حتي لا ننسي عطاء هذا الجيل4 العقل الاقتصادي المصري..

عشنا الأعوام الثلاثة الماضية ومازلنا نعيش في جدل سياسي لم يتوقف حول تحديث البنية السياسية للحكم في مصر, وبرامج الإصلاح السياسي التي طرحها الرئيس حسني مبارك لإعداد المجتمع السياسي المصري لمرحلة جديدة من التحول الديمقراطي.. والحقيقة أن هذه السنوات الثلاث قد أسفرت عن نتائج إيجابية عديدة, بل نستطيع أن نقول إنها تمثل في حد ذاتها مرحلة فاصلة في تطور الحياة السياسية المصرية. حيث تحقق خلالها ـ وللمرة الأولي ـ اختيار رئيس الدولة بالانتخاب الحر المباشر, وتم تعديل الدستور ليكون أكثر قدرة علي توجيه عصر جديد من الحياة السياسية في مصر. كما شهدت البلاد حراكا سياسيا غير مسبوق. غير أن هذه الإنجازات السياسية وما صاحبها من صخب وضجيج عبر وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية لم تكن وحدها حصاد الجهد الذي بذل في جنبات الوادي والدلتا. فلقد أصم الضجيج السياسي الآذان عن أن تسمع وتعي حقيقة ما كان يجري ومازال في صمت نسبي علي مسار آخر لايقل أهمية عن مغزي الإصلاح السياسي في مصر.
ففي دوائر الاقتصاد والمال والأعمال بذلت جهود قوية وصادقة عملت في ضوء باهت وبصوت كاد يضيع في خضم الضجيج السياسي الذي نشر بين الناس كثيرا من الضجر مما يقال انتقادا ونشرا لليأس والإحباط بين المصريين. وعملت عقول كثيرة علي دفع الاقتصاد المصري خطوات إلي الأمام ليسير جنبا إلي جنب مع مسيرة الإصلاح السياسي ولتخطو مصر علي طريق التنمية, خاصة أن لديها نظاما سياسيا اختار الديمقراطية منهجا وأسلوبا للحكم, وقدرات اقتصادية لازمة وداعمة لتعميق وتوسيع عملية التحول الديمقراطي التي لن تتوقف.
وفي الوقت الذي كانت فيه عقول هذا الجيل من المصريين تبذل المساعي المضنية من أجل تحسين مستويات أداء الاقتصاد المصري, وتعمل من أجل مستويات حياة أفضل لكل المصريين, كانت صيحات المناورين السياسيين وانتقاداتهم واحتجاجاتهم تحاول أن تنال من هذا الجهد وذلك العطاء وتستميت في أن تصرف هذه العقول عن أهدافها ومساعيها من أجل غد أفضل للجميع. كما حاولت عن عمد أن تمارس التشويش لكي لا يفهم الرأي العام حقيقة ما يجري من إصلاح اقتصادي واسع الخطي, بالمبالغة والتضخيم حينا لبعض مشكلاتنا الاقتصادية, والتهوين حينا آخر من الإنجازات والجهود التي تبذل من أجلها.
وحجبت تلك الأصوات الجنائزية عن كثيرين منا معرفة قائمة طويلة بأسماء عقول قطعت بتوجيه الرئيس حسني مبارك خطوات كبري إلي الأمام في إصلاح شئون الاقتصاد. فقليلون منا هم الذين يعرفون حقيقة مايجري في ساحة الاقتصاد, وهو كثير, ولم تصل ثماره بعد إلي الجميع.
ولكن رصدها يعطينا يقينا بأنها ستصل إليهم قريبا, ويدفعنا إلي أن نجعلها مسيرة لا تتوقف برغم الصخب السياسي. فوسط صيحات الاحتجاج وصرخات الانتقاد صدرت شهادات التقدير عن مؤسسات اقتصادية دولية وبيوت خبرة عالمية مرموقة, واعترفت بأن شيئا مختلفا قد تحقق في شئون الاقتصاد المصري, وأن مستقبلا واعدا ينتظر هذا الاقتصاد إن استمر هذا الأداء. ولكن مثل هذه الشهادات التقديرية لم تحظ من أوركسترا الغضب بأدني اهتمام, كما لو كان هذا الاعتراف بما تحقق يخص دولة غيرنا. فلقد اعتادت تلك الأصوات أن تقلل من كل إنجاز مهما يكن حجمه. ولكن من حق هؤلاء الذين اجتازوا بنا سنوات عجافا أن نبدي لهم قدرا من التقدير الذي يليق بما حققوه دون أن نلتفت إلي الضجيج الموجود في شوارعنا السياسية الخلفية.
فقبل عام واحد فقط وضع البنك الدولي مصر علي رأس دول العالم في مجال إصلاح السياسات التجارية. وانتقل تقريره بمصر مراتب كثيرة إلي الأمام بين دول العالم. وأكد أن معدل النمو الاقتصادي الفعلي في مصر يمضي إلي الأمام حيث بلغ4,9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام2005, بعد أن كان3.1% عام2003 ووصل هذا المعدل إلي5.5% في2006, و5.8% في2007, و6% في2008, ووفق ذلك التقرير فإن أسواق الأسهم ارتفعت في مصر أكثر من عشرة أضعاف وأنها تحتل أفضل منزلة من حيث الإصلاحات الجمركية, خلال الفترة من2000 إلي2005. وفي العام الماضي أيضا ذكر تقرير أصدرته الهيئة الفيدرالية الألمانية لمعلومات التجارة الخارجية, أن مناخ الاستثمار في مصر في تحسن مستمر منذ عام2004, وأن مصر أصبحت من الدول الرائدة بالمنطقة في جذب الاستثمارات الخارجية.
أما كيف انتقلنا مما يشبه الإفلاس الاقتصادي إلي دولة قوية متماسكة وقادرة علي تلبية احتياجات سكانها المتزايدة بمعدلات كبيرة؟
فتلك قصة أسطورية, تحسب لهذا الجيل ولقائده. فلقد واجهنا ظروفا اقتصادية قاسية في النصف الثاني من التسعينيات عقب حادث الأقصر المشئوم سنة1997, وبزوغ تيار التطرف والإرهاب القادم من خارج الحدود والمتأثر بالصعوبات التي واجهت المنطقة العربية, التي لم تستطع أن تجاري التطورات السياسية والاقتصادية المتسارعة في مصر, فكان علينا أن نواجه حربا أصعب وأشرس من الحروب الخارجية.. وهي حرب الإرهاب والتطرف والتي لانستطيع أن نقول إننا قضينا عليها بشكل كامل. فمازلنا حتي الآن نواجه ذيولها, وتشير تداعياتها العالمية إلي تزايد تأثيراتها السلبية خاصة حادث11 سبتمبر عام2001 في أمريكا, الذي فجر حربا أمريكية شاملة علي المنطقة الممتدة من أفغانستان إلي العراق, وكان من نتائجها أيضا ظهور الفتن الطائفية وذيوعها في كل مكان, حتي وصلت إلي الشام وفلسطين. كما كان للأخطاء الأمريكية في حروب الشرق الأوسط أثر بالغ علي مجمل أوضاع الشرق الأوسط.
…………………………………………………………….
ولقد أثرت تداعيات حرب الإرهاب الداخلية, وحروب وصراعات الشرق الأوسط, علي أوضاعنا الداخلية, وغيرت الأولويات وكانت سنوات التسعينيات الأخيرة حتي أعوام2003 من أصعب الفترات علي الداخل الاقتصادي المصري. حيث دفعت مصر والمصريون ثمنا غاليا لمواجهة الإرهاب والتطرف, وأيضا تداعيات أوضاع المنطقة الخارجية. أما اليوم فنقول إن سياسات التصحيح الاقتصادي التي بدأت في عامي2002 و2003 ستثمر تغيرا له تأثير قوي علي أوضاع مصر الاقتصادية الداخلية, بعد أن عدنا إلي الطريق الصحيح وارتفع الاحتياطي النقدي من14 مليارا إلي28 مليار دولار حاليا.
أيضا استقر سعر الصرف للجنيه المصري بعد أن شهد انخفاضات وصلت إلي40% فها هو يشهد حالة استقرار لم يشهدها من قبل حيث تحصل البنوك المصرية يوميا ما قيمته126 مليون دولار, بينما لا تستهلك أكثر من50 مليون دولار علي السلع والسياحة وغيرهما, ويضاف الباقي إلي الاحتياطي أو يتحول إلي مدخرات رأسمالية.
بل إن صندوق تحويلات المستثمرين الأجانب الذي كان يعاني عجزا بلغ250 مليون دولار تحول منذ عام2004 إلي فائض يصل إلي1700 مليون دولار, كما اندمجت شركات الصرافة في سوق الصرف, ولم تعد خارجة عنها. وأصبحت سوقا واحدة.
وقد سألت فاروق العقدة محافظ البنك المركزي المصري, الذي قاد هذه المعركة بكفاءة واقتدار: هل من الممكن أن نعود إلي حالة الفوضي في سعر الصرف مرة أخري كما حدث عقب حادث الأقصر؟ فشخص لي الموقف قائلا: لقد اختبرنا هذا النظام لسعر الصرف في مصر حتي الآن أربع مرات, حيث تعرضنا وتعرضت السوق المصرية لأربع حوادث إرهابية, ومع ذلك لم تتأثر السوق أو يهتز للبنوك رمش علي حد تعبيره, بما يشير إلي قوة وفعالية النظام ويؤكد أننا نتحرك صوب التغيير علي أسس قوية وسياسات ومؤسسات قادرة علي أن تتكيف بقوة مع عالمها, ومع المتغيرات وتصمد في الأحداث الكبيرة مهما تكن سلبياتها وتداعياتها.. ولعلنا نشير هنا إلي أهمية سعر الصرف باعتباره ترمومتر الاقتصاد إذا صلح صلح الاقتصاد, فما بالكم بهذا الوضع القوي والمتماسك في المستقبل, إذا أضفنا إلي تلك القوة ما حدث في سوق الاستثمارات الأجنبية التي وصلت إلي9 مليارات دولار في9 أشهر, ومن الممكن الوصول بها إلي ما بين10 و11 مليار دولار مع نهاية العام الحالي, وإذا رصدنا حجم العملات المتداولة في البنوك منذ ديسمبر عام2004 وإلي الآن, أي منذ سنتين ونصف السنة, والذي يقدر بـ73 مليار
دولار فيها فائض قدره14 مليارا علي الأقل, بما جعل مصر تصل إلي28 مليار دولار.. وهذا الفائض أكبر من كل احتياجات مصر من حج وعمرة واستثمار.
ويري العقدة أن السبب وراء انخفاض سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية لم يكن سوء الاقتصاد المصري, وعدم كفاءة الإنتاج, ولا فيما لدينا من فائض في الميزان التجاري, فقد صدرنا سلعا وخدمات أكثر مما استوردنا بنحو3.5 مليار دولار, فكيف نخسر40% في السعر؟.. إن السبب كان انعدام الثقة, ولقد ركزنا في هذا الصدد وزودنا البنوك بالكفاءات, فعادت5 مليارات دولار كانت قد ذهبت للخارج, فالمشكلة أساسها الثقة وعند ضبط السوق عادت الأموال, ولم يهرب الناس أموالهم للخارج.
ولكي نحافظ علي ما تحقق, فإنني أتفق مع تشخيص محافظ البنك المركزي بضرورة الإصلاح الهيكلي, ولعل النجاح في مواجهة مشكلة التعثر والمتعثرين, والتي أسهم الكثيرون في إيجادها رجال أعمال وبنوك ومناخ اقتصادي غير موات سيكون له تأثيره السحري علي أوضاع الاقتصاد المصري, والحل يسير في اتجاهات متوازية تتعلق بتعثر قطاع الأعمال العام, الذي بلغ32 مليار دولار, وهناك خطة علي ثلاث مراحل حققت نتائج باهرة.
وبالنسبة لتعثر القطاع الخاص فقد بلغ30 مليار دولار, واستطعنا معالجة65% منه, وهناك حاليا انتظام في السداد وفقا لخطة موضوعة.
أما خطط مصر لاجتياز التعثر ـ حسب وصف فاروق العقدة الدقيق المتزن المقل في التصريحات والأرقام الوردية ـ فسوف تنتهي في منتصف2008. والتعثر المتبقي سيكون في الحدود المقبولة والآمنة, ولكي نحمي سياساتنا الاقتصادية, يجب أن نحدد أن عملية الإصلاح البنكي هي الأخري تسير علي وتيرة عملية وقوية, فبعد أن كان لدينا64 بنكا, ورأسمال البنك أقل من100 مليون جنيه, أصبح لدينا39 بنكا برأسمال لا يقل عن500 مليون جنيه, وأصبحت جميع البنوك في مصر متوائمة مع القانون, ولديها ما يكفي من المخصصات, باستثناء بنكين. وقبل نهاية العام سوف يتم الانتهاء منهما. كما صححنا البنوك الأربعة الكبري. واندمج بنك مصر مع القاهرة, ليصبح لدينا بنكان كبيران هما الأهلي ومصر. أما بنك الإسكندرية فقد تمت خصخصته بطريقة ناجحة, تعد من أنجح عمليات الخصخصة في العالم, وبأسعار لم نكن نحلم بها. وأحضرنا أحسن بنك في إيطاليا هو سان باولو من أجل الوجود الإيطالي والأوروبي.
والحديث عن الإصلاحات الاقتصادية متواصل ولا يمكن أن يتوقف, خاصة في المجالات التي تدعم بعضها بعضا, مثل إلاصلاحات المالية في الضرائب والجمارك وإصلاحات الاستثمار وهيئة سوق المال. وإصلاحات الصناعة والتجارة, فهناك منظومة شاملة للإصلاح الاقتصادي في مصر, هدفها استمرارية زيادة معدلات النمو, إذ ما المانع في أن يستمر معدل النمو الاقتصادي لمدة20 عاما, وبنسبة8% سنويا, كما حدث في الصين التي ينمو اقتصادها بمتوسط10% سنويا منذ أكثر من عشرين عاما؟.
…………………………………………………………….
أعتقد أن المشكلة التي سوف تواجهنا من أجل تحقيق هذا الهدف هي عدم توافر العمالة المدربة المتعلمة, فإصلاحاتنا الاقتصادية تكشف عن قدرتنا علي النمو, بما لدينا من استثمارات كثيرة, ولكن سوف يأتي وقت لا نجد فيه عمالة تواكب هذه الاستثمارات, ولذلك ينبغي لنا سرعة الالتفات إلي منظومة التعليم والتدريب, فما نقوم به الآن لا يكفي, فهو بمثابة عملية حقن, فما قدمته الصناعة في هذا المجال ـ وقدره500 مليون دولار ـ لايكفي احتياجاتنا المتزايدة للنمو. وإذا نظرنا إلي الصين التي تجذب23% من الاستثمارات العالمية فسنجد أنها تستطيع استيعابها لأن عمالتها مؤهلة, وقد تم ضبط التعليم فيها لمصلحة العمل والنمو, وبرغم أن الإدارة الاقتصادية في مصر واعية بأهمية التعليم والتدريب في التقدم الاقتصادي والصناعي, فإن المسألة تحتاج إلي جرأة. ويجب أن نثق في أننا قادرون علي ذلك. ومن هنا حرصت علي إصدار كتابي عقلية المنتصرين في ذكري مرور40 عاما علي نكسة1967 التي كانت بمثابة إنذار دق أمام المصريين ناقوس الخطر, فصنعوا النصر العسكري في1973, ثم السلام ثم عادوا إلي المعركة الأكبر وهي بناء النظامين السياسي والاقتصادي القويين, اللذين لا يمكن أن يتعرضا لأي نكسة في المستقبل.
osaraya@ahram.org.eg