السلام يحاصر شارون

الكل يعزف للسلام، لكن شارون له رأى آخر، وهو الآن بتاريخه الدموى رئيس وزراء إسرائيل، وحزب العمل، شريكه فى الائتلاف، ضعيف، ومع ذلك فإن الجميع يعزف للسلام، بعضنا يتصور أن شارون، لأنه مستأسد، ويحاصر عرفات فى رام الله، سيرفض لقاء عرفات فى قمة جديدة، دعا إليها الرئيس حسنى مبارك من واشنطن، حتى يكون العالم شاهدا على الموقف العربى، بالرغم من خطايا شارون، واستخدامه آلته العسكرية لإرهاب الشعب الفلسطينى، متخيلا أنه يستطيع إخضاعه، لكن الفشل والهزيمة كانا النتيجة الحتمية لكل سياسات شارون منذ صعوده إلى السلطة فى إسرائيل، فهزيمته تمثلت فى عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين، وهم قرة أعيننا، ولدينا أغلى من أى شىء فى حياتنا، لأنهم رموز صمودنا العربى، وشهود أحياء فى وجداننا، استطاعوا تجديد الشباب العربى، فصاروا مصدر افتخارنا الدائم، وهم أحياء لأن أسماءهم تتردد فى كل ربوعنا، ومواليدنا الجدد أصبحت أسماؤهم الدرة، وفاء إدريس، حسين كويك، وأمجد فخورى، وارين أبوعيشة، نور شلهوب، وغيرهم من ضحايا مجازر شارون
نصر هؤلاء على شارون له طعم آخر، نصر غير مسبوق، شباب وأطفال وشيوخ ونساء مدنيون بلا سلاح أو جيش، يهزمون جيشا مدججا بالسلاح، وسلاحهم الوحيد حجارة وإيمان فى مواجهة جيش متخندق فى الدبابات وفوق رأسه الطائرات، بالرغم من ذلك هُزم، بل لطخ العسكرية والعسكريين بالجبن والخسة والعار، فهم يستأسدون على المدنيين فى الشوارع، ومن السخرية أن يقسم شارون بأنه يحقق النصر، ويخطب فى الكنيست قائلا إننا نواجه معركة حاسمة وعدوانا صعبا، ولا يخجل من هذه الكلمات، كما يبدو أن الذين يسمعون لا يخجلون، فهم يعرفون جيدا أى عدو يواجهون، يحاربون شعبا فقيرا، محاصرا برا وبحرا وجوا، ولا يملك سلاحا أو عتادا، لكنه يقاتل دفاعا عن أرضه وشرفه، فالشعب الفلسطينى البطل سيظل شاهدا ورمزا على قوة العرب، لن أقول بعد اليوم الزمن العربى الردىء، أو الهوان العربى، لكننى سأشيد بالنصر، والقوة العربية، فكل شىء نسبى، والقوة نسبية، والانتصار هو الهدف النبيل الذى نسعى إليه، والفلسطينيون الآن ينتصرون، وانتصارهم شاهد على قوة حقهم، وقدرتهم على انتزاع دولتهم، وباعتراف يفوق اعتراف العالم ومنظماته الدولية بحقهم فى تقرير المصير، وهزيمة الإسرائيليين بقيادة شارون لا تحتاج إلى شاهد أو تقرير، فهى واضحة، ليس فى عدد الضحايا الإسرائيليين فقط، لكن فى الرفض الإسرائيلى لسياسات شارون، وعندما مارس العرب السياسة وتقدموا بمبادرات سلمية لم يقدموها لشارون، فهم يعرفون عداءه للسلام وللتعايش الطبيعى، لكنهم يقدمون للعرب وللفلسطينيين والإسرائيليين الراغبين فى التعايش، وللأمريكيين والأوروبيين الذين خدعهم شارون، وصور لهم أن العرب كلهم بن لادن، يتخفون فى ثياب عرفات، ويضمرون الشر بالجميع، نسى شارون أن الذى صعد به إلى السلطة خدعة كبرى، صورت الفلسطينيين على أنهم هم الذين رفضوا مشروع باراك، وأن العرب يخططون لانتزاعهم من أراضيهم، واستطاع شارون ببراعة أن يعزف على أوتار وألحان العنف والتخويف، فأعاد للإسرائيليين فى فترة وجيزة هاجس الخوف من السلام، وأنعش ذاكرة الحروب، ووجد الإسرائيليون أن الحرب أسهل، فقد خبروها 50 عاما، لكن السلام ظل شيئا مجهولا عليهم، ولا يعرفون ماذا يحمل لهم
وعندما طرح الأمير عبدالله بن عبدالعزيز فى تصريحه الشهير السلام الكامل مقابل التعايش الكامل، كان يحاول أن ينزع الخوف الذى زرعه شارون فى عقول الإسرائيليين، حتى ينتخبوه ويقلدوه منصب رئيس الوزراء، وفكرة الأمير عبدالله دعمها الرئيس مبارك فى واشنطن، وخطط لقمة بين عرفات وشارون، للخروج من الأزمة والتعقيد والمأساة الدموية التى يدفعنا إليها شارون بدموية لم تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ 50 عاما
لكن شارون لا أمل فيه، فحتى لو وافق على القمة، وأنهى حصار عرفات، وسمح بحضوره قمة شرم الشيخ المقترحة، أو حتى حضوره مؤتمر القمة العربية، فشارون لا يعرف السلام، بل يخاف منه، لكن الرهان يجب أن يكون على من انتخبه فى إسرائيل، وعلى الأمريكيين الذين يجب أن يدركوا خطورة سياسات شارون على المستقبل الإقليمى نفسه.
وقد أدركت عندما نظم عازف الأوركسترا الإسرائيلى الشهير دانييل بارينيوم، حفلته الموسيقية فى رام الله، بالضفة الغربية، أن طريق السلام أصبح مفتوحا، وأن الرأى العام فى أوروبا وإسرائيل وأمريكا، سيكشف شارون، وأن الحصار المفروض على ياسر عرفات ورام الله أصبح حصارا لـ شارون وأنصاره.
فالموسيقى كانت تقول إنه لا حل عسكريا للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن الفلسطينيين ببساطة لا يملكون سلاحا، لكنهم يملكون الحق والعدل، والإسرائيليون يملكون السلاح، ويتصورون أن السلاح والقمع والعنف بديل للحق والعدل.
وسيكتشفون أن الحياة مستحيلة فى ظل غياب الحق والعدل والشرعية، لذلك سوف يسلمون بالحقوق الشرعية للفلسطينيين، ليس تحت تهديد السلاح، لكن تحت هجوم المقاومة المشروعة التى يستحيل مواجهتها، وسوف يفشل شارون، والمبادرات العربية السلمية دليل على حيوية العرب وقدراتهم المستمرة على الفعل السياسى، ومواجهة العدوان وهزيمته، نرجو أن نفهم ما يحدث بهدوء وروية، ولا ننجرف وراء الضجيج الشارونى أو لغة القوة والتهديد والسلاح، التى أصبحت ممجوجة لمن يستخدمها، فى زمن كل شىء فيه يتم تحت عدسات العالم ورؤية الجميع.