المسيح المنتظر

يمر عام على أحداث 11 سبتمبر الكارثية فى نيويورك وواشنطن، ولا يتصور أحد أنه مجرد عام، بالرغم من أنه كذلك بحكم الزمن، لكن جسامة الأحداث المتلاحقة جعلت البشرية تلهث وراء التداعيات والتطورات لكى تمسك بيدها المتغيرات، أو تلاحقها لكى تستخلص منها الأسس أو طبيعة المتغير لتضعها أمام العقول المستنيرة عساها تستطيع أن تنير لتكشف للمتابعين والمتلهفين صورة الكون، وهو يعيش حالة حرب غريبة على طبيعته، ليست بين فريقين أو معسكرين متناحرين، أو بين أضداد معروفين أو واضحين، بل حرباً سرطانية، تنتشر داخل الجسم الإنسانى الواحد وتبحث عن مبضع جراح ماهر يستطيع أن يلملم الخلايا المريضة بين الجسم دون أن يصيبه بأذى يقعده بالكامل، أو يميت المراكز الحساسة، ويحوله إلى جسد مترهل بلا حركة أو حواس قادرة على التمييز أو الشعور.
هى حرب عشوائية لم ترها من قبل لذلك لا يمكن القياس من التاريخ على نتائجها، حرب لا تنتهى بسقوط التنظيمات الرسمية التى أعلنت الحرب عليها سواء كانت طالبان أم القاعدة حرب لا تنتهى سواء مات أم حتى اختفى الزعماء وللتحديد الدقيق الرموز الوهمية التى تعيش فى جبال أفغانستان،بن لادن والظواهرى وغيرهم، من الذين حملوا مشاعل ظاهرة التطرف الدينى للتنظيمات الإسلامية، التى حملتها الجهات الأمريكية مسئولية أحداث 11 سبتمبر، وأعلنت الحرب عليها للقصاص منها، أو لإنقاذ البشرية والحضارة المعاصرة من البربرية الجديدة التى انتحلت أو سرقت ديناً عالمياً يدين به أكثر من مليار ونصف مسلم فى العالم خمس البشرية كلها، لكى تضعهم ضد العالم، وأن تحشدهم وراءها بتبنى قضاياهم العادلة مبرراً للجريمة الشنيعة، ليس كراهية للولايات المتحدة أو للعالم المتمدن ليتحول من مجرمين إلى مدافعين عن الحرية والعدالة، متناسيين أن جريمتهم ليست ضد الغير بقدر ما هى فى حق القضايا العادلة التى يسرقونها، أو حتى فى حق دينهم السمح، الذى يحرم القتل، و يعتبر مقتل شخص واحد بدون جريرة قتلاً للبشرية كلها
جريمة 11 سبتمبر 2001 تعيش فى الضمير الإنسانى، ولا يمكن إغفال تأثيراتها، لأنها لم توقظ الولايات المتحدة فقط، ولكنها أيقظت العالم، وخاصة الشعوب الإسلامية التى استيقظت على خطر داهم، ليس معاداة الولايات المتحدة أو حرب الكراهية التى اشتعلت لدى المتطرفين ضد الطرف الأمريكى سياسياً وثقافياً، الذى ذهب يطحن فى التاريخ، ليستخرج جذوراً للحروب، ويمهد الأرض لكراهية جديدة، لكن العرب والمسلمين استيقظوا على خطر التطرف الذى يعيش متدثراً بالدين ويريد أن يميت أى جسم حى فى الأمة، أو حتى أى حركة بروز للتعايش والتكيف مع المتغيرات العالمية، وبالرغم من أن الكثيرين من المسلمين والعرب مازالوا غير مصدقين لما حدث، وأن التطرف الدينى الأصولى الممثل فى بن لادن أو القاعدة وطالبان والجهاد هم المسئولون المباشرون عن جريمة سبتمبر، أو هم وحدهم الذين خططوا ونفذوا هذه الجريمة بكل أبعادها وتأثيراتها، ليس على هذه الجماعة وحدها، ولكن على المسلمين والعالم.
ومبعث دهشة العرب والمسلمين، ليس الثقة فى بن لادن وجماعته، وأنهم لا يرتكبون هذه الجريمة، فهم فى نظر أغلبية الشعوب والحكومات العربية مجرمون، خرجوا على إجماع الأمة، بل إنهم أعلنوا الحروب علي شعوبهم ومنطقتهم قبل ارتكاب الجريمة فى الولايات المتحدة ولكن الغرابة ترجع إلى حبكة الجريمة وقوة تكنولوجيتها، وطبيعة المسرح الذى تمت عليه، والذى لا يمكن عملياً أن يكون قد تم دون مساعدة لوجستية وعملية من أطراف أمريكية أو أجهزة استخبارات ذات تقنية عالية وعقول وإمكانات لا تتوافر لهذه الجماعات المتطرفة، وإن كانت لا تملك هذه الإمكانات فإنها ابتلعت الطعم، واعترفت بالجريمة، كما أن الأمريكيين لم يستطيعوا حتى الآن أن يقدموا أدلة قاطعة تستطيع أن تصمد أمام أى محاكمة عادلة، كما أن الدهشة قد تستولى على العقل العربى والمسلم عندما يدرك أبعاد الجريمة، ويرى بكل العقول الواعية، أن المستفيد الحقيقى من هذه الجريمة ليست أى قضية عادلة، بل إن هذه الجريمة قد أسقطت كل الحقوق الفلسطينية والعربية، ومكنت المتطرفين فى كل اتجاه من أن يستأسدوا ويواصلوا العدوان، وضرب كل حق عربى أو فلسطينى تحت ذريعة هذه الجريمة الحمقاء، وإذا كان للقاضى أن يشير للمستفيدين من هذه الجريمة فسيجدهم أعداء العرب والمسلمين، ولذلك فليس من سلامة العقل أن يكونوا هم مرتكبو الجريمة
ولكننا ـ نتحفظ على هذا الرأى رغم سلامة منطقه، فمتى كان المتطرفون يتمتعون بسلامة العقل والبعد عن الطرق والمسارات المهلكة
وإن كانت الدنيا قد تغيرت حقاً، فليس كما ذكر الكاتب اندرو سوليفان من أنها كانت حالة إعلان حرب من القوى الشمولية للإسلام الأصولى مثل قوات النازية والشيوعية التى سبقتها ولم تختف أو كما يحاول أن يشير إلى مخزن هذه القوة أو مصدرها الايديولوجى للاغتيالات مازال الغرب يحميه مستعدياً العالم ضد السعودية أو صدام حسين الذى يقوم بتصنيع أسلحة الدمار الشامل الذى يرغب حلفاؤه فى الشبكة الإرهابية استخدامها على الأرض الأمريكية، أو كما لم يتوان الانتحاريون كما يسميهم على أرض فلسطين فى خلط داهم بين الإرهاب والمدافعين عن تقرير المصير، لتدمير إسرائىل الديمقراطية وقد انتشرت معاداة السامية مثل السرطان فى الشرق الأوسط وعادت إلى موطنها القديم فى أوروبا.
ولكن هذا الكاتب المتطرف مثل غيره من المتطرفين فى دولنا الإسلامية، يحاول إشعال النيران التى تشمل الجسم الأمريكى قبل أن تشمل الجسم العربى، لأنه يخلط الأوراق ويخفى العدو الذى يعيش داخله وضد نفسه، وهو نفس العدو الذى يجابه العرب والمسلمين مع شعوب العالم كله، فالحرب بين طرفين ولكنها داخل الجسم الواحد.
ولكنى مع اعترافى بخطر التطرف والمتطرفين، فإننى لن أتبنى اعتذار الكاتب المصرى على سالم، الذى قدمه للأمريكيين بعد مرور عام على الجريمة لأن أحد المتورطين مصرى، أو تقدم اعتذار لأن 19 عربياً قد اتهموا بهذه الجريمة البشعة، فالمجرم مسئول عن جريمته، وهذه التنظيمات المتطرفة لم تكن صناعة عربية، ولكنها نتاج صناعة عالمية، من مخلفات الحرب الباردة، ولعب الأمريكيين ومنظماتهم التخابرية دوراً ملموساً ورئيسياً فى قيامها، بل إنهم شجعوها لإثارة القلاقل فى عالمنا.
ولعلنا نرى الآن بوضوح كيف أن الملاذات الآمنة لهذه الجماعات التى عششت كطيور الظلام، كانت كلها فى أمريكا وأوروبا، أكثر منها فى أفغانستان أو باكستان.
ورغم عدم قبولى لاعتذار الكاتب المصرى، فإننى أتبنى وجهة نظر بأن ثقافتنا بريئة من أى دور فى إنتاج هذه الثقافة التى أفرخت هؤلاء الأفراد لأنه كما يصف منذ مدة طويلة قبل تدمير برجى مدينة نيويورك انهارت العديد من الأبراج فى بلدى على هذا النوع من مرتكبى الحادث، وقد قتلوا السادات الذى بادر بالسلام، والليبرالية فى مصر، وقتلوا فرج فودة، دافع عن الحرية وطعنوا نجيب محفوظ صاحب نوبل، لأنه كتب رواية لم يقرأوها ولكنهم سمعوا عن شخص يعيش فى جبال أفغانستان أو يجلس على مقهى فى لندن أو فى جامع نيوجرسى بأن رواية محفوظ من أعمال الكفار، بل قتلوا أكثر من ألف رجل شرطة و مواطن عادى، وفى أحد أجمل الأماكن الموجودة على الإطلاق فى العالم فى معبد الملكة حتشبسوت فى الأقصر اغتالوا 60 سائحاً فى عام 1997، وفى الجزائر حصدوا أرواح الفقراء والمساكين، وارتكبوا الجرائم بهدف إقامة مملكة الله على الأرض، وقد نجحوا فقط فى تحويل حياتنا إلى جحيم.
وبالرغم من الهم الواحد الذى نعيشه من التطرف والإرهاب لكننا كنا نتطلع لأمريكا أن تجفف منابع التطرف والإرهاب، حتى نبدأ عصراً من الإصلاح نشترك فيه جميعاً.
أول وأهم منبع لهذا المناخ هو الظلم فى العالم، وخاصة ظلم الشعب الفلسطينى، الذى يعيش تحت نير ظلم الاحتلال القاسى الذى يذبحه بسكين الإرهاب الصدىء، لكى يسيل الدم الطاهر، ليتحول إلى نيران تحاول تغذية الإرهاب المريض، وتبرير جريمة المتطرفين، وتقليل فرص التعايش فى عالم واحد، نشترك جميعاً فى إنقاذه من القهر البربرى.
لكن العالم الذى لم يتغير حقيقة مازال ينظر إلى جريمة المتطرفين فى إسرائيل نظرة مجحفة وغير عادلة، ويجب أن يقرنها أو يساويها بجريمة المتطرفين فى نيويورك وواشنطن فالجريمتان تستغلان الدين إحداهما تستغل أول الديانات السماوية والأخرى تستغل آخر هذه الديانات وتتطاحن ثانى الديانات السماوية بينهما، البعض يؤجج التطرف انتظاراً للمسيح المنتظر، أو ليوم القيامة الموعود، واعتقاد أن المسيح المنتظر، يكمن فى السلام بين الأديان، وعدم الوقوع فريسة لخرافات المتطرفين على أى جانب.