مقالات الأهرام اليومى

قمـة شـــرم الشـــيخ ‏..‏ ودور ومكانــة مصــر

عبر المشهد السياسي المصري في تطوراته وحركته السياسية ـ كعادته وقت الأزمات القاسية والصعبة ـ عن حيوية وقدرة فائقة علي مواجهة الأحداث برغم جسامتها وحدتها‏,‏ وجاء هذا التحرك وسط الفوضي العارمة في قطاع غزة‏,‏ المترتبة علي الحرب بين الفلسطينيين التي تهدد بانقسام حاد بين قطاع غزة والضفة الغربية‏,‏ وبخروج سلطتين فلسطينيتين متحاربتين علي أرض مازالت تحت الإحتلال الإسرائيلي البغيض‏,‏ وهو تحرك محسوب بدقة وسط صمت عربي وإقليمي ودولي‏.‏

فالواقع أن قمة شرم الشيخ‏,‏ التي عقدت الإثنين الماضي‏,‏ قد كسرت حاجز الصمت‏,‏ وأظهرت بوضوح من يعمل‏,‏ ومن يحاول أن يستفيد من الكوارث العربية‏,‏ فلقد تبين بعد أحداث غزة الخطيرة أن أطرافا دولية بل وإقليمية تسعي إلي تكريس الوضع الراهن ومن مصلحتها عزل غزة‏,‏ وهكذا اجتمع التطرف حول جثة الأحداث‏..‏ ففي الوقت الذي بارك فيه أحمدي نجاد والظواهري معا أحداث غزة ونتائجها‏,‏ وكان بند عزل غزة عن الضفة الغربية هو رقم واحد علي جدول أعمال أولمرت ـ بوش‏..‏ في هذا الوقت كانت الصورة أمام القاهرة تقول‏:‏ إن هناك أطرافا دولية وإقليمية وعربية من مصلحتها تكريس الوضع الراهن‏,‏ وانفصال غزة عن الضفة‏,‏ أو تأجيج الصراع بين طرفي السلطة في غزة والضفة الغربية‏.‏

ومن هنا كان التحرك المصري السريع لمصلحة القضية الفلسطينية‏,‏ وليس من أجل مصالح ضيقة‏..‏ كما جاء أيضا من منطلق الحرص علي الوضع الفلسطيني والقضية التي عشنا من أجلها‏,‏ ويشهد التاريخ أن مصر هي الدولة الوحيدة التي لم تلجأ‏,‏ عبر مراحل الصراع في الحرب الفلسطينية مع إسرائيل إلي مؤازرة فصيل أو جناح علي حساب آخر‏,‏ بل إنها تعمل دائما لمصلحة الجميع‏,‏ وتطالب مختلف القوي العربية بعدم محاولة استقطاب أو استخدام الورقة الفلسطينية في قضايا جانبية أو إقليمية‏,‏ إذ ليس من مصلحة الفلسطينيين التشرذم أو الانقسام‏,‏ وعلينا جميعا تفويت الفرصة علي القوي التي تلعب في هذه الاتجاهات‏.‏

ولقد نجحت قمة شرم الشيخ ـ إلي حد كبير ـ في محاولة احتواء الأزمة‏,‏ وألزمت الجانب الإسرائيلي بعدم حصار الشعب الفلسطيني اقتصاديا‏,‏ وأعطت إشارة البدء لبعض الإجراءات التي تخفف معاناته‏,‏ ولعل هذه النتيجة تكشف نيات الأصوات التي تثير الفتن وتلعب علي وتر الحساسيات‏,‏ فلقد استبقت هذه الأصوات عقد القمة‏,‏ بإشاعة أن جدول أعمالها ينصب علي حصار حماس أو مواجهتها في غزة فحسب‏,‏ لكن تصريحات الرئيس حسني مبارك وأحاديثه جاءت واضحة ومحددة كعادته‏.‏

إن قمة شرم الشيخ ليست جديدة ولم تكن قائمة بذاتها‏,‏ وإنما كانت استكمالا لقمة أخري عقدت منذ عامين‏,‏ وخلصت إلي تفاهمات تم تنفيذها وأخري لم تنفذ‏,‏ وقد رصدت هذه القمة التطورات العديدة التي تحدث علي الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية والمنطقة برمتها‏,‏ وأيضا عملية السلام بما أصابها من جمود وأكدت أن إحياء عملية السلام رغبة مستمرة ومشتركة للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي‏,‏ ولباقي شعوب المنطقة والعالم من حولها‏.‏

والحقيقة أن خطاب مبارك جاء عميقا‏,‏ لأنه لم يخاطب المسئولين وصناع السياسة في فلسطين أو إسرائيل وحدهم‏,‏ وإنما خاطب أيضا الشعوب المستفيدة من السلام في محاولة جادة ومؤثرة لوقف العنف وحقن الدماء‏,‏ وفق أفق سياسي يصل الي الحل النهائي الذي يحقق السلام‏,‏ العادل والدائم‏,‏ بعيدا عن الإجراءات الأحادية والحلول المؤقتة‏.‏

………………………………………………………..‏
ولاشك أن رؤية مصر الشاملة لاتغيب في أي مؤتمر لتذكير الجميع بالسلام الشامل علي كل المسارات‏,‏ ولذلك لاننسي المسارين السوري واللبناني‏,‏ مع اعترافنا بأن طريق السلام الصعب والشائك لايعني التوقف عن السير فيه‏,‏ ولذلك لم يركز الرئيس خطابه علي المتحاورين داخل المؤتمر‏,‏ بل غطت أحاديثه للصحافة والتليفزيون كل جوانب التطورات علي الساحة الفلسطينية ساعة بساعة‏.‏

ونستطيع أن نقول‏:‏ إن قمة شرم الشيخ قد أعادت رسم السياسة العربية الواجب اتباعها لتحقيق الاستقرار للفلسطينيين ووضع قضيتهم علي المسار السليم‏,‏ كما ردت مصر منها علي محاولات التأثير علي قرارها ودورها لمصلحة قضايا إقليمية أو دولية لا تخدم قضايا الفلسطينيين‏,‏ وأيضا محاولات إقامة قواعد متقدمة لأطراف إقليمية لا تخدم القضية الفلسطينية وإنما تضع الأجندات الخارجية التي تخدم مصالحها‏.‏

وفي هذا الصدد يجب أن نتوقف أمام القمم العربية التي شهدتها مصر‏,‏ عقب مؤتمر شرم الشيخ وفي مقدمتها المباحثات السياسية بين الرئيس حسني مبارك والعاهل السعودي الملك عبدالله‏,‏ والتي جاءت بعد المؤتمر بـ‏24‏ ساعة فقط‏,‏ لتؤكد أن التنسيق العربي في أعلي مراحله‏.‏ فسياسة مصر في القضايا العربية خاصة الفلسطينية تتم بعيدا عن أي محاور‏,‏ وتحشد الرأي العام العربي وقواه المؤثرة حول قضية الشعب الفلسطيني بإصرار ودأب‏,‏ وهو ما سارت عليه القمة المصرية ـ اليمنية بما جعل جميع القادة العرب يرحبون بالسياسة المصرية وبقدرتها وفعاليتها علي الحركة في الوقت المناسب‏,‏ لوضع قضية الفلسطينيين في مكانها الصحيح‏,‏ برغم المخاطر التي تكتنفها‏,‏ نتيجة الحرب الأهلية والانقسام بين شطري الأراضي المحتلة غزة والضفة‏.‏

ولاشك في أن الرؤية المصرية التي تري أن دفع الفلسطينيين بكل أطرافهم الي احترام الشرعية الفلسطينية المتمثلة في الرئيس محمود عباس‏,‏ لا تعني الانحياز لطرف علي حساب آخر‏,‏ وإنما تؤكد ضرورة الانحياز للشعب الفلسطيني بجميع قواه وتياراته‏,‏ بما فيها حركة حماس نفسها التي ستكون من ضحايا الانقلاب الذي حدث في غزة‏,‏ والذي فتح الباب واسعا أمام المجموعات الأكثر تطرفا داخل الحركة‏.‏

فعندما نسترجع ما حدث نجد أن المجموعات السياسية في حماس‏,‏ وفي مقدمتها مجموعة إسماعيل هنية قد أصبحت مضطرة إلي أن تسلك مسارات ترفضها‏,‏ وبدلا من أن تواجه ماحدث بالشجاعة التي تتطلبها‏,‏ شجعت التطرف بالخطب الرنانة التي لا تحل المشكلات بل إنها سيطرت علي غزة‏.‏

وقد بدأت في الاعتراف بإسرائيل عمليا علي أرض الواقع‏,‏ ففي الوقت الذي كان فيه اجتماع شرم الشيخ معقودا لبحث الحل السياسي للأزمة الفلسطينية‏,‏ وفتح باب الأمل لكل الشعب الفلسطيني في ظهور دولته وتقرير مصيره‏,‏ كانت هناك اجتماعات علي مستوي أقل بين ممثلي حماس والمسئولين الإسرائيليين‏,‏ لكي يتفاوضوا علي تقديم خدمات الكهرباء والغاز والماء لقطاع غزة‏,‏ الذي أصبح تحت سيطرة حماس بعد انقلابها علي السلطة‏,‏ وهكذا أصبحت حماس التي انقلبت علي السلطة التشريعية‏,‏ تسارع إلي عرض التنسيق الأمني علي الإسرائيليين مقابل تسهيل الحركة علي المعابر‏,‏ كما سارع قادتها لتهدئة الإسرائيليين فأعلنوا علي لسان الزهار أنه لا صواريخ بعد اليوم علي المدن الإسرائيلية‏,‏ وكأنهم كانوا يطلقون الصواريخ حتي يصلوا إلي السلطة في غزة وليس لتحرير فلسطين‏.‏

وإذا كان التنسيق سيصبح قويا بين حماس أو جناحها المتطرف والإسرائيليين‏,‏ فلماذا يغالطون أنفسهم ويتشدقون بالمقاومة؟‏..‏ إن ما أقدمت عليه حماس يعكس الازدواجية بين الشعار المعلن والحقيقة أو السياسة التي تتبعها حماس صحيح أنه لا أحد ضد السياسة الواقعية أو العملية‏,‏ ولكن الازدواجية مرفوضة‏,‏ ويجب علي حماس أن تعود إلي أرض الواقع وتحاكم مرتكبي جريمة غزة‏,‏ كما يجب استكمال المسارات السياسية نحو السلام وليس إعاقتها واستخدامها كورقة في لعبة الصراع علي السلطة‏

فالواقع أن حماس تحاول أن تظهر أنها ضد الاتفاقيات والسلام‏,‏ بينما هي في الظلام تخطط لها‏,‏ وتريد أن تجمع بين كسب الرأي العام بالتطرف وتحقيق مكاسب سياسية بالاعتراف بالأمر الواقع والتعامل مع إسرائيل‏,‏ وهي اللعبة الخطيرة نفسها التي أقدمت عليها عندما استفادت باتفاقيات أوسلو‏,‏ ودخلت الانتخابات علي أثرها ثم جمدت العملية السياسية ورهنتها لعملية خطف الجندي الإسرائيلي‏(‏ جلعاد شليط‏)‏ الذي دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا لاختطافه‏

فلقد قتلت إسرائيل الآلاف واستخدمته حجة لتجميد العملية السياسية‏..‏ والأخطر هو أن هذه الجماعات المتطرفة ربما تلعب لحساب مصالح ضيقة وأموال قادمة من الخارج وتستخدم القضية الفلسطينية كورقة رابحة لإثارة الرأي العام‏..‏ وإذا كان الأمر كذلك فسوف يدفع وقتها هؤلاء الانقلابيون ثمنا باهظا‏,‏ لأن التاريخ لن يسامحهم‏,‏ فالفلسطينيون علي أبواب تغيير‏,‏ وأمامهم طريق لإقامة دولتهم‏,‏ ولكن التطرف والإرهاب عندما يدخل علي الخط لابسا المسوح الدينية فإنه يوقف النمو ويعوق التطور في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية‏,‏ وهو هذه المرة يراهن علي أخطر قضايانا وأكثرها عدلا‏,‏ ويحاول أن يخطفها ليجمدها‏..‏ والغريب أنه يحقق مصالح إسرائيل بشكل مباشر في حين يدعي البطولات والمقاومة‏.‏

إن هذا التطرف في حقيقة الأمر يسلم القضية الفلسطينية تسليم مفتاح لأعدائها‏,‏ والرهان الأكبر اليوم لحل القضية الفلسطينية ليس علي أمريكا أو إسرائيل‏,‏ أو حتي الرباعية الدولية ولكنه علي الفلسطينيين أنفسهم‏,‏ فهم مركز القوة لأنهم قادرون ـ في حالة توحدهم ونبذهم التطرف والعنف ـ علي اقامة دولة بمؤسساتها‏.‏

ولما كانت مصر تؤمن بأنه لا حل عسكريا لقضية فلسطين‏,‏ فإنها سوف تظل مستمرة في سعيها لفتح الباب أمام الحل السلمي‏,‏ وإزالة العوائق التي تحول دونه‏,‏ ولما كانت مؤمنة بأن الأهداف الكبري تتحقق عبر خطوات يمكن أن تبدأ صغيرة‏,‏ فإنها لا تدخر جهدا لتوفير المناح اللازم لبناء الثقة المتبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين‏.‏

………………………………………………………..‏
إن المؤتمرات المشتركة ـ ومنها مؤتمر شرم الشيخ الأخير ـ تعد خطوات جوهرية‏,‏ لفتح الباب أمام استئناف المسار السلمي في هذه الظروف بالغة التعقيد‏,‏ وقد توازي مع هذا الموقف المبدئي موقف مصر من رفض تجزئة الأراضي الفلسطينية‏,‏ أو الاعتراف بنتائج الانقلاب في غزة ووضعها تحت سيطرة المتطرفين في حركة حماس‏,‏ فهؤلاء أول من سيدفعون ثمن هذه الجريمة البشعة علي مستقبل القضية الفلسطينية‏,‏ وسوف تتحرك مصر لإعادة وحدة الفلسطينيين من جديد‏,‏ حتي لا ينجح سيناريو الضفة أولا الذي تتبناه الآن بعض الأطراف الإسرائيلية‏.‏

إن المشكلة الآن هي أن تفهم كل الأطراف الفلسطينية أن الوصول إلي الحل النهائي وإقامة الدولة الفلسطينية علي الأراضي المحتلة في عام‏1967‏ يجب أن يكون مع إسرائيل التي تحتل الأرض وترفض أن تسلمهم حقوقهم‏.‏

أما عن مصر فيعرف الجميع أنها في كل مراحل القضية الفلسطينية لم تسمح لصراعات الفصائل بأن تكون عائقا أمام دورها‏,‏ الذي لم تتخل عنه بالرغم من تاريخ الفلسطينيين الحافل بمثل هذه الصراعات ومحاولات التدخل الخارجي في شئونهم‏.‏

وتدرك مصر أن مأساة الفلسطينيين أمام التعنت والجبروت الإسرائيلي هي العامل الرئيسي وراء تدهور أوضاعهم وتمكين المتطرفين ومن يدعمونهم في المنطقة من شق الصف الفلسطيني وتوظيف القضية الفلسطينية في خدمة مشاريع قوي إقليمية لا تبحث إلا عن مصالحها‏,‏ ومن هنا فإنها تدفع شركاءها‏,‏ من الأطراف العربية والدولية‏,‏ لكي يؤدوا دورهم‏,‏ فالحقيقة أن انشغالنا بالشأن العربي وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة هو قدرنا الذي لا يمكن التخلي عنه‏..‏ نعم إن قدرنا هو أن ندعم أكثر قضايا التحرر عدالة في عصرنا‏.‏
osaraya@ahram.org.eg

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى