مقالات الأهرام اليومى

قوة مصر في توازن سياستها الخارجية

تزداد مخاوف العالم من السياسة الأمريكية‏,‏ التي تراكمت أخطاؤها في منطقتنا العربية وانكشف وجهها القبيح أمام شعوب العالم وقادته‏.‏

وسنتوقف قليلا أمام القمة الروسية ـ الأمريكية التي عقدت أخيرا في منتجع عائلة بوش في كينيبنكبورت بولاية مين‏..‏ فبالرغم من الأجواء الحميمية التي أحاط بها الرئيس بوش ضيفه الرئيس بوتين‏,‏ فإن القمة فتحت الذاكرة والهواجس بين البلدين‏..‏ ليست القديمة جدا في عهد الحرب الباردة بين القوتين العظميين السابقتين‏..‏ قبل انفراد أمريكا بالهيمنة العالمية وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق‏,‏ ولكن أقصد هواجس حقبة التسعينيات بعد الحرب الباردة‏,‏ حيث تري روسيا الاتحادية وريثة الأتحاد السوفيتي المنهار أنها يجب أن تجتاز مرحلة المعاملة غير العادلة التي بدأت بخيانة الآمال التي قدمها الأمريكيون‏,‏ والتي كانت تعد روسيا ببناء نظام جديد بعد إنتهاء الحرب الباردة يمكن أن تنضم إليه وتندمج فيه تماما‏.‏

فالروس لم ينسوا أنهم الذين ساعدوا‏,‏ عبر فكر جورباتشوف‏,‏ في إنهاء الحرب الباردة‏,‏ وأن الرجل لم يتلق إستجابة أمريكية مماثلة‏,‏ كما يتذكرون أنهم اتخذوا خطوات تفوق الخطوات التي اتخذتها أمريكا تجاههم‏.‏

وعكست القمة بين البلدين المخاوف التي ظهرت في قمة الثماني الكبار في هيليجندام بألمانيا‏..‏ وأبرزها مايتعلق بالاتهامات المتبادلة خاصة في موضوع نشر الدرع الصاروخية التي تنوي أمريكا إقامتها في أوروبا الشرقية‏.‏

والحقيقة أن المخاوف الروسية مشروعة وحقيقية‏,‏ ولكن عند إثارتها تشرع الولايات المتحدة أسلحتها بالغة الغرابة‏,‏ وتتحدث عن الوضع الديمقراطي في روسيا وهي الأسلحة نفسها التي تستخدمها مع منطقتنا‏!!.‏

إنها صورة حية للنظام الدولي الراهن الذي تسوده الفوضي العالمية‏,‏ وتهدد استقراره في ظل غياب السياسات العاقلة من دول المجتمع الدولي تحت الزعامة الأمريكية‏.‏

لقد توقفت أمام هذه التطورات‏,‏ واسترجعت السياسات التي حكمت مصر خلال السنوات الماضية خاصة في مجال السياسة الخارجية‏,‏ والتي لم تأخذ حقها من التقويم والإشادة ببراعتها وتأثيرها في عالم اليوم‏,‏ فلقد سعت مصر بقيادة الرئيس حسني مبارك‏,‏ إلي بناء سياسة خارجية متوازنة مع دول العالم الخارجي‏,‏ في وقت مبكر‏,‏ وخاصة مع أقطابه‏..‏ فعلاقاتنا القوية مع أمريكا لم تمنع اقامة علاقات قوية أيضا مع أوروبا وروسيا والصين‏.‏

ففي الوقت الذي سعت فيه مصر للاحتفاظ بعلاقات قوية والقيام بزيارات مستمرة لمراكز صنع القرار في السياسة الخارجية سواء في أوروبا باريس وبرلين أو في موسكو وبكين‏..‏ لم تكن هناك مشكلات جوهرية في العلاقات المصرية ـ الأمريكية‏,‏ وذلك بفضل ما يملكه الرئيس حسني مبارك من رؤية إستراتيجية بعيدة المدي‏,‏ وإدراكه العميق مصلحة مصر الوطنية التي تقتضي تحقيق توازن كان مفقودا في سياساتها الخارجية‏.‏

………………………………………………………….‏
وإذا كان الرئيس مبارك هو الذي خطط دور مصر العربي ببراعة‏,‏ وأعاد علاقاتها بأشقائها بعد قطيعة طويلة‏,‏ مع احتفاظه بالسياسات المصرية الإقليمية نفسها‏,‏ الداعية إلي إقامة السلام الإقليمي في المنطقة‏,‏ فإنه بخيط رفيع وبمصداقية فائقة قد أثبت للأشقاء العرب أنه لاتناقض بين إقامة مصر علاقات مع إسرائيل وعلاقاتها العربية‏.‏ وأصبح اليوم هو الوحيد القادر علي أن يكشف أخطاء الجميع ويواجههم بالحقائق‏,‏ بل إنه الرئيس الوحيد في منطقتنا القادر علي مخاطبة الحكام والشعوب معا‏..‏ والحصول علي المصداقية والثقة من الطرفين‏.‏

بعد نظر السياسة كل لا يتجزأ‏..‏ وعند الحديث عن العلاقات الأمريكية المهمة لجميع دول العالم‏,‏ باعتبار أن أمريكا هي القطب الذي يتحكم في مختلف السياسات‏,‏ نجد أن الرؤية المصرية كانت تنظر إلي الأفق البعيد‏..‏ ورأت دائما أن اللجوء إلي سياسة القوة والحروب‏,‏ ستكون لها عواقب سلبية علي منطقتنا والعالم كله‏..‏ وأن المصلحة الوطنية والإقليمية كانت ومازالت تقتضي تحقيق توازن كان مفقودا في سياستها الخارجية‏..‏ ومن ثم فإن وضع أوراق السياسة الخارجية لمصر والعرب في السلة الأمريكية يمثل خطرا علي مصالحنا طويلة المدي‏.‏

ولعلنا ندرك بعد نظر هذه السياسة الآن بشكل جلي‏..‏ خاصة أنها ظهرت في وقت مبكر‏,‏ وقبل أن يستحوذ المحافظون الجدد في أمريكا علي كامل النفوذ والسلطة‏,‏ التي يتمتعون بها الآن‏.‏ ونشير هنا إلي أن الرئيس مبارك أدرك‏,‏ مبكرا وقبل غيره‏,‏ خطورتهم خاصة أن إرهاصات نفوذهم كانت موجودة في إدارة الرئيس الراحل رونالد ريجان التي تحكم البيت الأبيض‏,‏ حين تولي الرئيس مبارك المسئولية‏,‏ وبدأ في إعادة رسم سياسة مصر الإقليمية والعالمية‏,‏ والتي نعرفها اليوم بوضوح‏,‏ وتشير إلي القدرة الفائقة والمكانة العليا‏.‏ فقد استطاع‏,‏ في ظل هذا العالم المتغير‏,‏ أن ينسج مكانة مصر وقدرتها وفاعليتها في السياسة الخارجية برغم ظروفنا وأوضاعنا الداخلية التي نعرفها جيدا‏.‏

والحقيقة أن قوة تلك السياسة هي التي تجعلنا نشير إليها اليوم بكثير من الفخر والاعتزاز‏..‏ فهي تعكس للعقول السياسية‏,‏ خاصة للمنصفين‏,‏ قدرة وفاعلية‏,‏ ومكانة مصر‏,‏ التي لاتقوم سياستها علي ردود فعل لموقف معين‏,‏ أو خوف من تيار معين ظهر خطره بعد ذلك علي سياسة الولايات المتحدة نفسها‏,‏ ولكنها نابعة دائما من رؤية بعيدة المدي‏.‏

فعندما أعادت مصر نسج خيوط سياستها الإقليمية مع الأشقاء العرب كان معروفا لأمريكا أن تأثير مصر وقدرتها ينبعان من علاقاتها بمحيطها‏,‏ وقدرتها علي الدفاع عن مصالح أشقائها‏,‏ واستقرار إقليمها‏.‏ كما أنهما نابعان من إرادة داخلية لاتتزعزع لدي مصر بدورها العربي والإسلامي والإفريقي‏..‏ والحقيقة أن إعادة السير في هذه الاتجاهات بدأنا جميعا نجني ثماره وأصبحت الثقة العربية ـ المصرية‏,‏ والمصرية ـ الأفريقية تنبع من ثقة أشقائنا العرب والأفارقة والدول الاسلامية‏,‏ بأن مصر تعمل لمصلحة الجميع وذلك نوع جديد من الدبلوماسية والسياسة والتطور يعتمد علي نسج علاقات متبادلة قوية‏,‏ قائمة علي احترام مصالح الجميع والتنسيق والتعاون المشترك بلغة تتناسب مع التطورات في عالمنا المعاصر‏.‏

أما علي المستوي الدولي فقد سارت مصر في تحقيق التوازن نفسه مع جميع القوي‏,‏ ووسعت علاقاتها مع روسيا الاتحادية‏,‏ التي كانت تعاني التدهور وتتجه للعزلة‏..‏ غير أن التوازن والرؤية بعيدة المدي في سياسة مبارك جعلته يبدأ هذا التوازن مبكرا لأن الأمر يتعلق بمبدأ عام يؤمن به ويطبقه في السياسات الخارجية والداخلية علي حد سواء‏.‏

ولو أنه خضع لحسابات آنية لاستمر علي النهج الذي كان يري أن‏99%‏ من أوراق السياسات الأخيرة في أيدي الأمريكيين‏.‏

{{‏ لقد تغيرت السياسة وانفتحت الرؤية علي جميع دول العالم مع الرئيس مبارك من بداية الثمانينيات‏,‏ فقد كانت حساباته استراتيجية وليست تكتيكية‏,‏ وبعيدة المدي وليست آنية‏.‏ وهذا ليس تقويما بالسلب لسياسات مصر في السبعينيات التي وضعت قرار السياسة الخارجية‏,‏ أو رهنته بالسياسة الأمريكية‏,‏ حيث كانت الظروف والأوضاع الداخلية الإقليمية والدولية‏,‏ تستدعي نوعا من مثل هذه السياسة في ذلك الوقت‏.‏ وكانت العملية السلمية في مراحلها المبكرة‏,‏ كما أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية في عهد كارتر كانت لها أهداف مختلفة في مصر والمنطقة‏.‏

أقول لقد تغيرت الصورة وظهرت قضايا جديدة وظروف مختلفة تكيفت معها مصر بقوة‏,‏ عكست مكانتها الجديدة والتي تكشف الآن عن قوة دورها وتأثيرها في محيطها وعالمها‏.‏

وعلي الذين يقسمون الأدوار ويقيمون السياسات أن يعودوا إلي المناخ والظروف التي تتحرك فيها تلك السياسات‏,‏ وأن يعقدوا مقارنات بين مختلف القوي لكي يعرفوا من يلعب دورا استراتيجيا ومن يلعب دورا هامشيا وإلي أي قوي يستند‏.‏

{{‏ إن مصر تستند في قوتها وسياستها الخارجية إلي موقعها ودورها الجغرافي ورؤية الرئيس مبارك السياسية فائقة البراعة‏,‏ والتي جعلتها تتفوق من حيث الدور والقدرة علي دول أوروبية عديدة وأيضا علي دول بترولية ذات نفوذ مالي ضخم‏.‏

{{‏ وفي ظل محيطنا الإقليمي الذي يغلي وقضايانا العربية المعقدة هناك أكثر من عنصر يتدخل في مسار حسابات نتائج السياسات‏.‏ وإذا عدنا إلي القضية التي تتحكم في السياسات الإقليمية لاكتشفنا الآن أن أهم قضايانا ـ وهي قضية فلسطين ـ تحتاج إلي أن نحشد المجتمع الدولي لممارسة الضغط علي السياسة الأمريكية‏.‏ وأهم وسائل هذا الضغط هي تكوين شبكة علاقات دولية واسعة مع مراعاة التوازن في السياسة الخارجية‏.‏

ولهذا التوازن ثمن لابد من دفعه حين يكون النظام العالمي غير متوازن‏.‏ أو نظام قطب واحد تحتكر فيه دولة واحدة القوة الدولية‏.‏

لقد أثار اتجاه الرئيس مبارك إلي تحقيق توازن في سياسة مصر الخارجية‏,‏ الكثير من الجدل في بعض الدوائر الأمريكية علي الأقل‏.‏ ولعلنا نذكر النقد الذي يتعرض له في الإعلام الأمريكي نتيجة هذه السياسات‏,‏ ولكن كانت لدي الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعض الحكمة في أن تدرك مبررات سياسة مبارك‏,‏ لتحقيق التوازن لمصلحة وطنه وأمته‏.‏

ولذلك لم يؤثر ذلك سلبا علي المنحي الرئيسي للعلاقات المصرية ـ الأمريكية‏.‏ وإنما أدي الي فتور أحيانا واختلافات سياسية في أحيان أخري مثل الاختلاف الذي حدث عقب حرب احتلال العراق‏.‏

وكانت مصر هي الدولة الإقليمية المحورية في محيطها ومن الدول القليلة في عالمنا المعاصر‏,‏ التي تعاملت مع الوضع الدولي برؤية استراتيجية وأفق واسع‏,‏ فلم تخضع لإغراءات السير الأعمي وراء القطب الأعظم‏.‏ وهي إغراءات أغوت الكثير من دول العالم في نهاية العقد الماضي منذ أن بشر بوش الأب بالنظام العالمي الجديد عقب حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي‏.‏

لقد كان مبارك‏,‏ برؤيته بعيدة المدي‏,‏ يري أن العالم لايستوي في ظل قطب واحد مهيمن‏.‏ وأن النظام الأحادي لم يعد ملائما في هذا العصر لا علي المستوي الدولي ولا علي مستوي أي دولة‏.‏

………………………………………………………….‏
ولاشك في أن مبارك لايحبذ المغامرات الحادة ويفضل دائما حل الخلافات عبر الحوار‏.‏ وإذا كانت الإدارة الأمريكية الحالية قد أغفلت أهمية الحوار سنوات طويلة‏,‏ واعتمدت علي القوة المفرطة خصوصا في منطقة الشرق الأوسط بعد أحداث سبتمبر في عام‏2001.‏ فلقد آن الأوان لأن تغير سياستها وتواجه الحقائق علي الأرض‏..‏ فلن تستطيع أن تكسب حرب الإرهاب باستمرار التدمير‏,‏ ولن تحل ورطتها في العراق بزيادة قدرتها العسكرية‏,‏ ولن تحل مشكلة فلسطين بعجزها عن الضغط علي إسرائيل‏,‏ أو بتجاهل القضية‏.‏ فالأخطار التي يواجهها عالمنا ومنطقتنا لا سبيل إلي التغلب عليها إلا بتصحيح تلك السياسات‏,‏ وإنقاذ أمريكا من نفسها وأن تدرك قبل غيرها أن استمرار القيادة العالمية ـ علي النحو الذي شرحه الاستراتيجي الأمريكي البارز بريزنسكي في كتابه الفرصة الثانية ـ لن يحل قضايا العالم‏.‏ حيث تقول الرسالة الأساسية لهذا الكتاب أن عصر الإمبراطوريات قد انتهي وأن السيطرة المعتمدة علي القوة لاتدوم‏..‏ وأنه مازالت أمام أمريكا فرصة للقيام بدور قيادي عالمي يتجاوز القوة المادية إلي تناغم المصالح وتوازنها‏.‏

فهل تدرك أمريكا ذلك؟‏..‏ وهل يساعدها الجميع علي المضي في هذا الاتجاه؟
إن مصر ستقول لها الحقيقة كما تعودت أن تقولها دائما‏,‏ وهناك فرصة مواتية لنكررها من جديد في اجتماعات الحوار الاستراتيجي بين البلدين‏,‏ التي تبدأ في الأسبوع المقبل في العاصمة واشنطن‏..‏ ولنثق بأن الحوار والصدق والرؤية الثاقبة‏,‏ كلها صفات أعطت سياسة مصر القوة والمصداقية في عالمنا المتغير‏,‏ وأعطت لدورنا القدرة والمكانة التي نعتز بها‏.‏
osaraya@ahram.org.eg

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى