في مكافحـة الفقر.. وتوجـيه الدعـــم!

ليست مصر وحدها التي يعاني بعض أبنائها مشكلات الفقر, فالولايات المتحدة, التي تمتلك أكبر اقتصادات العالم, يعيش نحو12% من سكانها تحت خط الفقر, وهكذا نجد أن الفقر لم يختف بعد من أي دولة في العالم, وهو ليس قدر السماء في الأرض, ولكنه صناعة بشرية في معظمها, تآمر من أجلها, عبر التاريخ محليا وعالميا, العلم والتكنولوجيا والتجارة والسياسة والجيوش ورجال الدين والفقراء أنفسهم, وتأمل البشرية في أن تخفف من حدته لا أن تتخلص منه نهائيا, ولم يأت بالفقر إلي أرض مصر حاكم أو نظام سياسي, وإنما اختلف حكام المصريين في التعامل معه عسرا ويسرا
والفقر الذي نواجهه اليوم يختلف عن الفقر الذي سكن بلادنا تاريخا طويلا, بل إن جيلا واحدا من المصريين الذين يعيشون اليوم بيننا يستطيع أن يحكي الأساطير عن الفقراء في الزمن الذي يحن إليه الكثيرون قبل الثورة وبعدها. فليس الفقر ما نجلد به أنفسنا كل يوم وكأنه دخيل علي حياتنا, وحدث طارئ في معيشتنا, كما أنه ليس مناورة سياسية يستثير بها المغامرون في عالم السياسة غضب الفقراء أو حالة يستثمر فيها البعض مزايا أحلام الفقراء لتحقيق المكاسب السياسية
والنيل من الإنجازات التي غيرت مفهوم الفقر في بلادنا.وليس الفقر أيضا من القضايا التي يمكن تجاهلها أو السكوت عنها, فالرئيس حسني مبارك, منذ أن تولي الحكم, لم يتوقف يوما عن التعبير عن الاهتمام بذوي الدخول المحدودة والانحياز إليهم, وعبر في أكثر من مناسبة عن أن تشجيع القطاع الخاص علي النمو كان دافعه أيضا تعظيم فرص العمل الحقيقية أمام قطاعات واسعة من السكان, حيث لم يكن بمقدور الدولة وحدها أن تتحمل مسئولية التوظيف لأعداد من العمالة تتزايد عاما بعد آخر.
إن الفقر قضية أمة تستنهض همة أبنائها جميعا لمواجهة عدو شرس, بغيض وقديم. فهذه القضية ليست قضية فئة في المجتمع دون أخري, فالجميع مطالبون بالمشاركة تحقيقا للعدالة والاستقرار في المجتمع. واليوم تدخل مصر معركة جديدة إذا نجحت فيها سوف تستطيع أن تلجم الفقر في بر مصر, إنها معركة توجيه الدعم إلي الفقراء مباشرة دون غيرهم, وهي تجربة صعبة ولكنها تستحق أن نخوضها, ومن الطبيعي أن تتحمل الدولة الدور الأكبر في المواجهة عبر برامج وخطط تخفف من معاناة الفقراء وتمنحهم الفرصة للخروج من دائرة الفقر, ولايعفي ذلك القطاع الخاص والمجتمع المدني من تحمل مسئولياته في هذه القضية.
غير أن الحلول التي يمكن أن يقدمها القطاع الخاص والمجتمع المدني لابد أن ترتبط أيضا ببرامج الحكومة علي الأقل فيما يتعلق بتغيير ثقافة الفقر, وينبغي ألا تكون مساهمة هذين القطاعين الكبيرين في مكافحة الفقر علي طريقة موائد الرحمن وجبة غذائية لشهر في السنة, يرجو بها أصحابها رضا الله أو الناس, فهي قضية مجتمع بمختلف فئاته يرتبط بها أمن الجميع واستقرار حياتهم, كما أنها رمز لمدي ما بينهم من تكافل تدعمه المواطنة الصحيحة.
والفقر ليس قضية اقتصادية تخضع كاملة لمعالجات الاقتصاديين, فما أيسر الحلول التي تخرج من كتابات الاقتصاديين لمواجهة الفقر, وعلينا أن نعترف بأننا لانكافح فقط العوز لدي قطاعات من المصريين, وإنما نواجه ثقافة الفقر التي تجذرت بحكم الزمن في حياة الكثيرين, ففي كل يوم ـ علي سبيل المثال ـ تطاردنا إحصاءات البطالة, وهي أحد أسباب الفقر وإحدي نتائجه. وفي كل يوم أيضا يجأر المستثمرون وأصحاب المزارع والمصالح بالشكوي من عجز في العمالة ليس فقط المدربة الماهرة, وإنما أيضا العمالة العادية التي يتوافر لديها الحد الأدني من متطلبات العمل. وتتبدي لنا ثقافة الفقر أيضا في نمط إنفاق الفقراء حين تخرج المرأة للعمل, بينما يجلس الرجل في انتظار أن تأتي المرأة بأجرها ليتولي هو إنفاقه فيما يزيد أسرته فقرا. والفقراء أيضا وغيرهم يقفون وراء الزيادة السكانية التي تأكل عائدات التنمية وتضر المجتمع, وتضعه بكل فئاته في خانة الدول الفقيرة أو العاجزة أو الفاشلة, كما أن النسبة الكبري من تجارة الدخان في مصر تأتي من القطاعات الفقيرة.
…………………………………………………….
ومن ثقافة الفقر أيضا أن يسعي غير الفقراء إلي الحصول علي ما ليس مقررا لهم ليحرموا غيرهم من حقوقهم, وهذه الآفة أدت إلي فشل كثير من البرامج في مجال السلع والخدمات التي كان يمكن أن تخفف اليوم من وطأة الفقر لدي قطاعات واسعة من المواطنين. فالحكومة سوف تدفع دعما لرغيف الخبز يصل إلي ستة مليارات من الجنيهات, وربما كنا من بين الدول الأكثر دعما لرغيف الخبز في العالم, ومع ذلك مازالت الشكاوي مستمرة من رغيف الخبز, ولذلك فإن مكافحة الفقر قضية قومية, لابد أن تتصدر اهتمامات الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
وفي هذا السبيل فإن الحكومة ملتزمة, بنهاية الخطة الخمسية الراهنة, بخفض نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من20% إلي15% وهو خفض ينتشل ما يقرب من أربعة ملايين مصري من براثن الفقر في المدي القريب, وتواجه الحكومة في مساعيها مشكلة التحديد الدقيق للفقراء, حتي يمكن حصرهم بشكل يسمح باستهدافهم مباشرة, والوصول بخدماتها إليهم, والحقيقة أن هذا التحديد لايقل أهمية عن صياغة برامج لمواجهة الفقر ورصد الموارد المالية لتلك البرامج, فقد تحمل الاقتصاد المصري أعباء كثيرة وطويلة لدعم ذوي الدخول المحدودة, ولكن تلك الموارد أثقلت كاهل الاقتصاد الوطني, ولم تفعل الكثير من أجل المستهدفين بها.
ولذلك فإن نقطة البداية في مكافحة الفقر هي أن نعرف, علي وجه التحديد, من هم الفقراء وأين يعيشون, بهدف الوصول ببرامج الحكومة إلي الفئات الأولي بالرعاية. فليس سكان العشوائيات كلهم من الفقراء, وكذلك سكان الريف ليسوا جميعا كذلك. وترتبط قضية التعرف علي الفقراء, وتحديد أماكنهم بمستوي الوعي العام بأهمية مكافحة الفقر وإنجاز المهمة, فكل دعم لايصل إلي المستحق الأولي بالرعاية يمثل هدرا للموارد العامة, ويحرم فقيرا حقيقيا من حقه الذي أقرته له الدولة. ويلزم جهود مكافحة الفقر لدينا تطوير نظام دقيق وشامل من المعلومات حول الفقر والفقراء, لأنه بدون تلك المعلومات الصحيحة لن تحقق سياسات مكافحة الفقر الكثير من النتائج, فلقد أنفقت مصر, طوال العقود الثلاثة الماضية في سبيل دعم الفقراء, أموالا طائلة ولكنها في غيبة من المعلومات الحقيقية لم تحقق الأهداف المرجوة منها.
والتحدي الثاني الرئيسي يأتي من تنمية القدرات والمهارات البشرية للفقراء. فمستويات التعليم والمهارات المتوافرة لدي هذه الفئات لا تمكنهم من الدخول إلي سوق العمل المنظمة, مما يعرضهم دائما للوقوع تحت خط الفقر. واذا لم تتم تنمية مستويات تعليمهم وتطوير مهاراتهم, فإنهم لن يغادروا ساحة الفقر, وسوف يظلون عبئا علي برامج مكافحته, وحتي تنجح برامج مكافحة الفقر لابد أن يحظي الفقراء برعاية خاصة, تزيد من قدرتهم علي الاستجابة لهذه البرامج. وقد حظي هذا الأمر باهتمام شديد من الرئيس حسني مبارك حيث أصبحت الدولة, بفعل ما تحقق من نمو اقتصادي, قادرة علي تحمل تبعات رعاية أصحاب الدخول المحدودة رعاية حقيقية وفعالة.. وهذه الرعاية لابد أن ترتكز علي دعم وخدمات توفر للفقراء مستوي كريما من الحياة, في الوقت الذي تساعدهم فيه علي أن يسهموا بأنفسهم في تجاوز خط الفقر الذي يعيشون تحته.
…………………………………………………….
ومما أسهم في زيادة عدد الفقراء في مصر المركزية العريقة, التي حالت زمنا دون التوزيع العادل للخدمات, فتباينت مستويات الفقر عبر سكان الريف والحضر. فالفقر يبدو اليوم ريفي الموطن, يعيش في القري أكثر من الحضر, فمن بين أفقر500 منطقة في مصر تظهر13 منطقة حضرية فقط, وتمثل المناطق الحضرية نحو5% فقط من بين المناطق الألف الأكثر فقرا. فحيث تنعدم أو تتدني الخدمات الصحية والبيئية والاجتماعية وتقل فرص التعليم, وترتفع مستويات الأمية يوجد الفقر وينتشر, ولذلك يبدو التوجه نحو اللامركزية ضرورة من ضرورات مكافحة الفقر, فالحكومة المركزية أقل قدرة علي معرفة أولويات المناطق المحلية المختلفة, وأقل كفاءة في توزيع الخدمات العامة, وتتراجع معها قدرة المجتمع المدني المحلي علي مراقبة تنفيذ الخدمات المقدمة, وتتزايد فرص إهدار الأموال العامة.
…………………………………………………….
إن استمرار المركزية في تقديم الخدمات العامة سوف يحد من قدراتنا علي مكافحة الفقر, ويزيد أيضا من العزوف عن المشاركة من جانب المواطنين في المناطق المحلية التي يعيشون فيها, وفي المؤتمر التاسع للحزب الوطني طرحت قضية اللامركزية بشدة علي مستويات عدة, وقد آن الأوان أن يجد إصلاح الإدارة المحلية طريقه إلي التنفيذ.
وتستحق المرأة, في برامج مكافحة الفقر, اهتماما خاصا بالنظر إلي واقعها الاجتماعي العام, وموقعها علي خريطة الفقر. ولاشك أن ماحصلت عليه المرأة في مصر, في السنوات الأخيرة من دعم ودفع للمشاركة خفف كثيرا من حدة الفقر في مجتمعنا وزاد من مشاركتها, وعلينا أن نعمل جميعا علي دفع التوجه الاجتماعي للدولة في المرحلة المقبلة, لكي يأخذ في الاعتبار نصيب المرأة العادل من عوائد التنمية, والحقيقة أن المرأة المصرية هي أكثر فئات المجتمع تضررا من الفقر في الريف والحضر علي حد سواء, وربما كانت الأكثر اهتماما به أيضا بحكم المسئولية الاجتماعية التي تحملتها طويلا في المنظومة الاجتماعية المصرية.
ويجدر بنا أن نضع المرأة موضعها الصحيح من برامج الرعاية والعدالة الاجتماعية, من خلال مبادرات خاصة وسياسات اجتماعية متكاملة, ترفع معاناتها, وتحقق لها العدالة التي حرمت منها. وعلينا أن ندرك أن أي حق تحصل عليه المرأة سوف يظهر تأثيره مباشرة في الحياة المصرية, فالمرأة هي القناة الأكثر أمنا للوصول إلي الأسرة المصرية الفقيرة.
osaraya@ahram.org.eg