مقالات الأهرام العربى

من يقول لمن ياعمى؟

الواقعية، مذهب سياسى، الجميع يتحدثون عنه، ولكل فريق منهم تعريف، لكننى توقفت أخيرا أمام تعريف طرحه توماس فريدمان، الكاتب الأمريكى الشهير، الذى حصل على تصريح الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولى العهد السعودى برغبة السعودية فى طرح مبادرة السلام الشامل مقابل الانسحاب الشامل، ومنذ أن حصل على هذا التصريح، واسمه يتردد فى الصحافة الأمريكية والعالمية، وأصبح قرينا للمعلق التليفزيونى كرونكيت، الذى تلقف مبادرة الرئيس السادات من خطابه أمام البرلمان المصرى فى 1977 عن استعداده للذهاب إلى آخر العالم من أجل السلام، حتى هبوطه فى القدس، وهى المبادرة التى أحدثت زلزالا فى الشرق الأوسط، وفتحت طريقا إستراتيجيا للسلام.

ويبدو أن فريدمان يرعى مبادرة ولى العهد السعودى، حتى تصبح حقيقة، ويظهر ذلك فى آخر ما كتبه فى ˜هيرالد تريبيونŒ تحت عنوان ˜الواقعيةŒ، التى عرفها بأنها تعنى السعى إلى السلام Realism means seeking Peace، وكتب بوضوح أن إسرائيل تتجه إلى الهلاك إذا لم تستجب لحل وسط، وأنها ستغيب عن الخريطة إذا لم تحترم هذه الواقعية، وهو بهذا يقف ضد واقعية الفريق المتطرف فى إسرائيل بقيادة آرييل شارون، وبعض اليهود الأمريكيين الذين يحاولون، ويتصورون أن الحرب الراهنة فعلا هى حرب الحضارات، وأن الشىء الذى يجب عمله هو قتل الفلسطينيين، حتى يصرخوا طالبين النجدة، أو يقولوا ˜ياعمىŒ، أو يعترفوا بأن ˜أعمامنا اليهودŒ، وهذه هى واقعيتهم، ولم يغب عن تصريح شارون الذى قال فيه سنضرب الفلسطينيين حتى يركعوا على الأرض، مطالبين بالرحمة.

وللمرة الأولى يعترف فريدمان، وأجدنى أؤيده، ويقول حتى نكون واقعيين، علينا أن ندرك أن واقعية اليهود تعنى هلاك البلاد، ولأن هناك كثيرا من المسلمين، الأكثر عددا من اليهود، وأن القتل سيكون متبادلا، ولأن أسلحة الدمار الشامل أصبحت أصغر حجما وأكثر رخصا، فلن يمضى وقت طويل، حتى يكون الدمار شاملا، فهل هذا هو الأمر الواقعى بما فيه الكفاية لكم؟.

ولعل مجلس جامعة الدول العربية، وهو يعد للقمة العربيةالقادمة فى نهاية هذا الشهر، كان هوالآخر واقعيا أكثر من اللازم، فاعترف بأن العرب سيقدمون لإسرائيل آخر مبادرات السلام، والتى تعنى قبولهم للإسرائيليين للتعايش، وإقامة السلام، وعلاقات كاملة متبادلة معهم، مقابل الانسحاب من الأراضى التى احتلت فى عام 1967.

وللمرة الأولى فى التاريخ الإنسانى، تقبل الشعوب بالسلام تحت تهديد خطف الأراضى، وتقول شعوبنا العربية للإسرائيليين الذين كانوا غير مقبولين فى أراضينا إننا قبلنا بكم مقابل أن تردوا الأراضى التى سبق أن احتلت فى 1967.

وبهذا حتى لا نقبل بالخراب والتخريب والدمار الشامل لكلا الطرفين، فإن القبول بالسلام والأرض مقابل رد الأراضى المحتلة، هذا هو قمة الواقعية والسمو لدى العرب، ومن غير المفهوم لماذا تتردد إسرائيل أمام هذا العرض السخى، الذى يكافىء المعتدى والمحتل ويمنحه الشرعية والاحترام والسلام.

ألا يكفى هذا مخرجا للشارونيين أم هل سيأخذهم غرور القوة، ويصرخون مثل رئيس وزرائهم شارون، إنهم سيحققون النصر؟ وعندما تساءلت أى نصر سيحققونه، فقد تصورت أنهم يواجهون حربا، أو أن هناك جيشا يقاتلهم، فجاء الكلام على لسان شارون، سوف ننتصر على الفلسطينيين، فقلت على الهواء لممثل شارون جدعون عيزرا نائب وزير الأمن الإسرائيلى قل لرئيسك أى نصر سوف تفخر أو تعد به الإسرائيليين، فليس أمامكم جيش، لكنكم تواجهون بالجيش وبالطائرات والصواريخ والدبابات شبابا وأطفالا ونساء محاصرين برا وبحرا وجوا، ولا يملكون سلاحا، وليس لهم جيش، حتى لو حققتم النصر، فهو نصر مخزى وعار على العسكريين، الذين يقاتلون مدنيين محاصرين، ويستأسدون عليهم، ويضربونهم بصواريخ عشوائية، ويهدمون عليهم المخيمات التى يعيشون فيها منذ أن طردوا من بلادهم فى عام 1948 عقب قيام دولتكم على أنقاض حقوقهم وفى بلادهم، أى عار يمكن أن يلاحق شعبا يطمع فى النصر على من يعيشون فى المخيمات، محاصرين، فرض عليهم النظام العالمى التجويع والحصار.

حتى هذا النصر ­ العار ­ لن يتحقق، فالمقاومة الفلسطينية الباسلة تثبت كل يوم أنها تستطيع أن ترد الصاع صاعين، وتعلم المتعجرفين والمتطرفين فى إسرائيل احترام حقوق الشعوب، وأن تعرض عليهم استرداد الحقوق، وإننى أكاد أرى حق الشعب الفلسطينى يسترد فى تقرير المصير، لإقامة الدولة، والتحرر والحرية، بل إن الفلسطينيين الذين لا يملكون سلاحا، يستطيعون هزيمة العنصريين الإسرائيليين، وطردهم من كل فلسطين.

فريدمان التقط فى آخر ما كتب هذه الحقيقة، ووصلت إليه أخيرا عقب تفجر ˜العنف المكثفŒ كما أسماه فى الصراع الفلسطينى ­ الإسرائيلى، الذى نشر الرياح الهوجاء التى يمكن أن نشمها وهى تتطاير فى كل أنحاء العالم العربى والإسلامى فى هذه الأيام والتى رصدها الكاتب الأمريكى، رغم تحيزه الواضح، حيث قال ˜إنه رأى التليفزيون العربى المتحيز لجانب واحد، يصور الإسرائيليين يتصرفون بوحشية ضد الفلسطينيين، ويصور الامتعاض العربى للتأييد الأمريكى لإسرائيل، والتهديد الأمريكى للعراق، وإحباط الشباب العربى، لافتقادهم للحرية، وافتقادهم لوجود عمل لهم، وتجمع هذه القوى على بعضها البعض فى أكثر الأجواء سخونة فى المشاعر ضد الإسرائيليين، وضد الأمريكيين، كان هذا أكثر ما أحسست به بصورة لم تحدث من قبل إن هذا شىء خطير والفكرة التى يمكن الإمساك بها هو التوافق بين ديموغرافية الأرض والإرهاب، فالعرب يمكنهم فعلا تدمير إسرائيل، ويضع فريدمان أمريكا فى جملة مفيدة وبعض الأجنحة الراديكالية تتخيل أنه يمكن تقويض أمريكا.

ما يمكن أن نفهمه من فريدمان، هو أن الإرهاب هو صيغة وإنتاج إسرائيلى، وأنه لا يمكن للإسرائيليين أن يهزموا الشعب الفلسطينى بدون حصوله على حقه، حتى لو كانت إسرائيل تستند إلى أمريكا، وتملك كل الأسلحة النووية، لأن العرب يملكون الحق والعدل، كما أن المنطقة العربية منطقتهم، والأرض أرضهم وأنه إذا أمكن أن تفهم إسرائيل مغزى المبادرات العربية السلمية، وأن تقتنص الفرصة المعروضة عليها، فربما تحصل على السلام، إذا قدمت نيات حسنة للمنطقة، وكانت تريد أن تعيش فيها بلا تسلط أو عنجهية أو شعور متعاظم بالقوة والغنى والتميز على أهلها، إذا أمكن للعقلاء اليهود أن يفهموا، ويتعاملوا مع العقلاء العرب على الاستقرار والبناء الإقليمى والتسليم بحقوق الشعب الفلسطينى، والبعد عن العدوان، والتكفير عما ارتكبوه فى حق الفلسطينيين، ربما يكون لهم مستقبل بيننا، ويقولون العرب ˜أعمامناŒ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى