مقالات الأهرام اليومى

كيف نبنى عراقاً جديداً بعد صدام؟

مستقبل علاقات العراق بدول الجوار

لسنا الآن فى وقت يسمح باستعراض غرائب عصر صدام حسين، الذى ينقضى سريعاً من خلال سابقة لم تحدث من قبل، ليبدأ عصر جديد ليس فى العراق فقط، ولكن فى الجزيرة العربية، ومنطقتنا التى كانت صانعة للتحولات الكبرى فى التاريخ، وهاهى تعود مرة أخرى تسهم فى تغييرات هائلة فى بنية النظام العالمى الجديد، وسيؤرخ للأزمة العراقية الثانية، بأنها صاغت نظاماً جديداً، ستبرز خلاله مكانة القوة العظمى الولايات المتحدة الأمريكية وقدرتها على اتخاذ قرارات ذات تأثير عالمى بعيداً عن الأمم المتحدة وفى النظام الجديد، نرى أوروبا، وقد تغيرت، بل انقسمت إلى أوربتين قديمة وجديدة، فلم تعد أوروبا التى نعرفها، التى كانت تعد نسيجاً موحداً، فأصبحت تمر بمرحلة إعادة تكيف وانسلخت منها أوروبا الجديدة التى تنضم سريعاً للتحالف الأمريكى القائد.

العالم الآن ليس هو الذى كان قبل أيام فقط، فقد حدثت تحولات عالمية عديدة، أما نحن فى المنطقة العربية فمشغولون بمعرفة مصير دولة عربية مهمة، مر شعبها بظروف حكم استبدادى طاغ، مارس أكثر أساليب القمع وحشية ليس ضد جيرانه وحدهم، بل ضد شعبه أيضاً فما مستقبل هذا البلد العراق وكيف نبنى عراقاً جديداً بعد صدام حسين.

عكفت على دراسة عدة بحوث حول هذا الهدف بعنوان How To build a new Iraq after Saddam حررها باتريك كلاوسون من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، واشترك معه خمسة من أكثر الخبراء دقة، بمستقبل العراق، وهم أماثريا بارام من مؤسسة جوستاف هاينمان للدراسات الشرق أوسطية، ورند رحيم فرانك، وهى أمريكية ـ عراقية، وكمران كاردغى، وألين ليبسون رئيسة مركز سيتمسون فى واشنطن ومايكل روبين، لكننى قبل أن أتعرض لهذه الدراسة المهمة أريد أن أقدم ملاحظة إيجابية فأثناء وجودى فى الكويت اكتشفت أن هناك مناخاً متفائلاً بالمستقبل فى تعميق العلاقات العراقية ـ الكويتية عبر التاريخ، لولا سابقة الغزو الصدامى للكويت التى قطعت تلك المرحلة وخلفت كثيراً من الشكوك والخوف بين الجانبي، وقد لاحظت أن هناك رغبة قوية لمستها على صعيد النخبة والمثقفين الكويتيين لتجاوز آثار الغزو، الذى يتحمل مسئوليته صدام حسين وجماعته، وليس الشعب العراقى وتبقى مسئولية المثقفين على الجانب هى إعادة الروح لقوة هذه العلاقات بعد إزاحة نظام صدام.

تشير رؤية هؤلاء الخبراء إلى أن أهداف أمريكا هى إيجاد نظام مستقر فى العراق بعد صدام حسين، يستطيع أن يواجه التحديات التى قد تنشأ بعد الحرب، وأبرزها الحفاظ على وحدة أراضى العراق التى يرى هؤلاء الخبراء أنه لا يشكل أى تحد رئيسى ولا خوفاً من خطر تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام عرقية هى الأكراد والشيعة والسنة، وذلك بسبب اعتماد العراق الكلى على النفط دخلاً أساسياً للدولة حيث لا تقبل أى من الطوائف العرقية الثلاث ضياع فرصة الحصول على نصيب من هذه الثروة، كما أن تركيا ستقف بشدة فى وجه الأكراد إذا حاولوا الاستقلال فى الشمال، فضلاً عما ستناله وحدة أراضى العراق من دعم سياسى عربى وعالمى، ومن ثم فإن العراق سيواصل الاعتماد على حكومة مركزية قوية مثل الدول التى تعتمد على النفط فى العالم كله.

أما جيران العراق فيجدون هذه الفترة مشوشة، ولا يرون ما يراه الغرب من أن التغيير فى العراق سيزيل التهديد الأمنى الخطير من المنطقة، ويعتقد بعضهم أن العراق الضعيف الذى يمكن احتواؤه أفضل من العراق القوى ذى السلطة المنتظرة، وقد يضطر جيران العراق إلى إعلان حالة الطوارىء على حدود بلادهم لمواجهة النازحين من العراق أو طالبى اللجوء السياسى.

أما التحديات طويلة المدى فترى هذه القراءة أنه بالرغم من بقاء حكم صدام حسين طويلاً فى العراق والصعوبة فى بناء مجتمع حديث فإن الجيل الذى عاش فى المنفى خلال حكم البعث أصبح يمثل النخبة التى يمكن أن تبني العراق الحديث الذى سيكون قادراً على القيام بدور مهم فى المواقع القيادية أو الاستشارية رغم أنه أكثر ميلاً إلى الغرب، وذلك لأنهم تمتعوا بمستوى عال من التعليم، وأتيحت لهم فرص أكبر فى السفر إلى الخارج، وكان للتغييرات الكثيرة الضارة التى وقعت فى العراق خلال العقدين الماضيين تأثير واضح فى توجهاتهم السياسية والعقلية.

لكن كيف سيكون شكل الحكومة العراقية الجديدة، يرى هؤلاء الخبراء أن الحكومة العراقية الجديدة التى ستخلف صدام سوف تعتمد على الأسلوب الذى ينهى مخلفات نظامه سواء كانت حكومة بعثية، وهو ما يشكل خطراً، أم حكومة عسكرية تظهر نتيجة لانقلاب يتم فى آخر لحظة بسبب الهزيمة التى توشك أن تلحق بالنظام من قبل قوات خارجية، وهذه الحكومة قد تقبل من الشعوب العربية لرغبتها ووعودها بتحقيق الاستقرار الداخلى أم حكومة وحدة وطنية تقوم بناء على إستراتيجية معدة سلفاً تمهد لفترة مدتها عام أو عامان لوضع دستور للبلاد، وستمثل المصالح السياسية والاجتماعية فى البلاد، ومن ثم فسوف تقوم بتغيير جذرى بنيوى يختلف عن الخيارين السابقين، ومهما يكن شكل الحكومة الجديدة وتكوينها فإن التحدى الأكبر الذى يواجهها هو نشر السلام والاستقرار فى سنواتها الأولى، وذلك يتطلب خلق مناخ أمنى وسياسى يشجع على التعاون، ويقضى على أسباب الانشقاق، وتأييد المصداقية الداخلية، والحفاظ على وحدة أراضى العراق.

أما الضغوط الإقليمية التى ستواجهها حكومة ما بعد صدام حسين فهى غالباً ستكون بسبب المخاوف المشتركة والمصالح المتصارعة من الدول المجاورة، وبالتالى عدم استقرار شئون هذه الدول الداخلية، وفى الوقت نفسه لا توجد دولة فى المنطقة تشجع قيام جيش عراقى قوى، بل كلهم يريدون عراقاً ضعيفاً نسبياً.

تواصل هذه الدارسة المهمة قراءة عالم ما بعد صدام فتؤكد على أن العراق الجديد لا يمكن أن نتخيله دون دعم عسكرى خارجى قوى، ولابد من اتخاذ إجراءات معينة لتجنب سفك الدماء والفوضى والنهب التى سوف تنتج عن أى إجراء عسكرى.

ومن هنا يجب إعادة بناء النظام القانونى لوضع مسودة دستور يضمن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتوازن النظام الحكومى، ويجب أن يقوم الدستور على النظام الفيدرالى فى تحديد علاقته القانونية مع الحكومة المركزية، ويمكن تأجيل سن القوانين الخاصة بالدستور لحين انتخاب مجلس برلمانى للتصديق عليها.

لكن أهم تحد سيواجه نظام ما بعد صدام هو الجيش الذى سوف يظل رمزا محترما للوطنية العراقية فى عيون الشعب العراقى، ومن ثم فإنه يمكن أن يصبح أداة لا غنى عنها ويعيد للعراق طبيعته بعد صدام، ولابد قبل قيامه بهذا الدور من تطهيره من الضباط المسيسين، ومن تنظيمات الحرس الجمهورى والحرس الخاص ويجب تنظيم دورات توعية عن دور القوات المسلحة فى الحكومات الديمقراطية لأفراد هذا الجيش، ونزع فكرة أسلحة الدمار الشامل من رءوس ضباط الجيش حتى تضمن الحكومة الجديدة الاستقرار.

وفى النهاية يؤكد هؤلاء الخبراء على أن المجتمع العراقى قد خبر أسوأ الأنظمة الدكتاتورية، وبالتالى سيقدر هذا المجتمع الحرية المتاحة فور أن تلوح فى الأفق، وستكون المعارضة الحرة سهلة الانقياد وراغبة فى الإصلاح لعلمها أنها لم تستطع الإطاحة بصدام وحدها، وتستطيع أن تلعب دورا مهما فى إرساء دعائم الديمقراطية، يساعد فى ذلك أن المجتمع العراقى متعلم تعليما جيدا، قياسا إلى المجتمعات العربية الأخرى، وهذا ما يساعد على تشكيل قاعدة صلبة يقوم عليها النظام الجديد إلى جانب العوامل الأخرى.

الطريق طويل، ولكن الأمل فى عراق جديد ليس خيالاً فى ظل وجود المصادر البشرية والمادية العراقية

لم تتح لى هذه المساحة الصغيرة أن أشير إلى كل ما فى هذه الوثيقة المهمة، لكننى حاولت أن أقرأ خريطة ما بعد صدام، وكيف سيكون وضع القطر العربى الشقيق بعد ثلاثين عاما من الحروب والاقتتال الداخلى، راجيا أن أرى استقرارا عربيا حقيقيا فى عالم لن يحترم إلا الأقوياء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى