الديمقراطية والقانون

دخل المجتمع السياسي بانتخابات الشوري في11 يونيو2007 اختبارا حقيقيا في الممارسة الديمقراطية. وفي إطار تقويم مبدئي لأول انتخابات بعد تعديل الدستور الذي أصبح يحمل سمات جديدة ويعطي الأحزاب مساحات أكبر وقدرة أكثر علي تشكيل الحياة السياسية ـ تبرز عناصر جديدة نستطيع رصدها كالتالي:
أثبتت الانتخابات أن مصر دولة قانون بامتياز, وأنها لاتسمح باستخدام هذا القانون لمصلحة أي طرف. فعندما اعترض الحزب الوطني علي طريقة الدعاية الانتخابية التي قام بها بعض المرشحين, الذين استخدموا شعارات دينية, ولجأوا لاستخدام الدين كعلامة سياسية تميزهم بالمخالفة للدستور والقانون, استخدم حقه بالشكوي أمام اللجنة العليا للانتخابات. وفي دولة القانون أيضا نجد أن اللجنة المحايدة تحقق في الشكوي, ولاتصدر أحكاما, وإنما ترفع الأمر إلي المحكمة الإدارية العليا. وهذا يبرز الإشراف القضائي علي الانتخابات, وأنه حقيقة واقعة سواء قبل الانتخابات أو في أثنائها أو عند إعلان النتيجة.
وقد صدر الحكم باستمرار المرشحين في الانتخابات لعدم كفاية الأدلة, وهذه صورة واضحة وجلية علي أن في مصر قضاء سريعا وحاسما وقادرا ومحايدا. ومن واجبنا أن نبرز تلك الحقيقة التي تعطينا ثقة بأنفسنا ومستقبلنا, وقدرتنا علي حل المنازعات, وحسمها خلال المنافسات الانتخابية بتلك السرعة وهذا الوضوح. إنها علامة مستقبلية علي التطور, تعطي نموذجا لقدرتنا علي بناء الدولة الديمقراطية المستندة إلي قوة القانون ونفوذه. ولعلنا نطالب في مرحلة لاحقة بأن يكون احترامنا للقانون حرفيا, بعدم اللجوء أصلا للخروج عليه, وأن يتمثل هذا الاحترام بقبول الأحكام بلا اعتراض, بل بيقين أنه يحقق مصالح الجميع.
فعندما اعترض الحزب الوطني علي استخدام الشعارات الدينية لم يكن هدفه شطب هذا المرشح أو ذاك, ولكنه استخدم حقه, ومنع المنافسة غير المشروعة, وقد تحقق له ما أراد برفض المتنازعين الاعتراف بهذه الشعارات وبعدم كفاية الأدلة التي تثبت تورطهم بالخروج علي القانون.
وإذا اعتبرنا الانتخابات حلقة في تعزيز الممارسة الديمقراطية, وخطوة إلي الأمام علي طريق التطور الديمقراطي فإننا نشير إلي الأحزاب التي لم تدخل المعركة الانتخابية. فنحن نملك اليوم24 حزبا متنوعة الاتجاهات, وقد أصبحت جميعا في حاجة إلي تغيير كامل في سياستها الداخلية, بحيث تعمل من أجل أن تكون مؤسسات سياسية حقيقية ومؤثرة في الشارع السياسي. وأن تعرف أن معركتها الأساسية ستكون بين المواطنين, لكسبهم لصفوفها ودفعهم للمشاركة بلا تغييب أو تهميش, ولا تكتفي بالإصدارات الصحفية أو بافتعال مشكلات سياسية مع الحكومة أو الحزب الحاكم.
وأن تساعد في تنظيم الشارع وتفعيله, وألا تترك المعارك الانتخابية دون مشاركة, لأن استكمال تنظيمات أي حزب وترسيخ مكانته لا يتحققان إلا بالمشاركة وبالدخول في المباريات السياسية, أقصد الانتخابات, فهي الوسيلة الوحيدة لتفعيل المؤسسة السياسية وربطها بالناس. ومن هنا فإن علي هذه المؤسسة بكل أحزابها ضبط الشارع المصري وحمايته من الجماعات المحظورة وقوي البلطجية ومافيا تجار المخدرات.
لقد ثبت في انتخابات مجلس الشوري أن هذا المجلس يلقي اهتمام الشارع السياسي, ولذلك كان الإقبال علي الترشيح شديدا ومؤشرا علي أن التغيير الذي طرأ علي دور هذا المجلس في التعديل الدستوري قد وصل إلي الناس.. فهو الغرفة الثانية للبرلمان وشريك مجلس الشعب الغرفة الأولي في التشريع والرقابة. ولقد وصل عدد المتنافسين علي الفوز بـ88 مقعدا إلي نحو700 مرشح خاضوا الانتخابات, منهم547 مرشحا بعد الطعون والتنازلات والاتفاقيات بل المساومات الانتخابية المعتادة, بما يعني أن هناك7 مرشحين تنافسوا علي كل مقعد من مقاعد التجديد النصفي, وهو معدل مرتفع في انتخابات تتسم بصعوبة شديدة,
بسبب اتساع حجم الدوائر الانتخابية الذي يحتاج إلي قدرة خاصة للمرشح المستقل أو الحزب. فالمساحة الشاسعة للدائرة تساوي5 دوائر من مجلس الشعب. ولكننا بعد الاحتفاء بالمشاركة يجب ألا ننسي أن نسب مشاركة الناخبين مازالت دون المستوي, فوجود30% من الهيئة الانتخابية فقط لا يحقق التمثيل الأنسب والاختيار الأقوي, فكلما زادت نسب المشاركة استطعنا أن نحمي مؤسساتنا التشريعية من وصول فئات أو شخصيات نشكو من ضعف قدرتها علي تمثيلنا. فنحن لا ننكر أن المجالس النيابية قد وصل إلي عضويتها نواب لا نفتخر بهم, مثل نواب القروض والمخدرات وغيرهم من النواب الذين يرتكبون الجرائم, ولا يتصفون بخصائص النائب الذي يستحق تمثيل الأمة.
إن النظام الانتخابي المصري الحالي الفردي مازال يثير الكثير من علامات الاستفهام, ويشوبه الكثير من الشوائب. ونحتاج إلي إعادة النظر في هذا الأسلوب الذي لا يحقق ما نبتغيه بالكامل من العملية الانتخابية, فهو برغم بساطته وقدرته علي أن تكون هناك علاقة مباشرة بين النائب ودائرته فإنه لا يلبي التطورات التي نحرص عليها في المرحلة المقبلة من تقوية البرامج السياسية أو الحزبية, وإعلاء شأن المؤسسة علي الفرد بخلق الجماعية في العمل السياسي وإحداث تنمية حقيقية في الشارع المصري للفرز بين البرامج والرؤي السياسية, وإعطاء الأحزاب فرصا أكثر للتفكير. ولاشك أن تغيير النظام الانتخابي سيكون له تأثير سحري علي ديمقراطيتنا وتجربتنا السياسية علي صعيد الناخب والأحزاب معا. ولعلنا نفتح الباب للمناقشة للجمع بين دور المؤسسة أو الحزب ومكانة الفرد في الدائرة.
علي جانب آخر مازال يوم الانتخاب في مصر عملية صعبة ومرهقة لصعوبة تعرف الناخب علي اسمه في السجلات, وكذلك أسلوب المظاهرات ووجود البلطجية ومثيري الشغب أمام اللجان الانتخابية, وهو مايؤدي إلي وقوع عبء كبير علي الأجهزة الأمنية التي توجد بكثافة.. والحقيقة أن فك الاشتباك بين هذه القوي المختلفة لا يتحقق إلا بتطبيق كامل لنصوص القانون بوقف الدعاية الانتخابية بالكامل قبل إجراء عملية الانتخاب.
ويجب في الوقت نفسه الحرص علي كرامة الناخب وتيسير الخدمات له حتي يسهل عليه التعرف علي لجنته وإدلائه بصوته في هدوء وبدون تدخلات أو اضطرابات.. وهنا نذكر وزارة الداخلية بسرعة الانتهاء من تسجيل الرقم القومي لكي يتم استخدامه في الانتخابات حتي ننتهي من عصر قديم قام علي التذكرة الانتخابية, التي تسبب معاناة كبيرة للناخبين, فالانتخاب بالبطاقة سيكون حافزا كبيرا للمشاركة واحتراما واجبا للناخبين.
ولاشك أن وجود المنافسة الحزبية, وحرص كل حزب علي مشاركة أعضائه ودفعهم إلي التصويت سيكون اختبارا عمليا علي نجاح التجربة الديمقراطية المصرية علي أرض الواقع.
ومن الظواهر الإيجابية التي يجب احترامها في انتخابات الشوري2007 هي قرار لجنة الانتخابات العليا بتوسيع دائرة رقابة المجتمع المدني للانتخابات بمشاركة19 منظمة حقوقية متخصصة في شئون الانتخابات, حيث وسعت دورها منذ فتح باب الترشيح حتي يوم الاقتراع, ووصل عدد المراقبين إلي ما يقرب من ستة آلاف مراقب أشرف عليهم المجلس القومي لحقوق الإنسان. بل وسارع اتحاد العمال إلي المشاركة في الرقابة لحماية نسبة الـ50% للعمال والفلاحين. ويعد هذا مؤشرا قويا علي قدرة المجتمع المدني المصري علي الرقابة الداخلية, ومؤشرا واضحا علي التقدم المطرد في الممارسة الديمقراطية في مصر, بما يدحض آراء بعض عملاء القوي الخارجية, الذين يعملون ضد بلادهم في الخارج, بالمطالبة بتدخل الآخرين في أخص شئوننا الداخلية. ووصل غرورهم وغطرستهم وخروجهم علي القانون والشرعية إلي حد مطالبتهم قوي خارجية بمعاقبة بلادهم بفرض العقوبات وقطع المساعدات.
ولعلهم يدركون الآن مدي قوة مصر وقدرتها علي إدارة شئونها, وأنه ليس هناك مصري واحد يقبل تدخل الآخرين في شئوننا, أو حتي مشاركتهم في إدارة انتخاباتنا أو رقابتها. فنحن قادرون علي ذلك, ونملك المؤسسات والشجاعة الكاملة علي تصحيح تجربتنا وتنميتها باستمرار.
وسوف نكشف بكل وضوح وقوة أي عناصر خارجة علي القانون, حتي لو كانت لها أرضية في الشارع المصري تستغلها في استعداء الولايات المتحدة ومنظمات خارجية ضد بلادهم لطلب مساعدتها السياسية, أو للحصول علي دعم مادي أو سياسي. فهؤلاء يحاولون تشويه تجربتنا لتبرير عجزهم وانكشافهم أمام الناخبين باتهامات باطلة مثل تزوير الانتخابات, كما بلغت وقاحتهم إلي حد اختلاق قضايا وهمية وإثارة اللغط حولها.
فلقد تحملنا الكثير خلال الفترة الماضية من إثارة الصخب السياسي حول أي عمل تقوم به مصر, حتي وصل التشكيك إلي الإصلاحات السياسية وتحميلها ما لا تحتمل من أنها لا تتم لمصلحة الوطن, وإنما لمصلحة أفراد بعينهم. وهم أيضا يطرحون قضايا عبثية ثبت زيفها أمام الرأي العام.
إن الإصلاح السياسي, وظهور حزب قوي قادر علي أن يكون بوصلة للحياة السياسية يعطي الآخرين دروسا في كيفية العمل السياسي وممارسة النظام الحزبي, ولعله يفتح الطريق أمامهم للوجود والعمل. ولم يبق أمام النظام الحزبي إلا أن يخرج من مخاوفه القديمة وأن يقتحم التجربة بعمق وقدرة علي الوجود. فالمسرح مهيأ للأحزاب للعب دور أكبر في حياة مصر السياسية. ولقد ظهرت أمامنا بوضوح ومن خلال انتخابات الشوري الأخيرة, خطوة واقعية إلي الأمام لقطف ثمار الإصلاحات السياسية.
إن التطور الديمقراطي في مصر مازال في بداية الطريق وليس نهايته وبالنظر إليه واقعيا ـ بلا تشاؤم أو حتي تفاؤل ـ نجد أنه يعكس قدرتنا علي التطور والنمو, بل إنه يشكل في مضمونه رسالة واقعية تكشف زيف التشكيك الذي بدأ منذ طرح التعديلات الدستورية الأخيرة, خاصة فيما يتعلق بالإشراف علي الانتخابات ودور القضاء فيه.
إننا أمام برنامج قوي ومتجانس ومنسجم مع طبيعتنا وظروفنا السياسية نحو بناء بنية أساسية قوية للنظام السياسي المصري تسمح بقيام نظام ديمقراطي, يحقق أهدافنا ورغبتنا في نمو وتقدم اقتصادي وسياسي, بلا فوضي أو ردة كالتي تريدها قوة خارجية لا تعرف عنا شيئا, ولا تريد لنا خيرا, وإنما تسعي ـ عن طريق طابور خامس داخلي ـ إلي التدخل في شئوننا وإفساد محاولاتنا لبناء نظام سياسي قوي ومستقر يحقق أهداف شعبنا في التطور والنمو, ويعصمنا من أن ننزلق إلي ما وقع فيه جيراننا وأشقاؤنا من فتن داخلية وصلت إلي حد الحروب الأهلية, وانعدام الثقة بين القوي السياسية الداخلية.
والحقيقة أن بناء نظام سياسي قوي وديمقراطي ليس عملية سهلة كما يتصورها البعض في كتب الدراسات أو مراكز الأبحاث, وإنما هو عملية صعبة ومركبة تتم في ظروف معقدة, ونمو سكاني داخلي كبير, واضطرابات إقليمية وعالمية تؤثر في أوضاعنا الداخلية بالكثير من العناصر, أبرزها التطرف والإرهاب بكل أشكاله. ولكننا اليوم نقول بكل وضوح إن ما تحقق علي أرضنا من تطور ونمو في المجالين السياسي والاقتصادي لا يمكن طمسه أو إخفاؤه.
…………………………………………………………….
وإذا كنا قد رصدنا بكل دقة خلال الأسابيع الماضية عطاء هذا الجيل في مجالاته العديدة, وآخرها العطاء الاقتصادي, الذي يجعلنا الآن في موقف مختلف, وقدرة أكبر علي اجتياز صعوباتنا, فإن تجربة انتخابات مجلس الشوري تكشف واقعا جديدا وتطورا ملحوظا علي الصعيد السياسي علينا الإمساك به جميعا والتعاون علي تدعيمه. والارتقاء به في إطار التقدم المتواصل في الممارسة الديمقراطية. مع إدراكنا للسلبيات التي وقعنا فيها لتصحيحها, وتلك هي سمة القادرين علي التطور والنمو والذين لايتوقفون أمام الصعوبات مهما بلغت شدتها. فنحن قادرون علي تجاوزها, وعلينا ألا نغمض أعيننا أمام ما تفرزه أي انتخابات من ظواهر كريهة نرفضها, مثل تفشي دور أكبر لاستخدام العنف, أو ما يتكرر من تفشي ظاهرة دور أكبر لرأس المال وتزايد نفوذه الانتخابي, فهذا مما لا يمكن السكوت عنه بدءا من شراء الأصوات إلي استخدام بلطجية لمنع الناخبين من الإدلاء بأصواتهم, والتأثير علي معنويات المرشحين بشكل أو بآخر.
وسوف تتزايد قدرتنا علي حماية تجربتنا السياسية, ودعم التنافس بين الناخبين ليصبح تنافسا بين برامج وأفكار وسياسات, ولا يتحول الأمر إلي سوق رخيصة يكسب فيها الخارجون علي القانون أو أصحاب الإمكانات الاقتصادية الكبيرة.
إن قدرتنا علي تصحيح التجربة الانتخابية وفهم الشارع المصري سياسيا, سوف تجعلنا نبني ديمقراطية مصرية حقيقية. وأعتقد أن الانتخابات الأخيرة قد فتحت أمامنا بابا كبيرا للنقاش الحر الموضوعي حول النظام الانتخابي الأمثل لمصر وسوف نصل إليه بإذن الله.
osaraya@ahram.org.eg