مخاطـــر الدور الإيراني في المنطقة

قدر للعرب أن يعيشوا في منطقة تتقاطع عندها ـ باعتبارات الجغرافيا الطبيعية والسياسية والبشرية ـ مصالح القوي العالمية المتغيرة عبر الأزمنة التاريخية المتعاقبة. وقدر أيضا أن تكون هذه المنطقة جزءا محوريا من الأحلام الإمبراطورية لقائمة طويلة من الأباطرة القدامي والمحدثين علي السواء. وليس صحيحا أن التناحر سكن هذه المنطقة منذ فجر التاريخ كما يحلو لبعض المؤرخين أن يرددوه. فلقد كان دائما نتاجا لموجات الغزو التي اجتاحت المنطقة, أو لتلك التي عبرتها في الطريق إلي أراض أخري. وفي كل الحالات قدر لشعوبها أن تعاني ويلات الأحلام الإمبراطورية عبر التاريخ. وكذلك كان الحال مع الفرس واليونان والمغول والتتار, ثم العثمانيين فالأوروبيين في العصور القديمة والوسيطة والحديثة. وما إن وضعت الحرب العالمية الثانية نهاية للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية حتي ظهرت الإمبراطورية الأمريكية. وأضافت الجغرافيا الطبيعية قيمة جديدة لعلاقة المنطقة بالإمبراطورية الجديدة بعد أن أصبح معظم احتياطيات النفط مخزونا في أرضها فتعاظمت أهميتها الاستراتيجية.
أيضا أدي التراكم التاريخي الطويل في هذه المنطقة إلي تعقيد لانظير له في أي منطقة أخري من العالم. وهذا التعقيد والتشابك بين الجغرافيا والتاريخ والمذهبية والعرقية أفرز نسختين من الواقع في المنطقة. واقع سياسي تحكمه الخرائط التي رسمت علي طاولة المفاوضات بين ممثلي القوي الاستعمارية خلال سنوات القرنين الماضيين, وواقع آخر غير منظور لاتعكسه الخرائط وإنما هو أشبه بشبكة مسارات المياه الجوفية المخبوءة في عمق باطن الأرض, ومن الصعب تتبعها أو اكتشاف الروابط فيما بينها.
والحقيقة أن ما يحدث الآن في المنطقة العربية يشير إلي أن الحالة الراهنة جاءت نتيجة أخطاء القراءة السطحية للخريطة السياسية الظاهرة, دون أدني اهتمام بما هو مخبوء في عمق المنطقة, فمنذ ثلاثة أعوام ونصف العام اجتاحت جيوش الإمبراطورية الجديدة بدعم من بقايا الإمبراطورية السابقة أرض العراق بأعذار وحجج كشفت الأيام للجميع زيفها, حيث رفعت تلك القوات مثل كل الجيوش التي تتابعت علي المنطقة من خارجها شعارات التحرير من الظلم الواقع بأهلها. ولكنها ـ مثل الجيوش السابقة أيضا ـ أنزلت بالشعوب ظلما يفوق الذي جاءت لتخلصها منه. ومن الإنصاف أن نذكر أن الذين هبطوا علي أرض المنطقة قديما وحديثا من الطامحين والطامعين وجدوا مشكلات كثيرة, ولكنها كانت في جانب منها بقايا هجمات المغامرين الذين سبقوهم, ومن جانب آخر كان القادمون الجدد مصدرا لإذكاء الصراع الكامن, وتوفير أسباب استمراره وتصعيده.
فالوجود الإمبراطوري الأمريكي في العراق ليس مسئولا عن الصراع العربي ـ الفارسي, أو الصراع السني ـ الشيعي, أو الصراع المسيحي ـ الإسلامي, فتلك أشكال من الصراع وجدت قبل أن تنشأ الإمبراطورية الجديدة بقرون طويلة. ولكن ذلك الوجود الإمبراطوري خرج بهذه الصراعات من مكمنها, وزاد من حدتها, ووفر كل مقومات استمرارها واشتعالها. ولم يكن يدور بخلد السادة الجدد أن تفجير نظام صدام حسين في العراق يمكن أن يفجر كل تلك المشكلات داخل العراق وخارجه, ليقف بالمنطقة بأسرها علي حافة الفوضي المؤدية للانهيار. ولم يقرأ قادة الإمبراطورية الجديدة الخريطة المخبوءة في أعماق المنطقة ليكتشفوا العلاقة بين ما يحدث في العراق, وما يجري في الصومال ولبنان وفلسطين وإيران وسوريا وغيرها من دول المنطقة.
وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من الاجتياح الإمبراطوري لأرض كانت هي الأخري في زمن بعيد عاصمة لإمبراطوريات سادت, ثم اندثرت, تقف المنطقة علي حافة الفوضي في الوقت الذي يعاني فيه ساسة الإمبراطورية وقياداتها العسكرية أعراض المأزق وآلام الورطة الكبري. وأصبح همهم الأكبر هو الخروج المشرف الذي تتولي وسائل إعلام الإمبراطورية تسويقه علي أنه نصر عسكري مؤزر..ولقد اعترف الرئيس الأمريكي جورج بوش بالفشل. والاعتراف بالحق فضيلة.. ولكنه لايستحق فضيلة الاعتراف بالحق حين طرح مبادرته الجديدة التي لم تجد لها نصيرا داخل الولايات المتحدة أو خارجها, وربما حظيت أهداف المبادرة بالتأييد, ولكن آليات العمل سوف تنتهي بها إلي الفشل الذريع, إذ لا أحد يرفض وقف الحرب الطائفية, أو نزع سلاح الميليشيات الشيعية, وإنجاز المصالحة الوطنية, وتغيير الدستور العراقي, ولكن أن يصبح الطريق إلي تحقيق هذه الأهداف هو الدفع بنحو21 ألف عسكري جديد إلي العراق, ورفض الالتزام بتحديد جدول زمني للانسحاب من العراق, فهذا ما لايمكن أن يحظي بالموافقة أو التأييد.
وربما كان الرئيس بوش حريصا في كل مساعيه علي إنقاذ ماء وجه الإمبراطورية في العراق ولكنه بالتأكيد غير عابئ بما خلفته سياساته هناك من مشكلات وأزمات, بل وفي المنطقة بأسرها, ولذلك فإن القوي العربية المعتدلة التي ظلت تقدم الدعم لكل خطوة تقترب بالعراق من إنهاء أزمته, هي اليوم صمام الأمان للحفاظ علي العراق ووحدة أراضيه وعروبته. كما يظل لهذه القوي المعتدلة دور حيوي بالغ الأهمية في الصراع الإيراني ـ الأمريكي المتداخل بشدة مع الأوضاع في العراق. فقد أصبح العراق نفسه جزءا من ترجيحات الحرب أو اللاحرب بين إيران والولايات المتحدة, كما تجد بعض دول الخليج نفسها في الموقف ذاته. وقد شهدت الأيام القليلة الماضية اندفاعا مرجحا نحو المواجهة العسكرية بكل ما تنطوي عليه من مخاطر هائلة.
…………………………………………………………….
بواعث القلق من إيران
وهذه التحركات تصيب العديد من العواصم العربية بل والأوروبية بالكثير من القلق من أن تكون الولايات المتحدة قد قررت السير في طريق المواجهة العسكرية مع إيران. صحيح أن لدي العرب شكوكا ومخاوف كثيرة من تزايد النفوذ الإيراني, ولكنها مخاوف لن تبددها المواجهة العسكرية التي قد تأتي بنتائج فادحة خاصة أن الإيرانيين يلوحون بتهديد أمن الخليج ليكون واحدة من أوراق الضغط علي الولايات المتحدة.
لقد عززت إيران في الآونة الأخيرة مظاهر قوتها وكشفت عن نيات تثير كثيرا من القلق بشأن مستقبل المنطقة ففي العراق تقف إيران علي قمة الأسباب المؤدية لاستمرار التوتر والعنف, واستبعاد أي تسوية محتملة للأوضاع في العراق. حيث تغلغل مئات الألوف من الإيرانيين في أرض العراق, وانخرط الكثيرون منهم في الميليشيات الشيعية, بينما تولي آخرون مهام تدريب العراقيين علي العنف ضد العراقيين والأمريكيين علي السواء. ويعلم الجميع أن إيران تبذل كل جهدها لكي لا يشهد العراق استقرارا أمنيا, وبالتالي تتحقق لها مصالحها في نهاية الأمر.
وفي لبنان بذلت إيران ـ ومازالت تبذل ـ الكثير من المساعي لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة من خلال حليفها في لبنان’ حزب الله’ مستخدمة في ذلك كل الأساليب التي تناقض مصلحة لبنان الوطنية. فلقد فشلت الوساطات الكثيرة من أجل إنهاء الأزمة اللبنانية, بل وتحطمت علي صخرة عناد المعارضة التي تريد الانفراد بالحكم لتحقيق المصالح الإيرانية. ومن أجل تلك المصالح يواجه لبنان مخاطر من كل نوع. فإذا نجحت المعارضة في إسقاط الحكومة, فسوف يتم عزل لبنان, ولن يجد أي دعم دولي لإعادة إعماره. أما إذا لم تنجح في إسقاطها واستمرت في تصعيد الأزمة فإنها سوف تحكم بالدمار الاقتصادي والسياسي علي بلد لم يتعاف بعد من أزماته القديمة.
وفي الشأن الفلسطيني لا أحد ينكر وجود إيران في الأزمة الفلسطينية الداخلية التي أساءت للجميع. فهي تعمل علي إسقاط الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن بدعمها حركة حماس, حتي تصبح لها اليد الطولي في إدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي, الذي يعلم الجميع أنها لاتريد نهاية له حتي تظل المنطقة مهيأة أمامها لتحقيق أهدافها.. ولا شك أن الموقف المصري من تسوية المشكلة الفلسطينية ليس بعيدا عن ملف العلاقات المصرية ـ الإيرانية. فالجهود المصرية لتحقيق تسوية للمشكلة الفلسطينية تتقاطع وبشكل واضح مع السياسات الإيرانية في المنطقة التي تعد أيضا عنصرا فعالا في تحديد مستويات التقارب والتباعد السوري من مفاوضات السلام مع إسرائيل.
وأخيرا تنشط إيران في اتجاه نشر المذهب الشيعي حتي في الدول التي لاتوجد بها أقلية شيعية, لأسباب يعلم الجميع أنها في نهاية المطاف ذات أبعاد سياسية تمهد الطريق لبعث أحلام الصفويين. ولم تعد المساعي الإيرانية تخفي علي أحد, ولم يعد مقبولا محاولات البعض الدفاع عنها أو تبريرها. فهي كما يصفها البعض تعيث في الأرض فسادا في كل الاتجاهات. وهناك أيضا من يراها أحد عناصر الفوضي غير الخلاقة في منطقتنا, ووصل الأمر ببعض أصحاب الخيال الجامح أو الذين يرون أن مايحدث في الشرق الأوسط مؤامرة كبري إلي أن يشيروا لوجود تحالف خفي بين الدورين الأمريكي والإيراني. وبأنهم لايستطيعون تفهم أن حجم الأخطاء أو الكوارث الكبري في السياسات الأمريكية قد أوصلها الي هزيمة نفسها في أخطر منطقة ـ كما حدث ـ أو تسليم المنطقة إلي أعدائها أو للفوضي أو جعلها علي شفا الحروب أو الانهيار وما يستتبعه من كوارث عالمية, وانتشار العمليات الإرهابية علي نطاق واسع لايمكن التحكم فيه.
…………………………………………………………….
ولست أجد في دفاع البعض عن الموقف الإيراني ونفي الأطماع الإيرانية عن المنطقة العربية إلا سذاجة أو دهاء مغلفا بكراهية الوجود الأمريكي في المنطقة, فأطماع إيران في منطقتنا ليست من مستحدثات السياسة في الشرق الأوسط. وليس لدي شعوب المنطقة أدني استعداد لاستبدال النفوذ الأمريكي بالنفوذ الإيراني.وعلينا أن نعي أن المواجهة العسكرية بين إيران والولايات المتحدة لو وقعت فإنها سوف تنذر الجميع بأخطار كثيرة في هذه المنطقة التي يكفيها ما بها من مشكلات وأوجاع.
osaraya@ahram.org.eg