مقالات الأهرام اليومى

من جـنيف‏..‏ التجـارة في عـالم مـأزوم‏..‏ أوهام ومخاوف استفتاء المآذن السويسرية‏!‏

تابعت عن قرب في جنيف عاصمة الأمم المتحدة الأوروبية‏.‏ حدثين علي جانب كبير من الأهمية لبلادنا ومنطقتنا وللعالم الإسلامي‏..‏

الأول‏:‏ حول مستقبل التجارة مع استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية من خلال وزراء التجارة لمنظمة التجارة العالمية‏WTO‏ وهي المنظمة التي ترقب لها العالم شأنا كبيرا حتي فشلت جولات مفاوضات الدوحة في خلق نظام تجاري متعدد الأطراف‏..‏ ومازالت متعثرة حتي الآن‏..‏ ولم يكشف الاجتماع الأخير عن متغير مختلف في هذا الاتجاه‏.‏

والثاني‏:‏ هو استفتاء شعبي في كل أنحاء سويسرا‏..‏ ذلك البلد الصغير البالغ تعداده‏7.5‏ مليون نسمة‏..‏ وقد شدنا إليه حزبان يمينيان متشددان هما‏:‏ حزب الشعب وحزب الاتحاد المسيحي‏..‏ لحظر إقامة المآذن في مساجد المسلمين السويسرية البالغ عددهم‏400‏ ألف نسمة والذي جاءت نتيجته مفاجأة للحكومة السويسرية بل ولأغلب المقاطعات‏,‏ وهو اتجاه لم يكن واضحا في كل استطلاعات الرأي العام التي سبقت الاستفتاء برفض إقامة المآذن‏,‏ وهو ماكشف عن جانب عنصري ومعاد للإسلام‏,‏ لأن سويسرا بلد فعلا بلا مآذن فهناك‏4‏ جوامع فقط بمآذن‏,‏ وجاء تصويت أغلب المقاطعات الناطقة بالفرنسية‏..‏ برفض الفكرة بينما ايدت المقاطعات الناطقة بالألمانية‏..‏ وهي المقاطعات المعادية للأجانب بشكل عام‏..‏ بل إنها هي نفسها المقاطعات التي رفضت انضمام سويسرا للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة‏.‏

وإذا استخلصنا نتائج الحدث الأول الذي سوف يعيش معنا طويلا نجد أن انعقاده في هذه الأيام يعكس الأهمية التي احتلها‏,‏ فهو المؤتمر السابع‏,‏ وجاء بعد‏4‏ سنوات علي المؤتمر الذي سبقه في هونج كونج‏..‏ التأخير جاء بعد الاحباط الذي أصاب تلك المنظمة بعد فشل مفاوضات الدوحة‏..‏ وكان هدف الاجتماع الأخير هو النهوض بالتجارة والاقتصاد بعد انهيارهما نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية‏,‏ والاستفادة من تعزيز التجارة كوسيلة للخروج من هذا المأزق الاقتصادي‏.‏ كما يهدف إلي التوصل لوسيلة لتقييم الوضع التجاري المتحقق للوصول إلي اتفاق نهائي حول جولة الدوحة‏,‏

وظهر في الاجتماعات حرص كل الدول علي نقل رسالة واضحة وقوية حول قلق تلك الدول من تعثر مفاوضات تحرير التجارة‏..‏ وأيضا حول رغبة الدول الافريقية حيث قاد الوزير رشيد محمد رشيد المجموعة الإفريقية ببراعة وقوة في التعبير عن اتجاهاتهاحول رغبة إفريقيا في فتح أسواق الدول المتقدمة أمام منتجاتها وعبرت مصر بقوة عن أن أحد محركات النمو لإفريقيا هو التجارة‏..‏ حيث إن الفشل في تفعيل أجندة الدوحة والأزمة المالية العالمية قد تسببا في انخفاض الاستثمار الخاص بنسبة‏40%‏ عام‏2008‏ وفي بلوغ خسائر إفريقيا من الصادرات إلي‏251‏ مليار دولار في عام‏2009.‏

وكانت هذه الاجتماعات فرصة كبيرة لإظهار مكانة مصر الاقتصادية في عالمها الآن‏..‏ حيث تقود إفريقيا والمنطقة العربية بما أهلها لتنضم إلي مجموعةالـ‏15(G15),‏ وهي المجموعة التي تقود مفاوضات التجارة علي مستوي العالم مع الدول الكبري أمريكا وأوروبا وكندا واليابان والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ونيوزيلندا‏.‏

والذي أهل مصر لذلك ليس مكانتها الاقتصادية والتجارية‏,‏ فمصر بلد صغير في هذا المجال‏(70‏ مليار جنيه‏)‏ وهو ليس كافيا لاحتلال هذه المكانة العالمية في الاقتصادات الكبري‏,‏ ولكن سمعة مصر السياسية وقدرتها علي الحركة والتأثير منحاها هذه المكانة السامية وسط اقتصادات العالم المتقدم‏.‏

وهذا يجعلنا نتمسك باستمرارية الحفاظ علي عمليات الإصلاح الاقتصادي حتي يكتمل جناح التطور وزيادة المكانة والدور في عالمنا المعاصر‏..‏ الذي أصبح إلي حد كبير مرهونا باستلهام نماذج التطور العالمي والسير فيها‏..‏

وكل النماذج التي حققت تطورها مثل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والصين والهند والبرازيل كان العنصر الأساسي في نجاحها هو قدرتها علي الاستفادة من التجارة العالمية‏(‏ استيرادا وتصديرا‏)‏ والعبرة في ذلك باستيعاب أسس التجارة العالمية والاندماج في منظومتها‏.‏

ومصر مؤهلة‏,‏ كما يصف الوزير رشيد محمد رشيد‏,‏ مهندس إدارة التطوير الصناعي وزيادة منتجاتنا وخدماتنا بشكل عام وربطها باقتصادات التجارة العالمية‏..‏

حيث استطاعت في سنوات وجيزة ـ من‏2004‏ وحتي الآن ـ أن تعطي نتائج مهمة‏,‏ فقد وصلت إلي مستوي متوازن مع معظم الدول الكبري‏..‏

وأصبحت تنفذ بروتوكولات التجارة التي توقعها علي أرض الواقع‏.‏ ويقول الوزير رشيد إنه استفاد من وزن مصر السياسي ودورها الرائد علي المسرح والقيادة البارزة والمعتدلة التي يعطيها الرئيس حسني مبارك لدول العالم‏..

‏ فلقد سخر الدور السياسي لتعظيم إمكانات مصر الاقتصادية في عالمها علي مستوي العالم المتقدم وإفريقيا والمنطقة العربية‏,‏

كما أن ربط منظومة الصناعة مع التجارة جعلنا نتساوي مع الدول الكبري التي سبقتنا في هذا المضمار‏.‏ فالتوازن بين الاثنين يعطي القدرة علي الدخول في الأسواق العالمية‏,‏ ولاشك أن زيادة قدراتنا الإنتاجية والتنافسية جعلت مصانعنا قادرة علي المنافسة‏.‏

ويقول المهندس رشيد محمد رشيد إننا وضعنا ما طرحه الرئيس مبارك من أن التصدير حياة أو موت لاقتصادنا موضع التنفيذ‏,‏ وأصبحت فلسفتنا هي التصدير من أجل التصدير‏..‏ وعلي مدي السنوات الخمس الماضية أصبحت كل أرقامنا الاقتصادية في تتزايد مستمر‏..‏

فلقد تضاعفت تجارتنا الخارجية‏,‏ استيرادا وتصديرا‏,‏ بما استتبع تطوير موانينا ومطاراتنا وشبكات الطرق المصرية‏.‏

ولأن محصلة التجارة هي كل الأنشطة الاقتصادية في بلادنا‏,‏ فقد حدث النمو المتواصل في مصر‏,‏ ويجب أن نحافظ عليه حتي في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي هي مرشحة للاستمرار للعام المقبل والتي تمثل ضغطا علي الاقتصاد والأسواق التي قد تنكمش‏.‏

فلكي يصل الاقتصاد إلي أهدافه يجب أن يستمر التصدير وفتح الأسواق فهي التي تخلق الجودة التي هي مفتاح الإصلاح الحقيقي‏.‏

وقد وجدنا في اجتماعات منظمة التجارة العالمية‏153‏ دولة كلها تتنافس وتبحث عن الأسواق‏,‏ وتريد أن تكسب في مسابقة القدرة علي الوجود في الأسواق‏..‏

وأمام المنتجين المصريين فرصة كبيرة لمزيد من العمل والإنتاج سواء في المجالين الصناعي أو الزراعي وجودة الخدمات خاصة في مجال السياحة الذي تحتل فيه مصر مكانة مرموقة الآن‏..‏

ومصر سوف تعالج الخلل من أسعار الحاصلات الزراعية العالمية وهي تدفع الجهود في هذا الاتجاه لخلق بيئة مناسبة لإنتاجنا في الأسواق العالمية‏,‏

ولكن التحدي الحقيقي هو تطوير الزراعة فالمعركة الحقيقية هي تكنولوجيا الزراعة وكفاءة الإنتاج والإنتاجية‏.‏

وقد أوضحت مناقشات الأعضاء أن الأزمة العالمية قد أظهرت عدم ملاءمة القواعد التجارية التي تم الاتفاق عليها في أوائل التسعينيات

مع الأولويات التنظيمية المعاصرة التي تتعلق بالنظام المالي العالمي‏,‏ وأن هناك خطرين لابد من تجنبهما خلال الأشهر القادمة‏..‏

الأول‏:‏ يتعلق بزيادة القيود علي التجارة‏,‏ وحتي إذا كان أثر كل قيد علي حدة ضعيفا فإن تراكم تلك القيود يحد من فاعلية السياسات التي تهدف إلي رفع الطلب وإعادة النمو العالمي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كلما تبنت الدول إجراءات طويلة المدي مقيدة ومشوهة للتجارة عزز ذلك بقوة المصالح الاقتصادية الخاصة‏,‏ وأصبح من الصعب التغلب عليها في المستقبل

وأنه يجب تأكيد أن تحرير التجارة لابد أن تصاحبه قواعد عادلة وسياسات داخلية تتيح شبكات أمان اجتماعي للعاملين وذلك لمواجهة الأزمات العالمية المعاصرة‏.‏

وأوضحت التقديرات أن إنهاء جولة الدوحة يوفر نحو‏220‏ مليار دولار كل عام للدول المتقدمة والدول النامية معا‏..‏

ـ كما أظهرت المناقشات أن عام‏2009‏ شهد أكبر انخفاض في التجارة العالمية بنحو‏10%,‏ وهو أقوي انخفاض منذ الحرب العالمية الثانية‏.‏

ـ مازال الاتحاد الأوروبي وأمريكا القوي المحركة للاقتصاد العالمي حيث يمثلان نصف الناتج المحلي‏,‏ الذي يبلغ‏60‏ تريليون دولار‏,‏

كما يساهمان بنحو‏4,4‏ تريليون في التبادل التجاري محققين‏14‏ مليون فرصة عمل‏..‏

ـ يتوقع أن يكون صافي تدفقات رأسمال الدول النامية سالبا بنهاية العام الحالي‏2009‏ كما ينخفض الاستثمار المباشر بنحو‏30%.‏

ـ يقع الاقتصاد الصيني في الترتيب الثالث‏.‏

ـ انخفضت صادرات هذه الدول المتقدمة والنامية بنحو‏14%‏ و‏7%‏ علي التوالي‏.‏

ـ تشير تقديرات البنك الدولي إلي أن‏89‏ مليون شخص إضافي سوف ينتهي بهم الحال إلي الفقر الحاد بنهاية عام‏2010‏ نتيجة بطء الاقتصاد العالمي‏.‏

سوف يكون من الصعب تحقيق معدلات النمو الطبيعي نتيجة لانخفاض الطلب‏,‏ وهو الأمر الذي يمثل المشكلة الجوهرية في الوقت الحالي‏.‏ كما أن بعض المنظمات العالمية تتوقع أن معدلات النمو لن تكون بالقوة التي تسمح بتخفيض معدلات البطالة التي ينتظر أن تستمر لبعض الوقت في العام المقبل‏.‏

ـ وهو ما يجعلنا ننادي باعتماد التحفيز المالي وتحفيز السوق المحلية في العام المقبل في مصر وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي وتحسين مناخ الاقتصاد والاستثمار ودعوة المنتجين إلي العمل الجاد مع الحرص علي العائد الأقل حتي يتحسن مناخ المنافسة والاستمرارية‏.‏

ـ تفعيل السوق المحلية والاستهلاك المحلي حتي تنشط وتكون بديلا مناسبا لتنشيط الاقتصاد‏.‏

هذه صورة واضحة من جلسات مؤتمر منظمة التجارة العالمية لأوضاع الاقتصاد المصري وتطوراته وارتباطه بالاقتصاد العالمي‏.‏

..‏ أما الموضوع الثاني والخاص باستفتاء المآذن في المساجد السويسرية فيجب دراسته تفصيليا

ولأن سويسرا هي بلد الاستفتاءات الشعبية في كل قضية صغيرة كانت أو كبيرة‏.‏ فموافقة مائة ألف من السكان ـ البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة‏-‏ علي طرح قضية ما للاستفتاء ملزمة بإجراء التصويت الشعبي عليها‏..‏

فعلها السويسريون عشرات المرات وسوف يفعلونها مرات ومرات في قادم الأيام‏.‏

والاستفتاء الأخير علي حظر بناء مآذن للمساجد يدخل في نطاق هذه الممارسات الديمقراطية التي هي شأن سويسري خالص‏..‏ صحيح أن نتائج هذا الاستفتاء وضعت الإسلام والمسلمين في حلقة جديدة من مسلسل لم ولن يتوقف من الكراهية والحقد ضد هذا الدين بأسباب بعضها تاريخي من عصور حروب التوسع‏,‏ وتسييس الدين وتسليحه‏,

‏ وبعضها معاصر بنمو القوي اليمينية المتشددة علي المسرح السياسي والخطايا الآثمة لبعض المسلمين المعاصرين‏.‏

وفي التعامل مع هذه النوعية من القضايا يتطلب الأمر شيئا من التروي والغوص وراء أعماق المشكلة والإلمام بمختلف جوانبها‏,‏ بدلا من اختزالها في مشاعر غضب تفور وتثور ثم تهدأ في انتظار فورة غضب أخري‏.‏

فتكرار الغضب سوف يقوض علي المدي البعيد فرص مواجهة المشكلة من جذورها في المستقبل‏.‏

فالأحداث التي تتابعت في الدانمارك وهولندا وفرنسا وألمانيا‏,‏ وفي غيرها‏,‏ ثم في سويسرا‏,‏ والتي أثارت شيئا من العداء علي الجانبين تترك‏,‏ علي المدي البعيد‏,‏ رواسب تمثل وقودا لأحداث سوف تظهر بأخطاء أفراد أو منظمات أو حكومات في المستقبل‏.‏ والحقيقة التي لا مفر منها هي أننا في الشرق والغرب معا‏,‏ مجبرون علي الحياة والتعايش معا‏,‏ ونبذ كل أسباب التوتر مهما تكن‏..‏ وهذا التعايش مرهون بالوعي‏,‏ والرغبة الحقيقية والنيات الصادقة‏.‏

لقد تابعت القضية في نهايتها عند الاستفتاء‏,‏ ولحظة إعلان النتيجة في جنيف وأنا اشارك في أعمال منظمة التجارة العالمية‏..‏ وجنيف وهي المقاطعة التي رفضت التصويت علي حظر بناء المساجد‏.‏ وهناك وجدت رفضا لما انتهي إليه التصويت‏,‏ وتحفظا علي ردود الفعل التي صدرت عن الجانبين الأوروبي والإسلامي‏.‏ وبعد أن أصبح الحظر قائما‏..‏ هناك العديد من الملاحظات علي ما كان من أمر الاستفتاء السويسري الأخير‏:‏

أولا‏:‏ أن ردود الفعل بعد الاستفتاء علي الجانبين الإسلامي والأوروبي وحتي الحكومة السويسرية ومعظم الصحف المعتدلة كانت جميعها تستنكر ماوقع من السويسريين‏.‏ وجميعها لاتحمل حلولا لمشكلة قائمة سوف تعبر عن نفسها في مناسبات وأحداث مختلفة‏,‏ مثلما حدث في أزمة الرسوم الدانماركية وعرض أفلام مسيئة في هولندا‏,‏ وحظر الحجاب في المدارس الفرنسية وغيرها‏.‏ السياسيون الأوروبيون معنيون بمصالح دولهم‏,‏

ويريدون تخفيف مشاعر الغضب عند المسلمين بتصريحات تستنكر وترفض‏..‏ وربما كان للرفض عندهم أسباب تتعلق بحرية العقيدة والتسامح والتنوع الثقافي‏,‏ ولكنها لاتخفي في كل الحالات الخوف علي المصالح الاقتصادية السويسرية في العالم الإسلامي‏,‏ علي غرار ما حدث مع الدنمارك‏.‏

والمسلمون غاضبون يجترون أحزانهم ويريدون إخضاع ثقافات الشعوب لإرادتهم بخطاب لايصلح إلا للحديث بينهم وبين بعضهم بعضا‏.‏وهناك أصوات تبحث عن شعبية وجماهيرية‏,‏ فاختارت أن تركب موجة الغضب بالمزيد منه‏.‏

فلا الأوروبيون قالوا لنا كيف يمكن تخفيف حدة الخوف والكراهية لدي البعض منهم‏,‏ ولا المسلمون أخبرونا بما ينبغي عمله في مواجهة القوي التي تريد للفتنة أن تقع‏.‏

ثانيا‏:57%‏ من المشاركين في الاستفتاء السويسري صوتوا لمصلحة حظر بناء المآذن لمساجد المسلمين الذين لايتجاوز عددهم أربعمائة ألف‏,‏ معظمهم جاء من دول البلقان‏.‏ قرار لايضر العبادات الإسلامية في شيء ولكنه يحمل في الأفق الخوف من شعور عدائي قد يتنامي يوما ليقع الضرر الذي لم يقع بعد‏,

‏ وقد يعبر الحدود السويسرية إلي غيرها من البلدان الأوروبية حيث يعيش نحو‏25‏ مليون مسلم‏..‏

القضية في حدودها الآن لا تمس حرية العبادة عند المسلمين‏,‏ فلم تكن المآذن أو القباب من متطلبات الصلاة والقيام في المساجد‏,‏ فقد رحل النبي صلي الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون‏,‏ وليس علي مسجد واحد مئذنة أو قبة‏,‏ وبدلا من افتراض الشر في نتيجة الاستفتاء السويسري‏,‏ علينا أن نعمل علي ألا يقع هذا الشر في المستقبل‏,‏ وفي هذا الاتجاه ينبغي أن ننفق الجهد والوقت بدلا مما نحن فيه الآن‏.‏

ثالثا‏:‏ إن القضية بدأت منذ عامين ونصف عام حين أطلق تيار في أحد الأحزاب اليمينية المتشددة مبادرة مفادها أن يتضمن الدستور السويسري مادة تحظر بناء المآذن التي ليست من متطلبات العبادة‏,‏ وإنما هي رمز للشريعة الإسلامية التي تخالف القانون السويسري علي حد زعمهم‏.‏ ولجأ هؤلاء المتطرفون إلي الصورة النمطية السائدة عن الإسلام والمسلمين‏,‏

يستدعون منها ما يخدم تصوراتهم المريضة فاعتبروا المآذن سيوفا والقباب خوذات المقاتلين الذين هم القائمون بالصلاة في ساحات المساجد‏,‏

وظلت القضية تتفاعل داخل المجتمع السويسري طوال عامين ونصف عام‏..‏ الحكومة الفيدرالية ومجلسا الشيوخ والنواب ترفض تلك الدعوات‏.‏ بل إن بلدية العاصمة برن وافقت علي بناء مئذنة خامسة لأحد المساجد‏,‏ تأكيدا لرفضها لمثل هذه التوجهات‏,‏ وتردد صدي ذلك في موقف العديد من المنظمات الدولية التي أدانت تلك المحاولات اليمينية المتطرفة‏,‏ ولكن تلك القوي نجحت في أن تطرح القضية للاستفتاء بحصولها علي موافقة‏113‏ ألف مواطن سويسري فكان الاستفتاء وكان ما جري‏.‏

رابعا‏:‏ لم ينتبه الكثيرون إلي آليات عمل الديمقراطية وطبيعة التركيبة الثقافية والسياسية في سويسرا‏..‏ أربع لغات أوجدت ثقافات متمايزة تعايشت في ظل اتحاد فيدرالي حافظ علي سويسرا بلدا محايدا منتجا ومجتهدا متحليا بقدر كبير من المسئولية والنزاهة والعدالة‏.‏ ولم يلتفت كثيرون أيضا إلي أن قوي اليمين السويسري لديها مواقفها المتشددة من المهاجرين‏,‏ والمعادية لهم بصفة عامة‏,‏ سواء جاءوا من العالم الإسلامي أو من غيره‏.‏

فقد لاحق هذا اليمين كل تسهيل ممكن لإقامة الأجانب وعملهم في سويسرا منذ سنوات بعيدة‏.‏ فقد ذهب السويسريون إلي صناديق الاستفتاء مرات ومرات بسبب قضايا المهاجرين حتي قبل أن يتزايد عدد المسلمين هناك‏.‏

خامسا‏:‏ الصراخ والغضب السائد في العالم الإسلامي هي صرخات بلا صدي‏.‏ علينا أن نتعلم كيف نخوض معاركنا وكيف نكسبها وهي عادلة‏.‏ أقل من‏60%‏ فقط من الأصوات رجحت كفة حظر بناء المآذن‏.‏ أي أن النتيجة لاتعكس اتجاها عاما سائدا ومسيطرا علي الشارع السويسري‏,‏ وبوسعنا أن نعمل علي تعظيم هذا التيار القوي المؤيد لحق المسلمين في بناء المآذن‏,‏

وهو يمثل نحو‏43%‏ من أصوات الناخبين‏.‏ وبوسعنا أن نساعد الأقلية المسلمة في تلك البلاد علي أن تستعيد حقوقها بنفس الأساليب الديمقراطية التي حقق بها اليمين أهدافه‏,‏ وبهذا فقط نكسب القضية ونكسب معها مزايا مسلك حضاري نحتاجه في مخاطبة تلك الشعوب‏.‏ نحتاج إلي تفعيل الدبلوماسية الشعبية حتي نستطيع التعامل مع الشعوب والمنظمات المدنية بدلا من التوجه نحو الحكومات التي لاتستطيع أن تفعل في بعض الحالات شيئا أو تتعلل بذلك‏.‏

ولن يكون الاستفتاء السويسري هو آخر مسلسلات التعبير عن الخوف من الإسلام في أوروبا‏,‏ ولن تنفعنا الاحتجاجات والتنديد بالمواقف في تغيير شيء مما هو قائم‏,‏ ومن الخطورة بمكان أن تتصدر قوي التطرف لدينا جبهة الرد علي ما يحدث في أوروبا‏,‏ فتثير غضبا غير مبرر أو غير ذي قيمة‏.‏ فلدينا عشرات من المنظمات التي تجمع دول العالم الإسلامي وهي غائبة أو مغيبة إلا بتصريحات تداعب عواطف المسلمين حين تقع الأزمات فتعلن عن وجودها بتصريح غاضب هو الآخر في انتظار أزمة أخري وتصريح أكثر غضبا‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى