مقالات الأهرام اليومى

قضايا الدستور الساخنة ‏..‏ وانقلابات الأحزاب

كان قدر النخبة السياسية في مصر أن تتحمل واحدة من المسئوليات الكبري في تطوير الحياة السياسية المصرية‏,‏ حين نهضت بالحوار والنقاش من أجل الوصول إلي تعديلات دستورية تخضع للمواءمة بين طموحات المصريين‏,‏ ومعطيات الواقع المحلي والإقليمي الراهن‏.‏ فقضية المواءمة تمثل أكبر التحديات التي واجهت المشاركين في هذه العملية السياسية المهمة‏.‏ حيث إن الطموحات العريضة التي أثارتها مبادرات الرئيس حسني مبارك خلال العامين الماضيين تمثل حقا مشروعا لاسبيل إلي إنكاره‏,‏ ولابد أن تلبي التعديلات المقترحة الجانب الأكبر منها‏.‏

لكن الظرف التاريخي الذي تمر به المنطقة بأسرها‏,‏ إلي جانب تطورات الحياة السياسية في مصر خلال نصف القرن المنصرم‏,‏ تفرض علي الحوار السياسي اعتبارات لاسبيل إلي تجاهلها‏,‏ أو التغاضي عنها‏,‏ أو الإقلال من أهميتها وتأثيراتها‏.‏ وإذا كان مفهوما أن الظرف الراهن يثير لدي البعض مخاوف من أن يكون مبررا للحد من ترجمة الطموحات العامة إلي واقع دستوري حي‏.‏ فإن هذا الظرف لابد أن يكون ماثلا وحاضرا بحجم الأخطار التي يحتويها‏,‏ وبحجم التهديدات التي يختزنها‏,‏ والتي يمكن أن تنال من أمن المجتمع واستقراره‏.‏

وعلينا ونحن نقترب من نهاية الحوار الطويل‏,‏ ونستعد لعرض ما انتهي إليه أوسع حوار لتعديل الدستور في حياتنا السياسية علي الشعب للاستفتاء أن نتوقف قليلا عند نقطة البداية وحصيلة النهاية‏.‏ فما بين البداية والنهاية تكمن الحصيلة الحقيقية لعملية تعديل الدستور‏.‏

كانت البداية الجديدة بعد الانتخابات الرئاسية الأولي في تاريخنا خلال ديسمبر من العام الماضي‏,‏ حين وجه الرئيس حسني مبارك رسالة إلي مجلسي الشعب والشوري تتضمن تعديل‏34‏ مادة من مواد الدستور التي تبلغ‏211‏ مادة‏,‏ وقد بدأت العملية إعمالا للمادة‏189‏ من الدستور‏,‏ والتي تحدد الطريق لإجراء أي تعديل في الدستور‏.‏ حيث مارس الرئيس مبارك حقه الدستوري بطلب تعديل تلك المواد‏.‏ ودعا جميع الفئات والتيارات إلي حوار حول تلك التعديلات المقترحة‏.‏

ولم نكن أمام تغيير الدستور‏,‏ بل كنا أمام مهمة محددة‏,‏ وهي النظر في التعديلات المقترحة في أربع وثلاثين مادة‏,‏ وهي تعديلات كافية للدفع بالحياة السياسية المصرية خطوات كبيرة إلي الأمام‏,‏ وقد خرج الحوار مرات كثيرة ليتناول بالتعديل عددا من المواد التي لم يطلبها رئيس الدولة‏.‏ وكان حوارا قويا وصحيا‏,‏ ولكنه في بعض الأحيان تجاوز حدود منافع الحوار إلي محاولة التشويش علي التعديلات المنصوص عليها‏.‏ وإذا كنا نقترب الآن من استفتاء الشعب علي ما انتهي إليه الحوار والجهد بشأن إعادة صياغة تلك المواد من الدستور‏,‏ فإن اللحظة الراهنة تفرض علينا البحث في الحصيلة التي توافرت لدينا حتي الآن منذ أن أعلن الرئيس طلب تعديل تلك المواد من الدستور‏.‏

ويبدو لي أن المرجع في تقويم تلك الحصيلة هو الأهداف التي حددها الرئيس من التعديلات التي طلبها وهي‏:‏

أولا‏:‏ تعزيز دور البرلمان في المراقبة والمساءلة‏.‏

ثانيا‏:‏ تعزيز وتوسيع اختصاصات مجلس الوزراء‏.‏

ثالثا‏:‏ توسيع المدي الذي تشارك فيه الحكومة رئيس الجمهورية في أعمال السلطة التنفيذية‏.‏

رابعا‏:‏ ضمان تبني النظام الانتخابي الأمثل الذي يكفل فرص تمثيل الأحزاب في البرلمان‏.‏

خامسا‏:‏ ضمان حد أدني من المقاعد التي تشغلها المرأة في البرلمان عن طريق الانتخاب‏.‏

سادسا‏:‏ تطوير نظام المحليات وتعزيز صلاحياتها التنفيذية‏,‏ والرقابة‏,‏ ودعم اللامركزية في أدائها‏.‏

وهناك أيضا هدف كبير آخر هو التمكن من إنهاء حالة الطوارئ‏,‏ التي طالت لمواجهة الإرهاب بكل تداعياته ومخاطره‏,‏ مع تحصين الشعب والمجتمع من تلك الآفة التي تهدد وجوده ومستقبل حياته ولقمة عيشه‏.‏

وفي ضوء تلك الأهداف يمكن أن نقدر حجم ما حققنا في الحوار عبر وسائل الإعلام‏,‏ وكذلك المناقشات في مختلف المنتديات والمجالس التشريعية‏.‏ والواقع أن تلك الأهداف التي تحققت إلي حد بعيد في ضوء الصياغات الأولية للمواد التي تم تعديلها‏,‏ لم تحظ بالاهتمام الكافي‏,‏ حيث جرف الحوار الكثيرين نحو قضايا لم تكن محلا للتعديل‏.‏ وعلت الأصوات فيها لتبعد عن دائرة الاهتمام تعديلات لها أهميتها في مستقبل الحياة السياسية‏.‏

…………………………………………………………………..‏

نزاهة انتخابات أم قضية القضاة؟
وقد أثيرت خلافات حول عدد محدود من المواد التي خضعت للتعديل‏,‏ وهي خلافات ينبغي النظر إليها في إطار الفقه الصحيح للحوار الديمقراطي‏,‏ فهناك خلاف بشأن الإشراف القضائي علي الانتخابات‏,‏ والتغيير المقترح للمادة‏88,‏ ومناط الخلاف فيما يبدو يتعلق بنزاهة العملية الانتخابية‏.‏ فنحن نكن للقضاة كامل الاحترام‏,‏ ولكن النزاهة لم تكن أبدا مقصورة ـ دون فئات المجتمع ـ علي القضاة وحدهم‏,‏ فالمجتمع المصري مازال بفئاته المختلفة قادرا علي الأداء النزيه والأمين‏

ثم إن التوسع في تفسير الإشراف القضائي يلحق الكثير من الأضرار بمصالح المتقاضين في ضوء التجربة القريبة‏.‏ كما أن البحث عن ضمانات نزاهة الانتخابات لا يمكن أن يتوقف عند حدود مقولة قاض لكل صندوق‏.‏ إذ إن هناك الكثير من الضمانات التي ينبغي البحث فيها‏,‏ حتي تأتي الانتخابات معبرة عن أصوات الناخبين‏.‏ ويعلم الجميع أن كثيرا من العوامل المؤثرة في نزاهة الانتخابات تقع خارج لجان الانتخاب وتنتج عن الأمية السياسية وضعف البني السياسية للأحزاب‏,‏ وتبني شعارات غير حقيقية‏.‏ ولايمكن‏,‏ في جميع الأحوال‏,‏ إنكار حقوق فئات كثيرة في المشاركة في الإشراف علي الانتخابات‏,‏ تحت دعوي أن النزاهة

معهم تتعرض للخطر‏.‏ أيضا فإن التعديلات المقترحة لاتستبعد القضاة‏,‏ ولكنها تتيح الفرصة لفئات أخري قادرة وراغبة في المشاركة في الأحداث التي تصنع تاريخ مجتمعها‏.‏

…………………………………………………………………..‏
الإرهاب عدوان علي الحريات العامة والشخصية
وحول قانون مكافحة الإرهاب أثير الكثير من القضايا الخاصة بالحريات العامة‏,‏ التي تتقاطع ـ من وجهة نظرهم ـ مع التعديلات المقترحة‏.‏ وهناك اتجاه لدي البعض بالترجيح المطلق للحريات العامة‏,‏ مع الحديث الحذر عن الإرهاب وخطورته‏,‏ وتأكيد التقاطع بين القضيتين‏.‏ والحقيقة أن الاتجاه نفسه كان واضحا ومعبرا بنفس الحجج والذرائع عن نفسه في معارضة تعديل قانون العقوبات من أجل مواجهة الإرهاب‏,‏ وقد نعي الكثيرون وقتها علي المصريين حريتهم‏,‏ التي سوف تضيع وتختفي مع تلك التعديلات‏

وجاء صدور القانون ولم يشهد أحد شيئا مما حذروا الناس منه‏,‏ إذ لم يعد الإرهاب قضية للحديث والتحذير‏,‏ بل أصبح قضية تحتاج إلي آليات حازمة وحاسمة لحماية المجتمع‏,‏ الذي يقع بكامله ضحية للعمل الإجرامي الإرهابي‏.‏ فالجريمة الإرهابية عدوان علي المجتمع‏,‏ تنال من بنيته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية‏,‏ والتعديلات المقترحة لاتتنكر للحريات العامة والشخصية‏,‏ ولكنها توفر آليات مواجهة لازمة وضرورية لمواجهة خطر يزداد ويستفحل في الداخل والخارج‏.‏

ثم إن قدرة الدولة علي مواجهة الإرهاب هي عامل له أهميته في تقديرات الإرهابيين بارتكاب جرائمهم في بلادنا‏,‏ ولابد أن يعي هؤلاء أننا توافقنا علي الاستعداد له ولجرائمه بكل ما يقطع الطريق أمامهم‏,‏ ثم إن قانون مكافحة الإرهاب يخضع الآن للصياغة التي لابد أن تأتي معنية بالحريات العامة وصيانتها‏,‏ ومحددة بالجريمة الإرهابية دون غيرها‏,‏ خاصة أن صياغة ذلك القانون تتم بمعرفة فقيه قانوني له تاريخه ومكانته‏,‏ هو الدكتور مفيد شهاب‏.‏

…………………………………………………………………..‏
انقلابات الأحزاب والممارسة الديمقراطية
إن مستويات الوعي بالدستور وعلاقته بالحياة السياسية ومستقبلها قد خطت خطوات كبيرة إلي الأمام‏,‏ فأصبح حديث الدستور جزءا من الاهتمامات اليومية للمواطن المصري‏,‏ وهو مستوي من الوعي لابد من الحفاظ عليه وتعميقه في الأيام المقبلة‏,‏ باعتبار أن ذلك الوعي ضرورة لتعميق الممارسة الديمقراطية‏,‏ وإعادة وجه الحياة الديمقراطية إلي الواقع المعاش بعد غياب طال مداه‏.‏ ولذلك كان انقلاب بعض الأحزاب علي التعديلات المقترحة‏,‏ والدعوة إلي المقاطعة والانسحاب من معترك الحياة السياسية بعد فترة من المشاركة‏,‏ تعبيرا عن رؤية لم تكتمل‏,‏ وانتهازية سياسية في غير موضعها‏.‏

فالأحزاب السياسية سوف تحصل بفعل التعديلات الجديدة علي الكثير من المكاسب التي يمكن أن تدعم وجودها السياسي‏,‏ وتمهد الطريق أمامها نحو مشاركة فعالة‏,‏ إذا امتلكت أدوات تلك المشاركة‏,‏ ولكنها فيما يبدو تريد المزايدة علي ما حققته من مكاسب بفعل هذه التعديلات التي تنقلب عليها اليوم‏.‏ وهي بتسرعها سوف تجني ثمارا لم تنضج بعد‏,‏ وقد كان الأولي بها أن تناصر تلك التعديلات وتدعمها‏,‏ حتي وإن لم تحقق كل آمالها‏.‏ فما تحقق منها اليوم كان بالأمس مطلبا عسيرا لديها‏,‏ ولاشك أن التعديلات الجديدة تمثل دفعة قوية لحياة حزبية سليمة ونشيطة‏.‏

وعلي الأحزاب أن تدرك أن وقت المناورات السياسية ـ وهي مشروعة في الحياة السياسية الديمقراطية ـ لم يحن بعد‏,‏ وقد كان جديرا بالأحزاب ـ التي تدعو إلي الانسحاب‏,‏ وتغييب المشاركة الشعبية في الاستفتاء علي الدستور ـ أن تتحسس مسئولياتها السياسية في تلك اللحظة التي نقترب فيها من نقلة نوعية لن تستفيد منها تلك الأحزاب فحسب‏,‏ بل والحياة السياسية المصرية بأسرها‏,‏ ثم إنني أتساءل‏:‏ هل تريد الأحزاب السياسية طريقا ممهدا سهلا وميسورا للوصول إلي البرلمان‏,‏ وتشكيل الحكومة بنصوص الدستور؟

لقد خاضت بعض الأحزاب تجربة مقاطعة أحداث سياسية مهمة‏,‏ واكتشفت أنها بتلك المقاطعة قد همشت دورها ووجودها‏,‏ ولم تحقق شيئا من تلك المناورات‏.‏ فالتحدي الذي يواجه الأحزاب في كل الديمقراطيات هو أن تخوض معترك الحياة السياسية‏,‏ وألا تكتفي بالانسحاب المعبر في كل الأحوال عن ضعف واعتراف بعدم القدرة علي المواجهة‏.‏

فالدستور ليس شأنا حزبيا يلبي مطالب كل حزب وينحاز إلي فلسفته‏,‏ وإنما هو وعاء وطني يحتوي الجميع‏,‏ ويعلو علي المصالح الحزبية‏.‏ ولذلك كان من غير المنطقي أن تثار قضية الالتزام الحزبي في مناقشة التعديلات الدستورية‏.‏ فالجميع يعلم أن الإجماع التام ليس من القضايا الميسورة في أي نظام ديمقراطي‏.‏ كما أن الحوار الديمقراطي يقتضي ألا يفرض حزب إرادته علي الأغلبية‏,‏ وعلي الأمة قبيل دعوتها لقول كلمتها‏.‏ فلدي هذا الشعب وعي كامل بما يحقق له آماله في غد أفضل‏,‏ وهو ما سوف تعبر عنه صناديق الاستفتاء‏.‏
osaraya@ahram.org.eg

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى