تراجـع للقــوة ومراجعة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

تكشف كل الوقائع والتطورات أن الاختبار الحقيقي لمكانة الولايات المتحدة, باعتبارها القوة الكبري في عالم اليوم, سيكون في منطقة الشرق الأوسط, التي اصبحت محور التحركات الأمريكية الخارجية, بل ومحور التفاعلات السياسية الداخلية بين الحزبين الكبيرين الجمهوري والديمقراطي ومؤسساتهما, تأزما, وانفراجا أيضا.
ولم تبخل دول المنطقة, خاصة مصر, في تعاملها مع الأمريكيين بالنصيحة الصادقة, وتقديم المعلومات الدقيقة, والبحث في كيفية إيجاد المخرج السليم لأزمات المنطقة.. ولعل جولة المباحثات الراهنة للوفد المصري في واشنطن تكشف عن النية المخلصة من جانبنا, للمساعدة علي تجاوز الأزمات والكوارث في منطقتنا, حيث لايستطيع أحد أن ينكر مسئولية أمريكا, سواء بالخطأ المباشر أو بسلبيتها, عن تفاقم الأوضاع وزيادة الاضطرابات في منطقتنا.
ففي هذه المنطقة الحساسة من عالمنا المعاصر, البعيدة أو النائية بالنسبة لأمريكا, قضي نحو ثلاثة آلاف من الجنود الأمريكيين نحبهم, وتجاوز عدد المصابين عشرات الألوف وأهدرت مئات البلايين من الدولارات, دون أن يكون لذلك سبب واضح يبرر تلك التكلفة الباهظة بمنطق المواطن الأمريكي. بل إن الأمريكيين يشعرون اليوم بأنهم عرضة لمشاعر كراهية غير مسبوقة بين شعوب المنطقة, ولدي شعوب أخري, بسبب ما وقع منهم في المنطقة ذاتها أيضا. إذن لم تجن الولايات المتحدة من سياساتها في الشرق الأوسط إلا الخسارة. فلا هي برهنت للعالم علي قدرتها علي القيادة في زمن القطب الأوحد, ولاهي احتفظت بأرواح أبنائها وثرواتها, ولاهي حققت شيئا من الأهداف الإمبراطورية.
والمحصلة حتي الآن هي الخسارة الفادحة للموارد والنفوذ معا. فبالرغم من الوجود الأمريكي الكثيف في المنطقة, يتحدث الجميع عن تراجع النفوذ الأمريكي, وفقدان الثقة في قدرة أمريكا علي ضبط التفاعلات وتوجيهها, وإعادة الاستقرار إلي ماكان عليه قبل وصول الجيوش الإمبراطورية.وباختصار فلقد كان الشرق الأوسط مسرحا ولدت فيه بوادر أمراض الإمبراطورية الجديدة, حيث سيطرت أوهام القوة, وزادت الهوة بين الطموحات والواقع, وساد سوء التقدير قرارات القيادة.
غير أن الذي فعلته الولايات المتحدة بالمنطقة لم تتوقف أضراره وخسائره عند المصالح الأمريكية فحسب, بل تجاوزتها إلي مصالح شعوب المنطقة ذاتها. فقد أجبرت السياسة الأمريكية هذه الشعوب علي أن تدفع ثمن معظم أخطائها, وهنا يكمن سبب الكثير من المشاعر السلبية في المنطقة تجاه الولايات المتحدة التي أصبحت الداء لأوجاع كثيرة, في الوقت الذي مازالت فيه تملك الجزء الأكبر من أساليب العلاج. فقد أوقعت سياستها أكثر حكومات المنطقة اعتدالا في مآزق متتالية مع شعوبها, ومع الحكومات الأقل اعتدالا, وكذلك الأكثر تطرفا. وعبر تلك المآزق المتتالية مهدت هذه السياسة الأرض أمام التطرف, وقوضت الكثير من جهود الاعتدال.
ومع تعقد الأزمات في الشرق الأوسط, وما تنذر به من فوضي عارمة أصبحت المراجعة الشاملة للأوضاع والسياسات ضرورة حتمية لإنقاذ المنطقة والمصالح الأمريكية علي السواء من أن تنزلق إلي واقع يهدد الأمن والسلام في العالم. ولابد من أن تتحمل الولايات المتحدة قبل غيرها مسئولية المراجعة الكاملة والشاملة لسياساتها أولا, وأن تعيد النظر في رؤيتها لأزمات المنطقة, إذ لم تعد النظرة الجزئية للأحداث والأزمات تجدي في مساعي التسوية. فالسنوات الماضية برهنت للجميع علي وجود ارتباط قوي بين أزمات المنطقة في أفغانستان والسودان ولبنان وفلسطين والعراق وإيران وسوريا. ولابد أن تعترف الولايات المتحدة بأنها كانت قاسما مشتركا في كل هذه الأزمات. وأنها في كل الحالات كانت أقرب إلي المواجهة العسكرية أو التلويح بها, بدلا من أن تمارس دورا يليق بقوة قدر لها أن تحكم العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وقبل الحديث عن نقاط مراجعة السياسات الأمريكية في المنطقة, لابد من الإشارة إلي حقيقة مفادها أن الجميع لايريدون للولايات المتحدة أن تخرج مهزومة من الشرق الأوسط, ولايريدون لها أن تنسحب من النظام العالمي والإقليمي, فتلك خسارة فادحة للجميع. فالقوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأمريكية كفيلة بتحقيق توازن حيوي مطلوب في نشر السلام وإقرار الحقوق وتحقيق العدالة في كل أنحاء العالم, والمراجعة تعني ترشيد استخدام تلك القدرات الأمريكية الهائلة بالشكل الذي يحبط مخططات قوي التطرف وجوعي الحروب, ومثيري التوتر والاضطرابات. ومثل هذا الاستخدام الرشيد لمقدرات الدولة الأمريكية كفيل بتحقيق نموذج تاريخي فريد لقوة حقيقية, تقود العالم نحو واقع يترجم أهداف الجميع بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم.
ولعل أولي المراجعات التي تحتاجها الولايات المتحدة هي أن تضع قوتها العسكرية في موضعها الصحيح في منظومة القدرات الأمريكية المستخدمة في قيادة عالم اليوم. فلقد عانت الولايات المتحدة في خمسة عقود مرارة مغامرتين عسكريتين فاشلتين: الأولي في فيتنام أيام قوة الاتحاد السوفيتي والثانية في العراق بعد انهياره, وانفرادها بقيادة العالم. وفي الحالتين لم تحقق القوة العسكرية انتصارا, ولم تخضع أيا من الشعبين للإرادة الأمريكية. بل كانت التجربتان مأزقا بكل المعايير, حيث تطلبت الأولي جهودا هائلة حتي خرجت القوات الأمريكية بعد خسائر فادحة, تحولت إلي حالة مرضية في المجتمع الأمريكي. أما الثانية فمازالت قائمة, تشهد علي هوان القوة العسكرية في حل الصراعات حتي في غياب قوة كبري مناوئة للولايات المتحدة.
أيضا تحتاج السياسة الأمريكية إلي مراجعة مصادر المعرفة لديها بحقائق الأوضاع في المنطقة. فمن الواضح أن الولايات المتحدة تعلمت الدرس الخطأ من المدرس الخطأ في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية. حيث كانت إسرائيل, ومازالت, تتحسس ترسانتها العسكرية مع كل أزمة, معتمدة علي قوتها حتي في مواجهة أطفال الحجارة ومسلحي البنادق. ولذلك بعد ستة عقود من قيام إسرائيل لم تفلح في أن تكون جزءا من المنطقة أو في أن تقيم أي شكل من أشكال العلاقات مع حكوماتها او شعوبها. ولابد للولايات المتحدة ان تخرج علي الدرس الخطأ وأن تباعد بينها وبين تصورات الإسرائيليين عن الأوضاع في المنطقة. خاصة أن إسرائيل مازالت تمثل المشكلة الأم لها في طول الشرق الأوسط وعرضه, وهي مشكلة تحتاج منها إلي مراجعة شاملة وواقعية. ولابد أن تعطي اهتماما وانتباها أكبر لدروس ونصائح جاءتها ـ ومازالت تجيئها ـ من قوي معتدلة, لديها القدرة علي الفهم الواعي لمجريات الأمور في المنطقة بأسرها. أما المدرسون الآخرون الفاشلون للقوة الكبري فهم بعض المغامرين السياسيين والعملاء الذين يجرونها إلي التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة بلا وعي او إدراك أو فهم حقيقي,
وتدفعهم إلي ذلك طموحاتهم السياسية والاقتصادية للحروب وقد كانوا سببا في تعكير علاقاتها ودفعها إلي مسارات خاطئة. كما كانوا حصان طروادة للاحتلال في العراق وأزماته الصعبة المستحكمة. وقد برهنت تجارب كثيرة علي أن شيئا من الاهتمام والانتباه لصوت العقل والمعرفة والنصائح الصادقة, كان يمكن أن يجنب الأمريكيين الكثير من المتاعب التي يعانونها اليوم. ومن الطبيعي أن تسعي قوي الاعتدال أو التطرف نحو أهدافها فيما تقدمه من نصائح للسياسة الأمريكية في المنطقة, وتظل النقطة الحاكمة هي مدي التوافق بين المصالح الأمريكية والإقليمية في المنطقة, وليس التقاطع بينها. فمن الواضح أن كثيرا من المعلومات غير الصحيحة والتحليلات غير المدروسة والسياسات الخاطئة التي خرجت من المنطقة واتبعتها الولايات المتحدة, قد ألحقت أضرارا بالغة بمصالحها, وتجبرها اليوم علي أن تدفع الثمن غاليا داخليا وخارجيا.
ومما يحتاج إلي المراجعة في السياسة الأمريكية هو موقفها من القضية الفلسطينية, التي حولتها أمريكا إلي أعقد مشكلات القرن بفعل انحيازها الواضح والصريح للتطرف الإسرائيلي, ومحاولات إيجاد حلول مؤقتة لا تفي بالحد الأدني من الحقوق المشروعة الضائعة للفلسطينيين. وإذا كان الأمريكيون لايدركون أهمية تلك القضية في المنطقة. فإنها قضية تتجاوز بتأثيراتها ارض فلسطين وشعبها لتصبح ميراثا لشعوب المنطقة بأسرها من القوميين وحتي الإسلاميين ومن الأكثر اعتدالا إلي الأكثر تطرفا. ومالم تحظ القضية الفلسطينية بمراجعة تؤدي إلي العدل والإنصاف, فإن الولايات المتحدة سوف تظل تواجه الكثير من المشكلات في المنطقة. وربما أدرك الأمريكيون أخيرا لماذا تبدو القضية الفلسطينية حاضرة في العراق ولبنان وإيران وأفغانستان والسودان والصومال, وفي غيرها. وربما يدركون أيضا أن وصول حماس المتطرفة ـ حسب الوصف الأمريكي ـ إلي سدة الحكم في الأراضي الفلسطينية عبر انتخابات حرة, كان نتيجة طبيعية للسياسة الأمريكية الحاكمة للمسلك الإسرائيلي المتغطرس بشأن حقوق الفلسطينيين.فلم يبق الإسرائيليون, ومن ورائهم ساسة واشنطن, خيارا أمام الفلسطينيين في مواجهة
الآلة العسكرية الإسرائيلية في الشوارع والميادين وعلي طاولة المفاوضات سوي المزيد من التشدد أو التطرف. إن مفتاح السلام في الشرق الأوسط هو إنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وعملية السلام كما وصفها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق مثل راكب الدراجة الصاعد إلي قمة التل.. إذا لم يواصل الصعود فإنه لايتوقف بل يتراجع وربما يهبط الي السفح وهو ماوصلنا إليه الآن وقد حدث للفلسطينيين وغيرهم في مناطق أخري, ذلك عندما ضاعت الحقوق ففقدوا الإرادة المستقلة في مواجهة القوة العسكرية. وإذا لم يتم التوصل إلي حل شامل للصراع العربي ـ الإسرائيلي, يقوم علي الإنصاف وإعادة الحقوق, فإن بذور التطرف التي ترويها السياسة الأمريكية في ذلك الصراع سوف تنمو في أماكن اخري من المنطقة وسوف تتوجه اساسا ضد المصالح الأمريكية وسوف تنال منها.
وكذلك فإن الموقف في العراق يحتاج إلي مراجعة سريعة قبل أن تتجذر الأزمة لتصبح مصدرا جديدا داعما للإرهاب في المستقبل. ولابد من الخروج من أزمة التصورات المسبقة المملوءة بالتحامل علي الواقع والتنكر لمعطياته. فلم تعد القضية في العراق هي أن تعترف الولايات المتحدة بفشلها أو أخطائها, ولكن القضية هي أن تعترف بأن رؤية جديدة قد أصبحت لازمة للخروج من المأزق الراهن. وهي رؤية لابد وأن تختلف عن الاستراتيجية التي تحدث بها الرئيس جورج بوش أخيرا والتي تطرح أزمة نجاحها وفشلها في آن واحد, فالنتيجة في الحالتين واحدة وهي الكارثة: إن الأزمة في العراق تحتاج إلي مراجعة شاملة أكثر بعدا عن الآلة العسكرية الأمريكية, وأكثر اقترابا من الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي في العراق, مراجعة لاتتم بهدف البحث عن مخرج مشرف من المستنقع العراقي, وإنما تساعد علي ظهور مشروع يعيد بناء العراق علي أساس المواطنة العراقية وليس علي أي أساس آخر.
والأولي بها أيضا أن تراجع السياسات الأقدم في المنطقة, وأن تراجع الاندفاع الراهن نحو المواجهة العسكرية مع إيران بسبب برنامج نووي تعلم حقيقته, وتملك كثيرا من أدوات خفض قوته. فلا أحد يريد تكرار تجربة أسلحة الدمار الشامل التي اتخذتها أمريكا ذريعة لاحتلال العراق, فيصبح تخصيب اليورانيوم ذريعة أخري واهية للتخلص من النظام العدائي في إيران. ولابد أن تخضع قضية معقدة بهذا المستوي لتفكير أعمق, يدرك خطورة المواجهة علي أمن المنطقة. صحيح أن النظام في إيران يرتكب الكثير من الأخطاء في محيطه الإقليمي, بما يثير مخاوف جيرانه, إلا أن الحل لن يكون في مواجهة عسكرية تطيح بما بقي في المنطقة من أمن واستقرار.
وإذا أقدم الأمريكيون علي مراجعة سياساتهم في المنطقة, فإن ذلك يتطلب مراجعة موازية لها أيضا في العالم العربي. فلقد عانت المنطقة الكثير نتيجة غياب دور عربي فعال في تداعيات الأحداث, بسبب الانقسام تارة, وتشتيت الجهود تارة أخري, والأنانية المفرطة للبعض تارة ثالثة. ولم يفت الوقت بعد لبناء موقف عربي موحد يؤكد أهلية العرب للمشاركة النشيطة فيما يجري علي أرضهم, بشرط أن يتخلصوا من المصالح القطرية الضيقة, وأن يعملوا من أجل مصالحهم العليا التي هي أكثر أهمية لهم جميعا مما سواها.
osaraya@ahram.org.eg
ومع تعقد الأزمات في الشرق الأوسط, وما تنذر به من فوضي عارمة أصبحت المراجعة الشاملة للأوضاع والسياسات ضرورة حتمية لإنقاذ المنطقة والمصالح الأمريكية علي السواء من أن تنزلق إلي واقع يهدد الأمن والسلام في العالم. ولابد من أن تتحمل الولايات المتحدة قبل غيرها مسئولية المراجعة الكاملة والشاملة لسياساتها أولا, وأن تعيد النظر في رؤيتها لأزمات المنطقة, إذ لم تعد النظرة الجزئية للأحداث والأزمات تجدي في مساعي التسوية. فالسنوات الماضية برهنت للجميع علي وجود ارتباط قوي بين أزمات المنطقة في أفغانستان والسودان ولبنان وفلسطين والعراق وإيران وسوريا. ولابد أن تعترف الولايات المتحدة بأنها كانت قاسما مشتركا في كل هذه الأزمات. وأنها في كل الحالات كانت أقرب إلي المواجهة العسكرية أو التلويح بها, بدلا من أن تمارس دورا يليق بقوة قدر لها أن تحكم العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وقبل الحديث عن نقاط مراجعة السياسات الأمريكية في المنطقة, لابد من الإشارة إلي حقيقة مفادها أن الجميع لايريدون للولايات المتحدة أن تخرج مهزومة من الشرق الأوسط, ولايريدون لها أن تنسحب من النظام العالمي والإقليمي, فتلك خسارة فادحة للجميع. فالقوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأمريكية كفيلة بتحقيق توازن حيوي مطلوب في نشر السلام وإقرار الحقوق وتحقيق العدالة في كل أنحاء العالم, والمراجعة تعني ترشيد استخدام تلك القدرات الأمريكية الهائلة بالشكل الذي يحبط مخططات قوي التطرف وجوعي الحروب, ومثيري التوتر والاضطرابات. ومثل هذا الاستخدام الرشيد لمقدرات الدولة الأمريكية كفيل بتحقيق نموذج تاريخي فريد لقوة حقيقية, تقود العالم نحو واقع يترجم أهداف الجميع بمن فيهم الأمريكيون أنفسهم. ولعل أولي المراجعات التي تحتاجها الولايات المتحدة هي أن تضع قوتها العسكرية في موضعها الصحيح في منظومة القدرات الأمريكية المستخدمة في قيادة عالم اليوم. فلقد عانت الولايات المتحدة في خمسة عقود مرارة مغامرتين عسكريتين فاشلتين: الأولي في فيتنام أيام قوة الاتحاد السوفيتي والثانية في العراق بعد انهياره, وانفرادها بقيادة العالم. وفي الحالتين لم تحقق القوة العسكرية انتصارا, ولم تخضع أيا من الشعبين للإرادة الأمريكية. بل كانت التجربتان مأزقا بكل المعايير, حيث تطلبت الأولي جهودا هائلة حتي خرجت القوات الأمريكية بعد خسائر فادحة, تحولت إلي حالة مرضية في المجتمع الأمريكي. أما الثانية فمازالت قائمة, تشهد علي هوان القوة العسكرية في حل الصراعات حتي في غياب قوة كبري مناوئة للولايات المتحدة. أيضا تحتاج السياسة الأمريكية إلي مراجعة مصادر المعرفة لديها بحقائق الأوضاع في المنطقة. فمن الواضح أن الولايات المتحدة تعلمت الدرس الخطأ من المدرس الخطأ في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية. حيث كانت إسرائيل, ومازالت, تتحسس ترسانتها العسكرية مع كل أزمة, معتمدة علي قوتها حتي في مواجهة أطفال الحجارة ومسلحي البنادق. ولذلك بعد ستة عقود من قيام إسرائيل لم تفلح في أن تكون جزءا من المنطقة أو في أن تقيم أي شكل من أشكال العلاقات مع حكوماتها او شعوبها. ولابد للولايات المتحدة ان تخرج علي الدرس الخطأ وأن تباعد بينها وبين تصورات الإسرائيليين عن الأوضاع في المنطقة. خاصة أن إسرائيل مازالت تمثل المشكلة الأم لها في طول الشرق الأوسط وعرضه, وهي مشكلة تحتاج منها إلي مراجعة شاملة وواقعية. ولابد أن تعطي اهتماما وانتباها أكبر لدروس ونصائح جاءتها ـ ومازالت تجيئها ـ من قوي معتدلة, لديها القدرة علي الفهم الواعي لمجريات الأمور في المنطقة بأسرها. أما المدرسون الآخرون الفاشلون للقوة الكبري فهم بعض المغامرين السياسيين والعملاء الذين يجرونها إلي التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة بلا وعي او إدراك أو فهم حقيقي, ومما يحتاج إلي المراجعة في السياسة الأمريكية هو موقفها من القضية الفلسطينية, التي حولتها أمريكا إلي أعقد مشكلات القرن بفعل انحيازها الواضح والصريح للتطرف الإسرائيلي, ومحاولات إيجاد حلول مؤقتة لا تفي بالحد الأدني من الحقوق المشروعة الضائعة للفلسطينيين. وإذا كان الأمريكيون لايدركون أهمية تلك القضية في المنطقة. فإنها قضية تتجاوز بتأثيراتها ارض فلسطين وشعبها لتصبح ميراثا لشعوب المنطقة بأسرها من القوميين وحتي الإسلاميين ومن الأكثر اعتدالا إلي الأكثر تطرفا. ومالم تحظ القضية الفلسطينية بمراجعة تؤدي إلي العدل والإنصاف, فإن الولايات المتحدة سوف تظل تواجه الكثير من المشكلات في المنطقة. وربما أدرك الأمريكيون أخيرا لماذا تبدو القضية الفلسطينية حاضرة في العراق ولبنان وإيران وأفغانستان والسودان والصومال, وفي غيرها. وربما يدركون أيضا أن وصول حماس المتطرفة ـ حسب الوصف الأمريكي ـ إلي سدة الحكم في الأراضي الفلسطينية عبر انتخابات حرة, كان نتيجة طبيعية للسياسة الأمريكية الحاكمة للمسلك الإسرائيلي المتغطرس بشأن حقوق الفلسطينيين.فلم يبق الإسرائيليون, ومن ورائهم ساسة واشنطن, خيارا أمام الفلسطينيين في مواجهة وكذلك فإن الموقف في العراق يحتاج إلي مراجعة سريعة قبل أن تتجذر الأزمة لتصبح مصدرا جديدا داعما للإرهاب في المستقبل. ولابد من الخروج من أزمة التصورات المسبقة المملوءة بالتحامل علي الواقع والتنكر لمعطياته. فلم تعد القضية في العراق هي أن تعترف الولايات المتحدة بفشلها أو أخطائها, ولكن القضية هي أن تعترف بأن رؤية جديدة قد أصبحت لازمة للخروج من المأزق الراهن. وهي رؤية لابد وأن تختلف عن الاستراتيجية التي تحدث بها الرئيس جورج بوش أخيرا والتي تطرح أزمة نجاحها وفشلها في آن واحد, فالنتيجة في الحالتين واحدة وهي الكارثة: إن الأزمة في العراق تحتاج إلي مراجعة شاملة أكثر بعدا عن الآلة العسكرية الأمريكية, وأكثر اقترابا من الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي في العراق, مراجعة لاتتم بهدف البحث عن مخرج مشرف من المستنقع العراقي, وإنما تساعد علي ظهور مشروع يعيد بناء العراق علي أساس المواطنة العراقية وليس علي أي أساس آخر. والأولي بها أيضا أن تراجع السياسات الأقدم في المنطقة, وأن تراجع الاندفاع الراهن نحو المواجهة العسكرية مع إيران بسبب برنامج نووي تعلم حقيقته, وتملك كثيرا من أدوات خفض قوته. فلا أحد يريد تكرار تجربة أسلحة الدمار الشامل التي اتخذتها أمريكا ذريعة لاحتلال العراق, فيصبح تخصيب اليورانيوم ذريعة أخري واهية للتخلص من النظام العدائي في إيران. ولابد أن تخضع قضية معقدة بهذا المستوي لتفكير أعمق, يدرك خطورة المواجهة علي أمن المنطقة. صحيح أن النظام في إيران يرتكب الكثير من الأخطاء في محيطه الإقليمي, بما يثير مخاوف جيرانه, إلا أن الحل لن يكون في مواجهة عسكرية تطيح بما بقي في المنطقة من أمن واستقرار. وإذا أقدم الأمريكيون علي مراجعة سياساتهم في المنطقة, فإن ذلك يتطلب مراجعة موازية لها أيضا في العالم العربي. فلقد عانت المنطقة الكثير نتيجة غياب دور عربي فعال في تداعيات الأحداث, بسبب الانقسام تارة, وتشتيت الجهود تارة أخري, والأنانية المفرطة للبعض تارة ثالثة. ولم يفت الوقت بعد لبناء موقف عربي موحد يؤكد أهلية العرب للمشاركة النشيطة فيما يجري علي أرضهم, بشرط أن يتخلصوا من المصالح القطرية الضيقة, وأن يعملوا من أجل مصالحهم العليا التي هي أكثر أهمية لهم جميعا مما سواها. |