مقالات الأهرام العربى

المخرج من السذاجة والسطحية والهلوسات والتوسل

المتابع للسياسة الخارجية هذه الأيام، ولمتاعب منطقتنا وآلامها فى مخاضها التعس، وظروف العالم، وهو يعيش حروبا اختلطت فيها الأسلحة، وتاهت الأهداف، ستنتابه حالة غريبة، أبسط تأثيراتها على عقله ووجدانه، هو أنها حالة من الفوضى الشاملة خلقتها السياسة الأمريكية التى تقودنا، ليس فى سيارة طائشة، لكن فى قمر فضائى، فقد مداره، ويدور فى فلك لايعرف متى يسقط، وما حجم الخسائر التى تنجم عن ذلك؟

وبالرغم من ذلك فإن إحدى قيادات الرأى والسياسة فى العالم الغربى، وأعنى بها المرأة الحديدية تاتشر، تقع فى تناقض حاد حين تصف الموقف، على حد وصف ميلتون، إن حالة أمريكا اليوم كحال رجل قوى يستيقظ من منامه، فقلاعها الحصينة التى اهتزت بعد رعب الحادى عشر من سبتمبر جعلت العالم كله يترقبها وهى تستجمع قواها، وتحشد حلفاءها، وتمضى قدما لشن حرب فى منطقة تتوسط المعمورة، ضد عدوها، وتاتشر تقصد »الإرهاب الإسلامى« كما أسميته.

أمريكا أثبتت لنفسها وللآخرين أنها بحق القوة العظمى الوحيدة، فهى تتمتع بمستوى من التفوق على خصومها الفعليين والمحتملين، وهو تفوق لا توازيها فيه أية أمة فى العصور الحديثة، إلى هنا ينتهى كلام تاتشر.

أما هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسى، فقد أخرجته الأحداث والتطورات الأمريكية وسياساتها من لياقته الدبلوماسية، حين خرج علينا بتصريح غير مسبوق بين الدبلوماسيين، فيصف تصريحات الرئيس الأمريكى الذى يقود العالم فى حروب عبثية ضد أعداء حاليون ومحتملين   كما تصفهم تاتشر   والحاليين، وهم جماعات وشراذم تعيش فى كهوف، ولا يمكن مقارنتهم عسكريا بالأمريكيين، حتى إن وصفهم بالأعداء أو القوة يعتبر شيئا مخزيا لليس للأفغان، لكن لمن يناصبهم العداء أصلا، أما الأعداء المحتملون فهم »محور الشر« الذى ينتظر دوره فى الضربة القادمة.

»فيدرين« وصف الموقف والتصريحات بالسذاجة والسطحية، وكان موقفا يصعب وصفه فى عالم السياسة بالمقاييس القديمة، لكن عندما يصل الموقف إلى ما نحن فيه، فهو تصريح جدى واقعى، ويستحق النظر والتأمل، بل والتحليل والدراسة، لأن الجيوش والأساطيل عندما تتحرك لمواجهة متمردين، ثم يتم تصنيف المعارك بالانتصارات والحروب القومية، فهو عبث حقيقى، ولا جدال فى ذلك، وعندما نصنف العالم بين الأخيار والأشرار   فى عالم تعددت ألوانه   فهذا قمة البؤس.

لكن الرد   وهو حق للآخر   سيكشف عن المستوى الذى نعيشه فى عالمنا الراهن، من دون أن نتخيل أننا سنصل إليه، فقد وصف الجنرال المحنك   وزير خارجية الدولة العظمى   تصريحات الوزير الفرنسى، بأنها عالم من »الهلوسات«، وهكذا وصلنا إلى قمة التناقض، وعجزت لغة الدبلوماسية المتراكمة فى كلمات رمادية ومنمقة عن وصف الأحداث، وانتقلنا إلى لغة رجل الشارع، لتسقط الحواجز بين أصحاب الياقات البيضاء والزرقاء، وتتساوى الرءوس، هذا على الصعيد العالمى.

أما على صعيد منطقتنا فى الشرق الأوسط، والصراع العربى   الإسرائيلى فقد وصلت الأمور إلى حالة من التردى وغياب الوعى، لا يمكن وصفها، فإذا كنا قد وقعنا فريسة سياستى السطحية والهلوسة، وهى اللغة المتداولة بين الأمريكيين والفرنسيين، فليس غريبا أن تكون هناك لغة أخرى، يريد لنا أحد وزرائنا للشئون الخارجية أن نتبعها مع الأمريكيين، وهى التوسل، التى وقف يدافع عنها، وكأنها فكرة مبتكرة أو دواء ناجح، يتوقع من خلاله أن ينقذنا من مأزقنا الراهن.

لكن وسط كل ذلك يجب أن نتوقف أما ما طرحه الأمير عبدالله بن عبدالعزيز   ولى العهد السعودى   بلغة راقية فى حديث عابر للكاتب »فريدمان« ردا على ما كتبه عن مسودة خطاب فى درج مكتبه تحمل مبادرة كاملة الأركان، عبارة عن الاعتراف الكامل والتطبيع العربى الشامل مقابل الانسحاب الكامل من كل الأراضى العربية المحتلة، بما فيها القدس وقيام الدولة الفلسطينية على أراضى 1967، لغة لم يخاطب فيها الأمير عبدالله المسئولين فى أمريكا أو فى إسرائيل، بل خاطب الشارع الإسرائيلى مباشرة، وحذر خلالها من سياسة العنف والجرائم التى يرتكبها شارون ضد الفلسطينيين، بهذا التصريح فجر ولى العهد السعودى، وأعاد التأكيد على طرح   قمة القاهرة 96 ، ورؤية مصر ورئيسها مبارك، وتصريحاته المتكررة للإعلام العالمى والإسرائيلى بأن السلام والتعايش لن يكون حقيقة بدون الانسحاب الشامل، والاعتراف بحقوق الفلسطينيين فى تقرير المصير وقيام دولتهم.

العرب يطرحون مبادرة، بل قنبلة جديدة، أعتقد بل أجزم أنها ستهز الإسرائيليين من الداخل، خاصة وسط هذا الظرف الصعب الذى يعيشونه، فقد حول شارون بعدوانيته المنطقة إلى لهيب من النيران، وأصبحت العمليات الاستشهادية وعدم توافر الأمن على الجانبين حقيقة معاشة، بل سقطت حواجز القوة، وأصبح الضعيف قادرا على المواجهة وإطلاق صواريخ تهز الأمن الإسرائيلى.

وشارون الآن يكرر تجربة لبنان فى عام 1982، ففى الوقت الذى كانت فيه لبنان مرشحة لكى تكون الدولة العربية الثانية قبل الأردن، لإقامة علاقات دبلوماسية وسياسية مع إسرائيل، دخل بيروت وشن حربا فى الجنوب، أدت إلى ظهور مقاومة عاتية لبلاده، وخلقت قوة فى لبنان قادرة على مجابهة إسرائيل فى أى وقت، بل إن المقاومة اللبنانية، التى كان لشارون فضل ظهورها، نتيجة طبيعية لعدوانيته وشهوانيته للقتل والتدمير، هى التى هزمت شارون وإسرائيل فى الجنوب، وأخرجتهم بدون تفاوض أو شروط، يكرر شارون المأساة الإسرائيلية، ويكاد الشارع الإسرائيلى يلتقطها بعد مرور عام على حكومته.

إن العنف الإسرائيلى وعدوانية شارون ستخلق مقاومة فلسطينية مسلحة، يستحيل هزيمتها، لأنها حرب بين الشعوب، ولا يمكن للجيوش أن تكسب الشعوب، خاصة إذا كانت لها حقوق، ويجب أن يدرك الإسرائيليون خطورة ما يرتكبه شارون فى حق السلام والتعايش قبل فوات الأوان، أعتقد أن لغة الأمير عبدالله ومقاومة الفلسطينيين وجمود عرفات فى »رام الله« لغة أفضل مما نراه فى عالم اليوم بين السذاجة والسطحية والهلوسات والتوسل، وانعدام الرؤية والفوضى العارمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى