مقالات الأهرام العربى

حرب بغداد وميراث إبراهيم

لا يمكن لأى مشتغل بالسياسة أو التفكير فى اللحظة الراهنة، أن يخلو بنفسه بعيدا عن ترقب ساعة الحرب المقبلة أو الزاحفة على منطقتنا من كل اتجاه، فالدماء التى تسيل يوميا فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، تشل تفكيرنا ومشاعرنا وتجدد أحزاننا فى كل لحظة، وسيناريوهات الحرب على بغداد وأخطاء نظامه، وجبروت أمريكا وضغوط المجتمع الدولى على العراقيين لا مهرب منها،

وتشعرنا جميعا بأزمة متكررة دائمة، بل متفاقمة، وسط كل ذلك يقف الذين يحللون الأمور ويستشرفون صور المستقبل بلا تجميل أو خجل، فيدركون أن الشرق الأوسط يمضى يوما بيوم، كما أن كل متخذى القرار يجلسون على كراسيهم، يسيرون الحياة يوما بيوم أيضا، وبنفس الطريق التقليدى القديم الذى عفا عليه الزمن وأوصلنا جميعا إلى هذا المأزق الراهن، وكأن الخوف من الواقع وبكل مرئياته وظروفه، قد شل تفكيرهم وغيب بصيرتهم، وجعلهم جميعا يجادلون فى تحسين الصورة أو وضع حلول بالكاد يوميا حاولت قدر جهدى،

أن أستخلص الموقف داخل بؤرتى الصراع فى العراق وفلسطين، وأن أرى ضوءا فى آخر النفق المظلم، لينير لنا طرق التفكير، وأن أكون مختلفا، بعيدا عن رؤيتى الشخصية التى ترى أن عودة المفتشين لحصر أسلحة الدمار الشامل لن تنقذ العراق من الضربة القادمة، لكن ما ينقذه هو تغيير جوهرى داخلى فى بغداد يفتح الباب لعصر جديد فى بلاد الرافدين

ولن يحدث ذلك أيضا رغم أن الجميع يعرفون ذلك، وكأننا نسير رغما عنا إلى تغيير كبير يضعه الآخرون لنا، ونحن مصدقون عليه، ليس برغبتنا، لكن بتغييب إرادتنا، لشلل داخلى أو لتسلط الأقوياء وجبروتهم وأنانيتهم، التى ستأخذ الأخضر واليابس، والطالح والصالح، لأن الجميع متهمون ومشتركون فى الجريمة، فمنهم من شارك ومنهم من رأى وصدق، ومنهم من سمع وأغمض عينيه،

وفى كل الأحوال فالجميع مذنبون، وتساءلت لماذا انشغل بالنا بهم؟ فهم الضحايا والمفعول بهم، وكانت إجابتى داخليا أنهم أهلنا، ويدفعون ثمن جريمة لم يقترفوها، لكن لماذا لم يقترفوها؟ وقد خافوا وجبنوا فتسلط عليهم الجبناء واستنزفوا ثرواتهم، بل حياتهم، وحولوا أنفسهم من حكام ديكتاتوريين إلى أنبياء، وعندما يدعوننا للاستفتاء لهم،

يقولون فى بطاقة الدعوة ليس بنعم أو لا، لكن أحبه أو أحبه جدا، أو أحبه جدا جدا، وهذا ليس من خيالى للسخرية، لكنه مع الأسف حقيقة فبطاقة الاستفتاء القادمة فى بغداد على هذا الشكل وبالرغم من هذا الوضع الذى يدعو للسخرية فإنه فى النهاية شأن داخلى ليس للآخرين أو للغرباء التدخل فيه، إلا بالسخرية فهذا حقهم، مثلما نحن نسخر من أنفسنا، لكن لماذا يضربوننا،

وقد سمحنا لهم بكل شىء، التفتيش ليس على مزاجنا، رغم أننا حاولنا، لكن رغما عن أنوفنا قبلنا، صحيح تأخرنا، لكن بعد أن حشدوا الحشود، وأصبحنا قرب الحافة قبل الخطوة الأخيرة، وتلك طبيعتنا، جبروت فى الداخل، جبناء مع الخارج، لكن هذا لا يمنع من أن نمارس هواياتنا، فى إيهام الرأى العام بأننا أسود ونمارس السياسة فى اللحظة الأخيرة،

بينما هم يمارسون الاحتواء والحصار والتجميد، وعندما قدم بلير ملفا يحتوى على حقائق من وجهة نظره عن ملكيتنا لأسلحة كيماوية وجرثومية، وصواريخ بعيدة المدى بمثابة حيثيات للحرب التى تأخرت لمسارعتنا بقبول التفتيش بلا شروط، التى ظللنا نماطل خمس سنوات ولا نقبلها، لم ننتظر، وخرجنا فورا، لنقول أهلا بالتفتيش فى هذه النقاط، ونرحب بالمفتشين بالطرق التى يريدونها، واستقبلنا ذلك بالتصفيق الداخلى، متسائلين ولماذا تأخرنا مادمنا قادرين على فعل ذلك وتبريره وشرحه، بل جعله قرارا وطنيا جاء فى الوقت المناسب، وإذا كان كل ذلك سهلا وجميلا ومبررا فلماذا لا نفتح الحدود، ونعود بأربعة ملايين منفى، ولماذا ولماذا ولماذا وكفى لماذا؟

ذلك هو الموقف داخليا فى أراضينا فى العراق، فماذا عن الموقف الدولى؟ يتساءلون فى أمريكا أن يوم الحساب لصدام حسين أصبح قريبا، فهل ينوى الرئيس بوش ورفاقه تجريده من السلاح أم أنهم ينوون قتله؟ وعما إذا كان مجلس الأمن سوف يصدر قرارا واحدا أم قرارين لقيام حرب ضد العراق، وستكون روسيا هى اللاعب الرئيسى فيما يتعلق بهذا الأمر، فى الأيام الماضية كانت هناك »تنهيدة« من الارتياح مسموعة فى موسكو وباريس عندما أعلن العراق استعداده للسماح لمفتشى أسلحة الدمار الشامل بالعودة إلى العراق وفى حالة السماح للمفتشين بالعمل بدون عو ائق،

فهذا من الممكن أن يعوق إدارة بوش عن القيام بالحرب ضد العراق بعد مرور الشتاء بدون الحرب الستة أشهر التى حصل عليها المفتشون للعمل بحرية ، وإذا دخل الصيف فإن الحرب خلال العام القادم ستكون صعبة فى الجو شديد الحرارة فى الصحراء العراقية وفيما يبدو الآن فإن النتيجة غير واضحة، فكما ذكرت المصادر الدبلوماسية فإن هناك صفقة ما محورها الولايات المتحدة وبريطانيا ترغبان فى إصدار قرار عنيف يمنح صدام موعدا نهائيا قصيرا للتعاون مع المفتشين الذين سيمنحون القدرة على التحرك الكامل فى أنحاء العراق،

وذلك مقابل تأييد فرنسى يمكن أن يساعد فى تقارب كل من روسيا والصين جنبا إلى جنب مع فرنسا، وربما يترك كل من الأمريكيين والبريطانيين الباب مفتوحا من أجل صدور قرار منفصل يخول استخدام القوة، إذا لم يذعن صدام لذلك والقرار هنا رغم تشابك الكلمات الدولية ووجود الأمم المتحدة، لكنه كله فى أيدى الأمريكيين ولا يوجد رئيس أمريكى يقامر عندما يتعلق الأمر بحياة الأمريكيين، فحياتهم ليست رخيصة مثلنا، يقعون فى أيدى حكام مقامرين بشعوبهم وبلادهم ومستقبلهم،

بالرغم من أن القوات العسكرية لصدام أضعف كثيرا مما كانت عليه قبل عشر سنوات، وصدام سوف يقاتل من أجل أن يبقى على قيد الحياة، وأن إزاحة صدام من السلطة يمكن أن تكون أكثر دموية من عملية إزاحته من الكويت، والتخطيط لغزو العراق ليس كما تصوره التقارير الصحفية وبالرغم من أن البنتاجون تود أن تكون قادرة على توجيه ضربة لصدام من جميع الاتجاهات من الأردن وتركيا فى الشمال والكويت والسعودية من الجنوب والغرب،

ومن كل القواعد الأمريكية فى البحر والخليج، فإنه ليست هناك دولة واحدة فى الشرق الأوسط ترغب أن تكون منصة لإطلاق الصواريخ، أو بوابة للغزو الأمريكى القادم الموقف الغامض من الحرب المنتظرة أوجد أزمة من الثقة من العسكريين والمدنيين فى الإدارة الأمريكية، فوزير الدفاع رامسفيلد أصبح محبطا، ونافد الصبر، ويطالب بخطة سريعة للهجوم، والجنرالات لا يستطيعون ويطالبون بأن يعرفوا بالضبط ما الذى يخططون له وبأية أدوات وماهية القواعد العسكرية ، الجنرالات مشوشون وحانقون على السياسيين التساؤلات عن الموقف الداخلى العراقى مستمرة،

هل هناك رغبة شعبية عراقية لمشاركة الأمريكيين الحرب بعد ثلاثة عقود من الطغيان، كما أن العسكريين الأمريكيين فى حالة خوف حقيقى من حرب المدن، كما أن مخططى الحرب يريدون أن يتجنبواحرب بغداد تقول المصادر العليمة إنه حتى الآن لا أحد قد جاء بخطة تضمن سقوط صدام حسين بدون حرب شوارع، كما أن المخططين يفضلون حرب الشتاء، فالملابس والبذلات الواقية من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية لا يمكن تحملها فى الصحراء فى الربيع والصيف إن كل سيناريو له مخاطره على الأمريكيين وعلى العراقيين،

وأفضل سيناريو لنا نحن العرب هو أفضل سيناريو للأمريكيين أن يتخلص صدام من أسلحة الدمار الشامل، وأن يتخلص العراقيون من تسلط الديكتاتوريين ويفتح لهم صدام ونظامه باب الأمل هذا عن العراق، وماذا عن فلسطين؟ تلك قصة أخرى تتداخل فيها عناصر متعددة، فبعيداً عن شارون، وحصار عرفات، قرأت كتاباً يشغل الدنيا حالياً عن سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، فهل يكون هو صانع السلام بين المسلمين والمسيحيين واليهود،

فالجميع يدعون أنه أبوهم وهو صانع السلام، ومنذ سبتمبر الماضى، لم تتوقف المحاضرات والصالونات حول كتاب »بروس فيلر« إبراهيم رحلة إلى قلب الأديان الثلاثة وبالرغم من أن إبراهيم عليه السلام يحظى باعتراف الجميع فهل هو بالفعل أبوهم، فهو إذن مثل الأب الذى ترك ميراثاً متنازعا عليه بضراوة حتى عندما يصل الطرفان إلى رجلين حكيمين مثل السادات اغتيل فى 1981 وإسحاق رابين اغتيل 1995 يحاولان اقتسام ميراث إبراهيم، وإنهاء النزاع يفشلان، فالأبناء المتصارعون أقوى من القدرة على الحل، ولذلك تسيل الدماء إنها لا تتوقف،

وبينها آلام الأطفال والنساء وصراخ المروجين والمستفيدين من الصراع متى يقبل الأبناء بنصيحة »السادات« الذى ذكرهم أن إبراهيم قدم تضحيته الكبرى، ليس عن ضعف ولكن برغبة حرة يحرضها إيمان راسخ بالمثل التى تجعل للحياة مغزى عميقا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى