين بعودة عصر الأمان إلي السكك الحديدية, بل وتجاوزت هذه الإعلانات واتهمت الأغلبية بالعبث, وعدم المشاركة, بعد التطوير والاستثمارات التي ضخت في السنوات الأخيرة في هذا القطاع الحيوي لنقل المواطنين, والذي كانت فيه لمصر خبرة طويلة
باعتبارها ثاني أقدم بلد في العالم عرف هذه الوسيلة الآمنة, ثم طالتها أيدي الإهمال, مثلها مثل الكثير من المرافق التي تأثرت بقلة الموارد والظروف الصعبة التي سادت مصر في الستينيات والسبعينيات.
وفجأة انتفض الوطن, رافضا الحادث والإهمال, مهما تكن الظروف, وجرت الأحداث بسرعة, وامتدت التحقيقات الجنائية والسياسية, ورأينا كل من تورط أو أهمل يدفع الثمن وبسرعة وحسم.. استقال وزير النقل محمد منصور, وتحمل مسئولياته السياسية, وتوالت السلسلة.. فرئيس هيئة السكك الحديدية يقال.. والنيابة تسجن المتورطين والمتهمين بالإهمال والتقاعس.
هذا كله يتم في شهر النصر أكتوبر, والمصريون, وفي طليعتهم قواتهم المسلحة, حريصون علي استمرار الفرحة في قلب الوطن بهذا النصر العزيز الغالي علينا جميعا, فهناك من يشكك, وهناك من يريد أن يدخل اليأس في قلوبنا.
نظمت وزارة الدفاع احتفالية بسيطة, لكنها رائعة في مضمونها ومغزاها, فعلي ضفاف القناة.. وعلي الضفة الأولي من سيناء الغالية التي استرددناها حربا وكفاحا.. وفي موقع معركة الدبابات القاسية, شهدنا وشهدت مصر, في حضور قائدها وبطلها الرئيس حسني مبارك, إعادة تمثيل معركة العبور في الموقع الحي بكل الآليات العسكرية, من طائرات ودبابات ومشاة وصواريخ.. مصحوبة بعمل فني بديع, ولكنه عسكري في الوقت نفسه.
في ذلك الوقت تمنيت من كل قلبي أن تكون مصر كلها حاضرة.. وقادرة علي مشاهدة هذه الاحتفالية البسيطة العميقة, حتي في عنوانها السلام عايز سلاح فهي تحكي قصة المصريين في كفاحهم من أجل تحقيقه, وتجاوز الهزائم والمحن, وتجسد قدرتهم علي التكاتف, وتجميع الكل نحو الهدف.
صورة نادرة وعقلية متكاملة. وبرغم التقنيات التليفزيونية العالية, فإنها لم تكن تستطيع الإلمام بالصورة كاملة في الموقع كما هي, ولكنها معبرة للآلاف الذين شاهدوها, من طلاب الكليات العسكرية, وجنود الجيش المصري, والحاضرين من ممثلي فئات الشعب, فأدركوا معني القوة في مصر, ومعني أن مصر دولة مؤسسات حصينة لا يمكن تجاوزها.
صورة تقول لكل من يفكر في المساس بوطننا واستقرارنا ووحدتنا وقوة مصر, إنكم واهمون ومخطئون, وعليكم أن تفكروا كثيرا, فمن يتعرض لسيادتنا أو أرضنا أوحقوقنا لن يتمكن منها وسيدفع ثمنا غاليا, فقد تجاوزنا الهزائم والانكسارات, وأصبحت تحكمنا العقول القادرة والرؤية المستنيرة.
كل الظواهر التي ترونها في مصر اليوم لا تعكس إلا عنصر القوة, والتغيير الحقيقي في الوطن ومؤسساته, وتفاعله مع المستقبل.. واستثمارنا لإصلاحاتنا, وحرياتنا السياسية, وتطورنا الاقتصادي.
………………………………………………………
لا أستطيع أن أغفل تطورا سياسيا بارزا آخر يحدث في مصر اليوم وغدا ولمدة ثلاثة أيام, وهو مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي ـ الحاكم ـ فهو ليس مؤتمرا عاديا, لأن الحزب الوطني ليس مجرد حزب, كما يحاول البعض أن يصفه, فهو مازال الأكبر والأكثر قوة علي توحيد المصريين, وحشدهم نحو التطور والنمو, بل إنه الحزب الذي يبني النظام السياسي, ويكرس التعددية في المجتمع المصري بعد سنوات طويلة من الغياب, وسيطرة الحزب الواحد, فهو الحزب الذي يحمي مصر من الفوضي, أو الانحراف بعيدا عن أهدافها, وهو أيضا الحزب الذي يحمي المجتمع من الانجراف نحو سيطرة الأفكار الدينية والراديكالية والمتطرفة علي السياسة المصرية التي تدفع المجتمعات, التي تصاب بهذه الآفات الفيروسية الخطيرة, إلي الانهيار والفشل.
.. وهو أيضا الحزب الذي يقوده رئيسنا مبارك, وهو ليس رئيسا عاديا في تاريخنا, فهو بطل أكتوبر, وباني مصر الحديثة.. وصانع مؤسساتها المتطورة, ولكل هذا يستحق الحزب الإشادة به, لنوعية الموضوعات والقضايا التي يطرحها, وامتلاكه القدرة علي الابتكار, ووضع السياسات الواعية التي تتناسب مع درجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر, وهو لايتوقف عن الجديد, وهذا هو المؤتمر السنوي السادس بعد تطويره في عام2002, وهناك مؤتمر عام آخر شامل كل4 سنوات.
وقد حضرت اجتماعات متتالية لرصد المتغير الجاري بعد سبعة مؤتمرات, وتصورت أن الحزب الوطني, هذا العام, سيركز سياساته في عامي الانتخابات, فوجدته يتجه نحو قضية نبيلة, وهي مكافحة الفقر بكل أشكاله, وهو ما يتطلب أن تقف الأمة كلها معه لإنجازها, ليتغير وجه الحياة في مصر.
وبالرغم من الأوراق الكثيرة والمتشعبة والعلمية, التي تتناول دقائق وتفصيلات السياسة المصرية في عام, لتحديث مصر وتطويرها واستمرار الدفعة القوية لاقتصادها, فإن الخيط الجامع لمؤتمر2009 هو مكافحة الفقر, والإعلان بقوة عن أن الدولة المصرية, بكل إمكاناتها, ستقف مع محدودي الدخل إلي آخر مدي في أكثر من مجال, أهمها علي الإطلاق مشروع الألف قرية الأكثر فقرا, ومشروعات مكملة لزيادة الضمان الاجتماعي والمعاشات بنسب معقولة, والتوسع في البطاقات التموينية, ورفع كفاءة الدعم المقدم, بحيث يصل إلي مستحقيه عبر سياسة الاستهداف المباشر.
خطط جديدة متطورة ومؤثرة في معالجة قضية خطيرة ومتوطنة في مصر, كان من أسبابها تأخر عمليات الإصلاح الاقتصادي لسنوات طويلة, والاعتماد علي الحكومة في إدارة الاستثمارات, ومن المعروف أن قدرة الحكومات علي زيادة الإنتاج, بشقيها الإنتاجي والخدمي محدودة, وكنا في حاجة إلي مشاركة مجتمعية في دفع عملية التحول الاقتصادي, وزيادة قدرة القطاع الخاص علي التحول, وجذب الشركات الخاصة والأجنبية لزيادة الاستثمار, لكن عملية التحول تأخرت, وكان لتردد المجتمع طويلا في حسم خياراته الاقتصادية تأثير علي سرعة العمل, والأداء للتخلص من الفقر بكل أشكاله في مصر.
ومعروف أن هناك ارتباطا وتناسبا طرديا بين قدرة المجتمع علي النمو وتطوير الاقتصاد ومكافحة الفقر ومساعدة الطبقات الأكثر فقرا.
ونشير هنا إلي قدرة الاقتصاد المصري, بعد سنوات قليلة من استمرار عملية النمو الاقتصادي, علي تدبير الموارد المالية التي يوجهها اليوم الي استثمارات خدمية في القري والمدن المصرية, فقد استطاع في العام الماضي( عام الأزمة الاقتصادية العالمية) أن يرصد10 مليارات جنيه لمكافحة الأزمة, وهذا العام يخصص المبلغ نفسه10 مليارات جنيه, وكان قد خصص مثلها العام الماضي لمواجهة النقص في المياه, وهذا العام لمواجهة مشكلات الصرف الصحي, وسيكون لهما تأثير كبير علي مستقبل القري والمدن المصرية.. وحياة الناس فيها.
ولاستكمال قاعدة الإصلاح الاقتصادي في مصر, فإن الحزب الوطني حشد طاقاته لإحداث تغيير جوهري في الإنتاج الزراعي المصري, ليس لمساعدة الفلاح فقط ـ( كما ذكرت في مقال سابق عن متغيرات مؤتمر الحزب الجديد ـ ولكن للنمو في هذا القطاع الحيوي الاقتصادي, الذي يشكل بالنسبة للاقتصاد المصري الساحة الكبري, ومنها الصناعة التي تطورت في السنوات الماضية بشكل ملحوظ, وحصلت علي اهتمام متزايد, لم تحصل عليه الزراعة المصرية من قبل فقد استمرت علي منوال الماضي نفسه, ولكن الزراعة في مصر تحتاج إلي استثمارات كبيرة في كل المجالات التي تمر بعملية الإنتاج.. فالفلاح يحتاج إلي المساعدة ليحافظ علي الإنتاج, بزيادة أسعار المحاصيل, وثباتها, وعدم اهتزازها, علي أن تكون هناك عملية تسويق جديدة للإنتاج, وأن تعطي الحكومة الأولوية للمنتجات الغذائية, بدلا من الاستيراد في سلع مثل القمح, والذرة.. والفلاح في حاجة إلي عودة القطن المصري إلي عرشه, والاهتمام بتصنيعه محليا, وفتح الأسواق أمامه عالميا.
الفلاح يحتاج إلي تخزين الأذرة( الصفراء والبيضاء) لتستمر لديه طوال العام, تلبي احتياجاته الغذائية. وهو يحتاج إلي سياسة ثابتة لتسعير الأرز, وأن يحصل علي نسبة من عائد تصديره المرتفع, وأن تدفع الحكومة ثمن انخفاض أسعاره في السوق المحلية, فليس الفلاح هو المسئول عن دعم أسعار الأرز.
أما الفلاح في الصعيد فيحتاج إلي سياسة مناسبة لحماية( قصب السكر والبنجر).. والفلاح عموما يحتاج إلي مساعدة في الانتقال إلي التصنيع الزراعي, ليرفع قيمة منتجاته, ويزيد قدرته علي المنافسة في التجارة الداخلية والخارجية.
بل إن إنتاج الدواجن واللحوم والألبان والبيض يحتاج إلي دراسة مستفيضة, وأن يحصل المنتجون علي حقوقهم لاستمرار الإنتاج.. والفلاحون والمنتجون في عالم الزراعة لم يندثروا, ولم يصبحوا صوتا من الماضي, بل مازالوا صوتا قويا مؤثرا, ليس في إنتاج الغذاء ومنتجاته في مصر فقط, بل في حفظ الاستقرار للوطن, ونموه, وانتقاله إلي وضع أفضل في سلم الأمم المنتجة لاحتياجاتها.
ويبدو أن صوت الفلاحين وصل إلي المؤتمر السادس للحزب الوطني الديمقراطي.. وقد استمعت إلي جمال مبارك أمين السياسات, وهو يتحدث عن الحاجة إلي الاستثمار في مجال وفرة مياه الري في الترع, لتصل إلي مزارعنا بعد أن طالها الإهمال, حتي أصبحت شحيحة في الأطراف الزراعية, فأدركت كيف أصبحت حقائق الأمور واضحة أمام الحزب الوطني لإحداث طفرة في الإنتاج الزراعي, ورفع دخول الفلاحين والمزارعين, فالمياه هي العنصر الحاكم لزيادة الإنتاج الزراعي في ريف مصر.
وزيارات أمين السياسات إلي القري والتحامه بالفلاحين المصريين, جعلت مشروع الألف قرية يأخذ كامل الاهتمام لدي الحكومة.. وهو مشروع مؤثر في حياتهم لتوفير الخدمات.
أما مشروعه الجديد فهو الاهتمام بالإنتاج الزراعي, وتلبية الاحتياجات للفلاحين.. وسيكون له تأثيره الجوهري علي مكانة القرية المصرية ومستقبلها, وفي الوقت نفسه مكانة الإنتاج الزراعي, الغذائي في سلم الإنتاج المصري.
هذه هي صورة ما يحدث في مصر الآن.. عمل حقيقي من كل المؤسسات, للانتقال ببلادنا إلي وضع أفضل علي صعيد الاقتصاد.. والاهتمامات المباشرة باحتياجات الناس.. سياسة جديدة لا تتسم برد الفعل, ولكن بالفعل والابتكار, لإحداث تغيير حقيقي في حياة الناس, بلا رفاهة الاستسلام لرغبات النخب, وترفها السياسي, وجلسات الصالونات, أو أمام كاميرات التليفزيون لإرضاء أطراف داخلية أو خارجية, أو لدغدغة مشاعر الأعصاب الملتهبة, أو التلاعب باحتياجات الناس ورغباتهم وطموحاتهم المشروعة, فهذا عمل حقيقي يلبي رغبات المحتاجين, ويضمن لأغلبية المصريين حياة مستقرة من خلال برامج دقيقة تنفذ علي أرض الواقع.
……………………………………………………..
ولم أنس أن برنامج الرئيس الانتخابي قد تجاوز بمعدلاته ـ بعد4 سنوات من التنفيذ ـ أكثر من80% في كل المجالات, وقارب علي الانتهاء, ولكن احتياجات الوطن ورغبات المواطنين المتجددة فرضت علي الحزب سياسات جديدة.. أقنع بها حكومته, ودفعها إلي السير فيها.. فتجاوزت أزمة الغذاء العالمية والأزمة الاقتصادية العالمية, وحافظت علي معدلات النمو, بل جعلتها قادرة علي مساعدة المواطنين المحتاجين, وأعطت القدرة علي مد شبكات الأمان, وإبداع سياسات اقتصادية لحفظ قدرة الوطن علي الانتقال إلي وضع أفضل للمواطنين.
ولا يعني ذلك انتهاء مشكلاتنا أو تجاوزها, فهي متجددة ومستمرة نتيجة النمو السكاني, والتأخر طويلا في السير في برامج إصلاحية, نعترف بقسوتها, وشدتها, فهي تحتاج إلي بنية تحتية, بل بشرية قوية, لم تكن جاهزة أو قادرة مقارنة بغيرنا, ولكننا لم نتوقف, بل معدلاتنا في النمو والتطور الاقتصادي والسياسي, إذا قارناها, بالإنصاف والموضوعية طبقا لظروفنا الخاصة التي نعرفها جيدا, وطبقا لظروف المنطقة التي نعيشها, ومتغيراتها شديدة التعقيد والمشاكل في داخلها والمستوردة من خارجها, سنكشف عن قدرة متزايدة للمصريين وقياداتهم.
وعلينا أن نعترف بهذه القدرة لإنها طريقنا للاستمرار في عالم صعب, ومنطقة أصعب, ولا تشير الصورة الحالية إلي تغيرها قريبا, وإنما سلاحنا الذي نعرفه, وهو التكاتف بوحدة المصريين, ومعرفة الهدف, ووقف الفوضويين, أصحاب المصالح الشخصية عند حدودهم, وتعليم الجميع أن مصالح مصر والمصريين أولا.
Osaraya@ahram.org.eg