خطايا الحكومة.. وإنجازاتها

نعيش صيفا ساخنا, ونشهد ورشة عمل حقيقية, فهناك حيوية في كل مكان, ورغبة جارفة لدي المسئولين ورجل الشارع في تجاوز مرحلة مرت بنا من التباطؤ في النمو, والعمل علي توفير مزيد من فرص العمل وتجاوز واقعنا إلي وضع أفضل, من هنا فإن حالة السكون أصبحت مرفوضة. واليوم وبعد3 سنوات من عمر الحكومة الحالية نجد أنها قد صعدت إلي سدة الحكم جيلا جديدا من السياسيين الذين اتسموا بالقدرة الفنية المرتفعة, وتجاوزوا البيروقراطية الوظيفية في أعمالهم السابقة بشكلها التقليدي وحققوا نجاحات ملموسة كل في مجال عمله, وكانت لهم إنجازاتهم التي تشير إليهم. وقد جاء اختيارهم علامة جديدة علي التغيير الذي حدث في مصر, وعلي أننا اتجهنا إلي رؤية مختلفة عن كل الرؤي السابقة, واستبشرنا بهذا التغيير.. ليس بالأشخاص ولكن بمنهجهم وبالطريقة التي تم بها.
ولم يكن هذا هو العنصر الجديد المختلف في الحكومة الراهنة, بل اتسعت الرؤية وامتدت إلي ما هو أبعد من ذلك, فلقد اختيرت شخصيات بارزة من قطاع الأعمال الخاص لمواقع وزارية مؤثرة في قطاعي الإنتاج والخدمات. وأدركنا جميعا أننا ندخل مجالا جديدا يضخ دماء حقيقية وعفية في شرايين العمل الحكومي, رغبة في تحقيق إنجاز مختلف وتغيير رئيسي, بل واستراتيجي في شكل العمل التنفيذي.
إن التجربة جديدة, والوقت الراهن صعب, فبالرغم من أن الوزراء جدد في مواقعهم فإنهم مطالبون بتحقيق إنجاز جديد أمام رأي عام متشوق وشغوف بالحرية. ولا تتوقف رؤيته للنجاح أو الفشل عند حدود التقييم الموضوعي لأعمال الحكومة بشكلها الراهن وانجازها علي الأرض, بل تمتد لمحاسبة وزرائها تراكميا علي أساس المسئولية الوزارية الواحدة, فالحكومة الحالية مسئولة عن الحكومات والوزارات السابقة عليها, بل ومسئولة عن تنفيذ السياسات في كل موقع ولدي كل مسئول.. من الوزير حتي أبسط موظف في أي مديرية محلية.
وعندما يخضع أداء الحكومة للتقويم يجب أن يكون التقدير مطابقا للواقع المحلي وظروفه وتبعاته ومتغيراته.. وألا يدخل في هذا التقويم سوء الإدراك أو تشويه عملية القراءة, وكذلك يجب أن نمتنع عن الإدراك المرضي الذي ينتاب البعض تاريخيا عن الحكومة, خاصة أننا أمام حالة حكومية جديدة لها رؤية مختلفة لتغيير وإدارة مصر نحو المستقبل.. فالحكومة لا تسعي بحكم طبيعتها إلي تزويق الكلام, وقد ظهر من اليوم الأول لتشكيلها إخفاق بعض أعضائها في التواصل مع الناس, وعدم قدرتهم علي كسب رجل الشارع, إذ إن هذا الشارع لديه تراث سابق في النظر إلي الحكومات, حيث يعتقد أنها لا تعمل لمصلحته علي الإطلاق.. ولا تحس ولا تشعر به.
والحقيقة أنني استشعرت أنها حكومة جادة منذ اليوم الأول لها عندما ركزت علي إنجازات كبيرة, ولست اليوم بصدد إعادة ما كتبته هنا عن العقل الاقتصادي المصري في سلسلة عطاء هذا الجيل فقد كان تحقيق معدل نمو مرتفع نسبته7% وخفض الضرائب20% بقانون عصري للضرائب, ومواجهة مشكلة التعثر بالبنوك التي فاق حجمها50 مليار جنيه.. خطوات اقتصادية هائلة أنقذت مصر من الإفلاس ومع ذلك فإنني أساير الرأي العام في نقد الحكومة.. وأمامي ملف عن أخطاء ارتكبتها فشوهت إنجازات كبيرة حققتها.
وأبدأها بمشكلات الخدمات. التي شغلتنا هذا الصيف.. وأهمها مشكلة نقص مياه الشرب التي ظهرت أولا في بعض المحافظات مثل كفر الشيخ والغربية.. ثم تبين أنها موجودة في بعض القري وتوابعها في الريف المصري.. وأيضا في بعض الضواحي بالقاهرة والمدن الجديدة.
ثم امتدت إلي نقص مياه الري للزراعات برغم أخبار تدفق المياه والفيضان الذي أثر في بلاد المنبع وأدي إلي زيادة موارد بنك المياه المصري في بحيرة السد العالي. ثم ظهرت مشكلة نقص الأسمدة.. وما أحاطها من أخبار مسمومة عن طريقة التوزيع, والزيادات المتتابعة في أسعار الخامات الزراعية, وتأثيرها علي المزارع محدودة الإمكانيات بعد أن ارتفعت أسعار الخامات وفي مقدمتها الأسمدة إلي أربعة أضعاف ثمنها, دون وجود أسباب حقيقية وراء هذا الارتفاع أو مبرر موضوعي له.
ولأن الإنتاج لم يتأثر والاستهلاك لم يتزايد.. فقد أشارت الأصابع إلي الخلل في عملية التسويق وغياب الحكومة في الرقابة, والفساد الموجود في بنوك التسليف وشبكات التوزيع.. وقيل إن هناك سوقا سوداء مفتعلة في مواد البناء التي ارتفعت أسعارها, ونقصا في رغيف العيش, وأيضا ارتفاعا في أسعار بعض السلع. وهكذا وجدنا الحكومة التي نجحت في معالجة السياسات الكبيرة, تدفع ثمنا باهظا لبيروقراطية الأداء في بعض أجهزتها.. إنها تدفع ثمن أخطاء السابقين في عدم وجود موظفين أكفاء يقدمون الخدمات للناس. ومن هنا ينبغي علي الحكومة أن تتحرك لمحاسبة من تسببوا في تشويه إنجازاتها الكبيرة من موظفيها. أو من تنازعوا المسئوليات داخلها وهو ما ستدفع ثمنه غاليا.
وبالرغم من أن نقص مياه الشرب قضية خطيرة فإن الحكومة لم تأخذها بالجدية المطلوبة, فهي تعرف أن هناك عجزا في المياه وقصورا في الأداء.. وكان يجب عليها التحرك المبكر وقبل حلول الصيف, لكي تشرح للناس كيف يتعاملون مع هذا النقص.. كما كان يجب علي المحليات والمحافظات التعاون معها لتلبية الاحتياجات المتزايدة للريف المصري وتوفير السبل المناسبة لتبصير الناس بالمشكلة.
ومن هذا المنطلق أري أنه يجب أن تتزايد قدرتنا علي التنبؤ بالمشكلات, ومن الضروري أن تكون لدينا أجهزة حكومية تتحمل مسئوليتها السياسية ولا تتهرب منها, ولكن يجب ألا تدفع حكومة حققت نجاحاتها بمؤشرات أداء اقتصادية عالية ثمن أخطاء صغار الموظفين وترهل أجهزة المحليات, والتي نعترف بضعفها وضعف الأجهزة العتيقة الأخري.. ولهذا الضعف أسباب كثيرة نعرفها جيدا, والتي تتمثل في التوظيف الكامل والبطالة المقنعة التي تحملها الجهاز الحكومي والمحليات.
أيضا علينا أن نواجه الأخطاء القديمة بعقلية متفتحة ورؤية جديدة لا تهدم العمل ولا تسعي للانتقام فتفشل في جميع سياساتها, ويجب أن نعطي لمن يعمل حق الخطأ, وإلا ستفشل كل سياساتنا. ويجب أن يكون تقويمنا موضوعيا بحيث لا يكون النقد لمجرد إرضاء الشارع فقط.
ولأن ظروفنا صعبة ومشكلاتنا متراكمة فإنها تحتاج إلي دأب ورؤية مبتكرة لمواجهة الأزمات. وأن تزداد قدرتنا علي مخاطبة الرأي العام.. وأن نعترف بالأخطاء ونسارع إلي محاسبة المخطئين.
………………………………………………………….
إن الحكومة عليها مواجهة أي قصور يشوب حركتها, وأي قصور متأصل في بيروقراطيتها السابقة بسرعة التحرك ومعالجة كل ما له صلة مباشرة بالمواطنين وتقديم الخدمات اللازمة لهم برفع كفاءة العاملين والرقابة الصارمة علي تقديم هذه الخدمات.
فلب المشكلة في مصر هو أن الخدمات المتاحة لا تكفي كما أن هناك قصورا في جودتها وكفاءتها.
ولاشك في أن الحكومة تأخرت في تطوير أجهزة المحليات ورفع كفاءة المدارس والمستشفيات وأقسام ونقاط الشرطة التي تقدم الخدمات للمواطنين, وإذا كنا نقول ذلك من باب الشفافية فإننا مطالبون بأن نقف معها عندما تتخذ أي قرار يدفع اقتصادنا ولو خطوة واحدة إلي الأمام.
ويجب ألا نتربص بمن يعمل ويتحرك لإجراء إصلاحات جادة في الاقتصاد وإلا فإننا نأخذ الحكومة بالشبهات. وما أقصده هنا هو القضية المفتعلة أو الجدل الذي أثير أخيرا حول عملية بيع بنك القاهرة, والتي أصبحت من أخطاء الحكومة.. مع أنه قرار اقتصادي صحيح ويساعدنا في استكمال عملية إصلاح الاقتصاد في القطاع المصرفي, فبيع بنك القاهرة وطرحه لمستثمر استراتيجي يهدف إلي جذب استثمارات خارجية يحتاج إليها الاقتصاد المصري بل يحتاج إليها القطاع المصرفي. ولأهمية هذا القطاع في تمويل الاستثمارات المطلوبة لتحقيق أهداف النمو الاقتصادي والتشغيل, فإن إدراكنا لهذه الخطوة يجب أن يتزايد فالمستفيد الرئيسي من هذا التطوير هو المواطن البسيط.
لقد نجحت الحكومة في إقامة كيانات مؤسسية كبيرة في القطاع المصرفي ويجب أن يثمن سعيها لجذب استثمارات في هذا المجال عاليا, ولا نهيل عليه التراب بالحديث عن أفكار عفا عليها الزمن.
فعملية الإصلاح المصرفي من أخطر السياسات التي حققت نجاحات كبيرة, لكن معدلات الهجوم عليها زادت لمحاصرة سياستنا الإصلاحية والإضرار بها من جانب كثير من القوي التي تعادي نجاحاتنا الآن. فلقد تغيرت الخريطة الحالية للقطاع المصرفي.. وأصبحت لدينا بنوك قوية بعد أن كانت كيانات ضعيفة مهلهلة. وأصبحنا نملك كيانات مؤسسية قادرة علي المنافسة برؤوس أموال كبيرة مع رقابة قادرة وبنك مركزي عصري يضع الجميع تحت رقابة صارمة تراعي مصالحنا الاقتصادية وتزيد من قدرة هذا القطاع علي تلبية احتياجات الاقتصاد والمستثمرين ورجال الأعمال كبارا وصغارا, بل تم توسيع قاعدة الملكية في هذا القطاع مما أدي إلي زيادة كفاءته وقدرته واستطاع تقديم خدمات جليلة للاقتصاد المصري والمشاركة في زيادة نموه وتطوره وواجه المخاطر التي أثرت عليه بزيادة معدلات التعثر في الاقتصاد, وهو ما يعد نجاحا قياسيا.. كما حدث تطوير بالبنوك يتماشي مع المعايير الدولية بالتعامل مع المديونيات المتعثرة الكبيرة والصغيرة وهو ما سينعكس علي معدل البطالة وتحسين المؤشرات الاقتصادية وتنمية قدرات العمل في مصر.
………………………………………………………….
وأطالب الرأي العام عند مناقشة قضايا الخصخصة ـ ومثلما حدث في بنك القاهرة ـ بمراعاة الاعتبارات التي تتعلق بمنهج إدارة شئوننا العامة وهي كيفية تحديد المقصود بالمنهج والاختيار الأكثر ملاءمة تحقيقا للمصلحة العامة.
ولكي نستطيع تحديد الاتجاه يفترض أن نضع أيدينا علي المسألة الجوهرية. وأن نميز بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي, فهل المسألة الجوهرية في بيع بنك القاهرة وفي ظل ظروفنا الراهنة وظروف العالم من حولنا تتمثل في الوطنية الاقتصادية في مواجهة الاستعمار كما كان الحال في بداية القرن العشرين؟ وهل عدنا لمواجهة الاستعمار, كما يحاول البعض إيهامنا.. أم أننا نبني اقتصادا وطنيا حرا؟
وهنا تكمن أهمية النظرة المنهجية لإصلاح اقتصادنا الوطني الذي لا تنقصه الوطنية, وإنما ينقصه استكمال الإصلاح الذي بدأناه منذ أول العقد الماضي, لكننا لم نتمكن من تحقيقه لأننا نراعي البعد الاجتماعي ومصالح الفقراء أكثر مما نركز علي البعد الاقتصادي, وتحقيق التطور والنمو وهما في الحقيقة متلازمان فبدون نمو وتطور لن يتحقق البعد الاجتماعي علي المدي الطويل.
وفي مسألة الإصلاح من المهم احترام مختلف الآراء والأفكار وقد التزمت مصر في عهد مبارك بحق الاختلاف, ولم يتم الحجر علي رأي, بل يحدث الاختلاف داخل الحكومة نفسها بشأن الأسلوب الأفضل في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الإصلاح.
وهناك فرق كبير بين أن نختلف ـ أحزابا وخبراء ومثقفين ومجتمعا مدنيا ـ بشأن بيع بنك من زاوية الإصلاح.. وبين تركيز القضية حول الاستقلال الوطني كما لو أننا في بداية القرن العشرين.
وفي هذه المشكلة المنهجية نحذر من خلط الأوراق فضلا عن تصنيف المتحاورين, ففي إصلاح اقتصادنا مصلحة كبري للشعب والمجتمع.. وكل ما يعطل هذا الإصلاح يضر المصلحة الوطنية فبدون اقتصاد قوي يضعف الوطن داخليا وخارجيا.
ولا اقتصاد قويا دون إصلاح حقيقي ولا إصلاح حقيقيا بغير إدراك قواعد النشاط الاقتصادي في عالمنا الراهن, وليس في عالم ماض كانت سمته الأساسية الكفاح ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي, ويجب ألا نكون مذعورين وأيدينا مرتعشة وأن نظن أن أشباح الاستعمار ستظهر لنا في حالة إصلاحنا اقتصادنا بجذب رأس المال الأجنبي.
وأخيرا أقول: إنه لا يصح أن تحكمنا عقليات الماضي, وأن نظل مشغولين بنظرية المؤامرة طوال الوقت.. وعلينا أن ندفع حكومتنا ومؤسساتنا إلي الأمام بالنقد البناء والتقويم الموضوعي.
osaraya@ahram.org.eg