تحية إلي القائد والقوات المسلحة في أعياد النصر

تنقضي اليوم أربعة وثلاثون عاما علي أكثر المعارك تأثيرا في منطقة الشرق الأوسط في تاريخها الحديث والمعاصر. إذ لم تعرف المنطقة علي الرغم من كثرة الحروب فيها ملحمة بهذه البطولة وهذا التأثير القوي لحرب أكتوبر1973 التي مازال تأثيرها قائما في كل نواحي الحياة, ومازالت ذكراها تجدد في النفس مشاعر الوطنية والكبرياء, ومغزي الإرادة الناهضة بعد الهزيمة المروعة.
ولقد أصدرت الدوائر العسكرية الكبري في العالم شهادتها بالكفاءة النادرة للعسكرية المصرية وجنودها البواسل في هذه المعركة التي شهدتها أرض سيناء, وأصبحت درسا عمليا في التخطيط والتنفيذ. ويأتي احتفال هذا العام وقد تعانق شهرا رمضان وأكتوبر لتكتمل في نفوس المصريين ذكريات تلك الأيام المجيدة. ذكريات الحرب التي فاجأت الجميع بعد حملات التشكيك في قدرتنا العسكرية, وتابع العالم كله, مشاهد الرجال وهم يرفعون علم مصر وأقدامهم تعانق أرض سيناء بعد فراق طويل بالمعني وليس بالزمن. إنها مشاهد رائعة غزت عقول المصريين وسيطرت علي وجدانهم. واليوم نستعيد زمن البطولات والتضحيات واجتماع الأمة بكاملها علي قلب رجل واحد قبل التحدي علي الرغم من آلامه وتضحياته ومصاعبه.
ومهما تكن الكتابات عن حرب أكتوبر, فإنها سوف تظل أقل من أن توفي هذه الملحمة المجيدة حقها, وأقل من أن تعبر عن حجم التضحيات والبطولات التي شهدتها معارك تلك الحرب. وهنا نقول إن هناك جيلا كاملا من المصريين ولد بعد الحرب, ولم يذق طعم الهزيمة المروعة في يونيو67, ولم يعش تلك الفترة الفاصلة بينها وبين حرب أكتوبر بكل ما فيها من مشاعر اليأس والإحباط والأمل والرجاء, ولا يعرف كيف وقعت الحرب ولا كيف تم عبور القناة ورفع العلم المصري فوق بقايا خط بارليف, ولم يتابع حديث الدنيا عن تأثير العسكرية المصرية في نفوس المصريين, ولا كيف انتفضت الأمة من جديد, وصنعت نصرا غير مسبوق.
إن هذا الجيل, الذي اقتات طويلا علي كتابات وأقوال دعاة الهزيمة ونشر اليأس, له اليوم في نصر أكتوبر الأمل كل الأمل في دعم إرادة هذا الشعب علي مواجهة أي تحديات, والثقة كل الثقة في صناعة الأمل في غد هو بكل التأكيد أفضل كثيرا من الماضي. فالذين قادوا الأمة إلي نصر أكتوبر مازالوا يقودونها اليوم في مواجهة مصاعب التعمير والبناء والتنمية بالروح ذاتها والعزيمة نفسها. فأضواء أكتوبر لم تخب عن وجه الحياة في مصر علي الرغم من الحديث عن المشكلات وطغيان الطموحات.
ومازال قائد الضربة الجوية, التي مهدت لنصر أكتوبر, يقود الأمة في مسيرة نماء تواجهها أخطار كثيرة في الداخل والخارج, وفي محيط يخضع للفوضي أكثر مما يخضع للنظام. ومازال الرئيس حسني مبارك, وقد جاء من صفوف قادة النصر في أكتوبر, يقود أمته بعقلية المنتصرين الذين عرفوا ويلات الحروب وحجم التضحيات. وكان السلام بعد النصر خيارا له وهدفا لم يحد عنه.
لقد عرف مبارك في أثناء الإعداد للنصر حملات التشكيك في قدرات قواتنا المسلحة علي الحرب, واستعادة الكرامة التي داستها غطرسة القوة الإسرائيلية, ومهدت لها الفوضي التي سادت بلادنا وقتها, ولكنها لم تنل من عزيمته هو ورفاقه, فكان نصر أكتوبر مفاجأة للجميع. واليوم في معركة البناء والسلام مازالت حملات التشكيك مستمرة في قدرتنا علي مواجهة ما لدينا من مشكلات. ومازال مبارك علي عزمه القديم غير عابئ بتلك الحملات وأهدافها ومن يقف وراءها في الداخل والخارج. وهو عزم صهرته التجربة الطويلة, وصاغته عقلية المنتصرين في الحرب التي شككوا فيها طويلا.
وهذا الجيل الجديد من المصريين لايعرف أسماء موشي ديان وجولدا مائير والساتر الترابي وحائط الصد المنيع, والقنبلة النووية اللازمة لتدمير خط بارليف الذي هوي تحت قصف المدفعية المصرية والذي اخترقته مدافع المياه بفكرة أحد المهندسين العسكريين المصريين. ولم يقرأ هذا الجيل ما قالته جولدا مائير عن حرب أكتوبر, حينما قالت:’ لم أجد صعوبة في الكتابة عن أي حدث مثلما واجهت في الكتابة عن حرب أكتوبر… ولكنها حدثت…. وهي لاتعني موقعة عسكرية, ولكنها تشكل مصيبة كبري وهاجسا كنت قد عشته وسيبقي دائما في فكري..’
إننا بحاجة إلي تحصين هذا الجيل, الذي لم يعش أيام النصر المجيد, ضد الأكاذيب التي تنهمر من حولنا تشكيكا في النصر الذي حققناه لنا وللعرب جميعا, فإسرائيل تريد التشكيك في النصر, وتحاول تصويره كنصر هزيل, وهناك قوي اخري تريد تهميش الدور المصري لتنفرد بالمنطقة, ولاتري بديلا عن التشكيك في حجم الانتصار الذي حققه المصريون وحدد ملامح التحرك السياسي في المنطقة لعقود طويلة. ومن حق هذا الجيل من المصريين أن يعرف جيدا تلك التضحيات وهذه الروح التي سرت في الجسد المصري, وأن يذكر علي الدوام الرجال الذين جاءوا بالنصر من بين أنقاض الهزيمة. وهنا لابد أن نعيد الاعتبار للرئيس الراحل أنور السادات الذي تعرض من بعضنا لنقد ظالم. فالزمان يباعد بيننا وبين أكتوبر73, وسوف تصبح مهمة المشككين مواتية بمرور الزمن للانقضاض علي هذا النصر ما لم نتحمل نحن مهمة تحصين الأجيال المقبلة حتي تستمر روح أكتوبر.
ولا أتجاوز الحقيقة حين أقول إن شيئا من التشكيك في إنجازات أكتوبر وما تلاها يأتي من الداخل. من أصوات تبدو كالأشباح تتراقص في المقابر. أصوات كانت في عصور الهزيمة تبرر كل ضعف وكل خطأ, وقد ملأت رؤوسنا بالشعارات, وأشعلت حماسنا, وعطلت داخلنا صوت الحكمة. واليوم تحاول تلك الأصوات العودة إلي الأضواء التي لاتطيق الابتعاد عنها. حيث خرجت علينا بفرية جديدة هي أن التاريخ يمضي في الاتجاه الخطأ, لسبب بسيط هو أن هؤلاء لا يمارسون دورهم في صناعة التاريخ وتوجيهه, ولايريدون لغيرهم أن تكون لهم اليد العليا في توجيه حركة التاريخ نحو الطريق الصحيح. ولم ينتبه هؤلاء الذين عجزوا عن صناعة الأحداث وتحولوا إلي مؤرخين لها, إلي حقيقة أنهم يخوضون في تاريخ مازال شهوده أحياء وشواهده قائمة, وهم يعلمون أن آفة الأخبار رواتها, وأن من يتصدي للكتابة في التاريخ عليه أن يقبل الاتهام بالكذب.
وهؤلاء الذين يتصدون للتشكيك في أكتوبر وماتلاها هم أنفسهم صناع هزيمة يونيو والمدافعون عنها والمبررون لها, وهم المعارضون لكل تحرك يخرج علي تصورات الستينيات, في إنكار واضح لمعني الزمن والتغير والتطور. وهم أيضا الشاهد الوحيد علي ما يروون من أحداث, بل لايكتفي الكثيرون منهم بذلك, وإنما نراهم حريصين علي أن يلقوا في عقولنا أنهم لم يكونوا شهودا فقط بل موجهين وصانعين للأحداث التي عايشوها, ومحركين للشخصيات التي عاصروها. فإذا وقعت الأخطاء فلأن الجميع لم يمتثل لنصائحهم, وإذا تحقق النجاح فهو ثمرة توجيهاتهم وآرائهم. وقد تحول هؤلاء إلي أساليب رواة السير الشعبية, حيث يكتنف الغموض المهيب الأحداث التي لاتخضع لمنطق أو عقل في تسلسلها.
وعلي الرغم من أن التاريخ لايمكن أن يؤخذ من السير الشعبية علي شاشات التليفزيون وصفحات الصحف, فإن الواقع الإعلامي الذي نعيشه حاليا يعطي هذه الوسائل اليد العليا في تكوين الوعي العام بالأحداث الحالية والقريبة, إذ لم يعد هؤلاء يقنعون بفضيلة الصمت او حكمة الإنصات.
و هنا نقول إنه حفاظا علي الوجدان الوطني لجيل من المصريين, لم يعد يفرق بين ستينيات القرن العشرين وستينيات أي قرن آخر, يصبح لزاما علينا ألا نتركه فريسة لرواة السير الشعبية, يشكلون بالافتراءات وعيهم, ويبنون في رؤوسهم عوالم لم تنشأ في أوطانهم, ثم يستثمرون تلك العوالم الوهمية في النيل من حاضر لايمكن بحال مقارنته بما كان في مصر قبل حرب أكتوبر عام73.
إن مصر وعلي الرغم من استراتيجية الحفاظ علي النصر مازالت في مرمي الخطر بحكم الرصاص الذي ينتشر عشوائيا في المنطقة من حولنا. وهذا الوضع يفرض علينا الحفاظ علي ضمير الوطنية في نفوس المصريين بعيدا عن المهاترات السياسية وتصفية الحسابات لحساب قوي في الداخل أو الخارج. وليس أهم من أن يعي الجميع حقيقة ما قمنا ونقوم به بناء وتسليحا وتعميرا.
إن نصر أكتوبر مازال متجددا في حياة المصريين, وينبغي الحفاظ عليه من محاولات التجني عليه وإفراغه من مغزاه السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فلقد فتح هذا النصر الطريق أمام السلام, ففرضت مصر كامل سيادتها علي كامل ترابها الوطني. وحصنت مصر أرضها بقواتها المسلحة. وحافظت علي ترابها الوطني بالسلام وهو خيار المنتصرين. وهكذا فإن أرض مصر محصنة أكثر من أي وقت مضي بالرجال والعقول والقراءة الحكيمة للواقع من حولها.
لقد حاولت قوي كثيرة أن تجر مصر خلال العقدين الماضيين إلي مغامرات تضعف من حصانة أرضها, ولكن عقلية المنتصر الواثق لم تستجب لتلك المحاولات حتي أصبحت مصر واحة للاستقرار في هذه المنطقة الملبدة بالغيوم والشكوك والتهديدات.
وفي الذكري الرابعة والثلاثين لحرب أكتوبر نوجه التحية لرجال القوات المسلحة, ولذكري الشهداء الذين فاضت دماؤهم من أجل اليوم الذي نعيشه أعزاء والمستقبل الذي نبنيه لأجيالنا الجديدة.
osaraya@ahram.org.eg