حتي لاننسي عطاء هذا الجيل من المصريين3 مصـر.. بعد40 عاما علي يونيــــــــو!

في التاريخ المصري القديم والمعاصر فاجعتان تقفان بين أكثر الفواجع إيلاما في حياة المصريين القدامي والمحدثين علي السواء. ومن المفارقات أن تجد بينهما شيئا من التشابه في الأسباب والنتائج معا.الأولي وقعت قبل ثلاثة آلاف وستمائة وسبعة وخمسين عاما والثانية يمر عليها اليوم أربعون سنة فقط.
في الأولي تبدد وعلي نحو مفاجئ وهم المصريين بأنهم في مأمن من الغزو بقوة الملك الإله الذي لايقهر, والذي يحمي رعاياه وحدود مملكته المقدسة. فلقد جاء الرعاة الهكسوس إلي مصر من الشرق بالعجلة الحربية والخيول وأسلحة جديدة لم يكن للمصريين معرفة بها فتغير كل شيء علي أرض مصر منذ ذلك التاريخ.
وفي الثانية جاءت قوي الغزو من الشرق أيضا لتبدد وهما شبيها بذلك الوهم القديم. حيث عشنا نحن المصريين المعاصرين في ظل وهم القوة والمنعة والمكانة والقومية والحماسة التي تحمي وتصون أرضنا, في ظلال قيادة سياسية استولت علي القلوب والعقول, فصرفتها عن أن تري حقيقة ما يجري بيننا ومن حولنا. وعقب الفاجعتين القديمة والحديثة حدثت تغيرات كثيرة علي أرضنا.
لقد كان غزو الهكسوس مصر إيذانا بعهد جديد زحزح الفرعون من ملك إله إلي مكانة أقل أصبح فيها ظلا للإله في الأرض. وبعد سنوات طويلة تمكن المصريون من طرد الهكسوس, وظفر بشرف طردهم رجال لم يكونوا سببا في مجيئهم, ولكنهم تحملوا مسئولية الإعداد والتخطيط وحفز الإرادة. وقد سلط التاريخ الضوء علي بعضهم مثل أحمس وتوارت أضواء التاريخ عن البعض الآخر, مثل: كاموزا بطل ملحمة إخراج الهكسوس من مصر. وكذلك فعلت الفاجعة الثانية فعلها, حين تراجعت مكانة الزعامة السياسية التي عجزت عن درء الكارثة والوفاء بالوعود الكثيرة بشأن ذلك العدو القابع عند حدودنا الشرقية. وخضعت تلك القيادة شيئا فشيئا لكثير من موجات الاحتجاج والعصيان في بعض الأحيان. وكان الوعي العميق بنكسة67 مقدمة لأن يتولي حكم مصر رجل دولة بدلا من زعامة طامحة تتجاوز قدرات الواقع بطلب المستحيل.
وعاش الهكسوس في أرض مصر سنوات طويلة, ولكن إرادة المقاومة لأول غزوة لأرض مصر لم تخب, فتم طرد الهكسوس, وعادت مصر إلي بنيها عزيزة قوية, وعرفت كيف تحمي بقوتها حدودها, وانطلقت تبني تاريخها العسكري والحضاري المجيد. وكذلك اقتطعت قوات الاحتلال الإسرائيلية سيناء من أرض مصر ست سنوات كاملة, حتي أعادها ابطال العبور في السادس من أكتوبر, لتبدأ مسيرة السلام, وتنطلق آليات بناء الدولة والمجتمع علي حد سواء.
وبين الفاجعتين هناك عامل مشترك يتمثل في الإرادة التي لم تهزم, والسواعد الصلبة التي حملت المسئولية, برغم عظم الكارثة التي حلت بالأرض والناس والآمال والطموحات.
…………………………………………………………….
لقد ولدت نكسة يونيو وعيا أعمق بالفاجعة, وكانت استجابة المصريين للتحديات التي جاءت بها نمطا فريدا من السلوك العام للمجتمع المصري, نمطا من الاستجابة يشذ كثيرا عن مساحات واسعة من تاريخنا الوسيط والحديث, حيث كانت الفواجع عادة تدفع بنا صوب الانكفاء علي الماضي, فنهرع إليه هربا من مواجهة أزمات الحاضر. ولم يكن نصر أكتوبر, الذي استهل به هذا الجيل عطاءه لمصر, ضربة حظ أو مصادفة حالفها التوفيق, وإنما كان محصلة عوامل كثيرة تكشف عن عمق الوعي بالكارثة التي حلت بالبلاد في يونيو67, وعنفوان الإرادة القادرة علي التحدي. وحينما وضعت الحرب أوزارها واستخلصت مصر حقوقها السليبة من مغتصبيها, كانت معركة أخري في انتظار هذا الجيل هي التنمية الشاملة واستعادة عافية المجتمع التي أنهكتها أربع حروب في أقل من ثلاثة عقود.
ثم جاءت حرب أكتوبر لسدة الحكم في مصر بقيادة مختلفة, ونمط من الحكم يناقض ما كان سائدا من قبل. جاءت برجل يتحمل مسئولية بناء دولة من المؤسسات, مستقرة وآمنة يمكنها السير في طريق التنمية. ولم تتطلع تلك القيادة إلي زعامة إقليمية يدفع المصريون ثمنها من مواردهم القليلة. بل حافظت لمصر علي دورها الإقليمي الفاعل, دون أن تتحمل الثمن الاقتصادي, وأصبح هذا الدور رافدا مهما من روافد دعم قدرات اقتصادنا القومي.
وكانت إرادة أكتوبر كفيلة بتحقيق طموحات المصريين في كل مجالات الحياة منذ اللحظة التي انتهت فيها الحرب. وكان علي هذه الروح القوية ـ التي سرت في الجسد المصري منذ لحظة الوعي بحقيقة كارثة67 وبلغت ذروتها في أكتوبر73 ـ إن تواجه رواسب قديمة دأبت علي مواجهة الواقع بمجد الماضي وأوهامه في بعض الأحيان.
وكان علي جيل أكتوبر أن يواجه تلك الرواسب التي أخذت مسارين كلاهما يتجه نحو الماضي.. فلقد اتجه أحدهما إلي ماض قريب, مازال الكثيرون منا شهودا علي نجاحاته وإخفاقاته ومن الغريب أن يجد هذا التيار بغيته في الفترة السابقة علي نكسة يونيو67, ليجعل منها نموذجا للقيادة والسياسة والعمران والاقتصاد ولايقبل المساس بها, ولا توجيه النقد إليها, ويراها أنصع صفحات تاريخ مصر, إن لم يكن تاريخ العالم. وأن إصلاح واقعنا لن يتم إلا بما كان متبعا في تلك الفترة. وتنكر هذا المسار لكل إنجاز تحقق, وأنكر علينا استيعاب معطيات العصر الذي نعيشه ومتغيرات العالم من حولنا, وكذلك التغيرات التي طرأت علينا, فصادر أحلامنا وآمالنا, إن هي خرجت علي أحلام وآمال ذلك الجيل الذي عاش قبل نكسة يونيو67.
وأزمة هذا المسار الفكري والسياسي أنه اختزل كارثة67 في مسمي النكسة, واعتبرها غلطة ومأساة حتمية, لم يكن بوسعنا أن نتجنبها, فهي قدر فرضته علينا ظروف خارجة عن إرادتنا هروبا من المسئولية. ولم يدرك هؤلاء أن نكسة يونيو كانت محصلة نهائية للنجاح والإخفاق في السياسة والاقتصاد والفكر والفن قبل حلول الكارثة. وكانت أيضا صورة أخري مما حدث عام1956, والفارق بينهما أن المجتمع الدولي أنقذنا من هزيمة مروعة في أثناء العدوان الثلاثي, وأجبر القوات الأجنبية علي الجلاء ـ دون نكران للدماء الذكية التي سالت من أجل الوطن ـ فاعتبرناها انتصارا مجيدا. أما في67, وحينما فشل المجتمع الدولي في أن يفعل ما عمله عام56, فقد اعتبرناها مؤامرة من القوي الدولية علينا.
وهذا التيار ـ برغم انحساره وتراجعه ـ مازال يعرقل مساعينا نحو النظر إلي الأفق الجديد, وإلي التفاعل النشيط مع العالم من حولنا, ووضع أجندة واقعية وحقيقية لمساعينا في الداخل والخارج, ولايجد هذا التيار في مساعيه دعما من واقع أو منطق, ولكنه يجد الدعم من ولع الشخصية المصرية بالماضي واستجابتها لدعاوي الرومانسية التي مكنت المصري من عبور أزمات واقعه في فترات مؤلمة من تاريخه الطويل.
لقد كانت الفترة السابقة علي نكسة يونيو أخصب فترات تاريخ مصر بالأحلام والرومانسية السياسية, التي باعدت بيننا وبين واقعنا, حتي جاءنا الواقع ـ من بين سحب الدخان وأصوات القنابل فوق رؤوسنا صبيحة يوم الخامس من يونيو67 ـ ليضع أمتنا في كارثة حقيقية.
أما المسار الآخر, فقد أجهز علي التاريخ ومفهوم الزمن في قراءته لميراث الأمة ولم يقنع بتجربة, ولم يعترف بتطور أو تغير, فأهال التراب علي القرون جميعها, ونصب نفسه حكما ومرجعا يمنح باسم الدين ماشاء لمن يشاء. واحتكر الحكمة وتفسير الدين وفهم أقوال الفقهاء والمفسرين وتأويلات العلماء علي مر القرون, وأراد أن يفرض علي الأمة ما تفكر فيه وما تنشغل به, وما تعمل من أجله حاضرا ومستقبلا. وانتقل هذا التيار من الفكر إلي السياسة, فأخضع الدين لتقلبات السياسة فأضر بالاثنين معا, وأصبح يمثل واحدة من أشد العقبات التي تواجه الأمة في مسيرتها.
واستثمر بقسوة فطرة التدين الراسخة في النفوس فانحرف بها عن صحيح الدين. وتنكر للعلم الذي هو من فرائض الإسلام, ونشر الخرافة وألحق بعضها بالدين. وأغري صغار السن وقليلي المعرفة والفهم بالخروج علي المجتمع, وترويعه, وقتل أبنائه باسم دين لم تعرف البشرية أحرص منه علي النفس البشرية وحرمتها. وأشعل حربا معلنة وغير معلنة علي الإسلام في العالم كله, وألحق بنبي الإسلام الأذي حين ارتكب جرائمه باسم سنة النبي الكريم. ولقي هذا التيار دعما هائلا من نكسة67, حين انطفأت في نفوس المصريين الأحلام, وتحطمت تحت وطأة الهزيمة الثقة, وتوارت آمالهم وانكسرت سواعدهم.
و سادت تفسيرات جديدة في أكثر حملات التسويق السياسي كذبا ووهما. والتي رفعت شعارات العودة إلي الدين, وكأن مصر قبل67 لم يكن يرفع فيها أذان ولاتقام فيها صلوات ولاتؤدي فيها زكوات وصدقات. وهكذا, وعقب هزيمة يونيو بدأت أوسع حملات التسويق السياسي لفكر هذا التيار بمساندة من الدولة اليائسة الباحثة عن مشجب تعلق عليه فشلها الذريع.
…………………………………………………………….
والحقيقة أن مازرعه جيل ما قبل67, كان علي جيل أكتوبر أن يتحمل مسئولية مواجهته: هزيمة ثقيلة, وأرض محتلة, وأحلام مبعثرة وأفكار مشوشة, وعدو لم يقنع بما حصل عليه. وقد صهرت حرب أكتوبر الجميع في واحدة من لحظات الدراما القومية المجيدة في التاريخ المصري. غير أن تلك القوي أرادت أن تعيد استثمار ما عملت من أجله, فخرجت علي روح أكتوبر, فنبت التطرف وظهر الإرهاب.
يقودهم فكر الرئيس حسني مبارك
ومع كل هذه التحديات استطاع هذا الجيل من المصريين أن يمضي علي طريق لم يحد عنه, برغم الصعوبات والعقبات, وقطع طريقا طويلا, تشهد كل خطوة فيه علي إنجاز تحقق. ومن الإنصاف لهذا الجيل أن نذكر بالتقدير والعرفان جهده في مسيرة الوطن في ظل ظروف بالغة الصعوبة, وهذا التقدير والعرفان يمنح هذا الجيل المزيد من الثقة في العطاء, والنظر إلي الأفق البعيد, لكي نري مستقبل أبنائنا فيه, ولا نعبأ بمن يريدون منا أن نمضي إلي الأمام ونحن ننظر إلي الخلف القريب أو البعيد!
osaraya@ahram.org.eg