مقالات الأهرام اليومى

مستقبل العراق وخرافات الماضى

تفاقمت أحداث الشرق الأوسط وأصبحت تحتل مرتبة متقدمة فى الإستراتيجيات السياسية فى عالمنا المعاصر، وإذا نظرنا إلى ما جرى فى العراق وحده لاكتشفنا أنها شكلت خلال الشهر الأخير تطورا بالغ الأهمية، وضع منطقة الشرق الأوسط فى المرتبة الأولى عالميا، لانتقال أمريكا وأوروبا بكامل هيبتهما وقدراتهما السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى قلب العالم القديم وعادت حضارة بابل وآشور وبغداد والناصرية وكركوك وآربيل وأم قصر والبصرة لا تحتل واجهات الأحداث فقط، ولكنها فى بؤرة الاهتمام العالمى ولم تكن أيضا العمليات العسكرية وحدها التى شغلت العالم، بل ما أعقبها من سقوط نظام ديكتاتورى قادم من القرون الوسطى، له مظاهر عديدة ولكن عندما نعرف أن صدام وابنيه، كانوا يخزنون الأموال فى صناديق فى أكواخ مهجورة داخل القصور، ليس بالملايين ولكن بالمليارات لعرفنا، نحن عن أى نظام نتحدث وعندما نعى أن دولة بحجم العراق، كانت آخر ميزانية لها فى عام 1987، لعرفنا، وأدركنا حجم الفوضى، وحددنا عن أى نوعية من الناس نتحدث فالاقتصاد العراقى كان اقتصاداً لمافيا قديمة لم نظن أبدا للحظة أنها كانت دولة سياسية، فقد استغنت بالشعارات والأوهام والكلمات الجوفاء عن أى سياسة، وقد تكون خدعت الكثيرين، فمن يريدون أن يعيشوا فى الأوهام، وتكون صناعتهم المخدرات السياسية، سيجدون مكانا لهم هناك وهو أمر لم يشغلنى.

وكان أهم ما شغلنى على الإطلاق هو كيف استطاع هذا النظام إقناع البعض به، ثم قدرته الفذة على الاستمرار بالقمع والقوة كل تلك السنوات، حتى إنه أفرغ العراق من شعبه وما تبقى من هذا الشعب وصل إلى حافة الفقر والعوز، وهو البلد الأغنى فى منطقتنا على الإطلاق، فهو أرض الرافدين، والمياه والنفط، والثروة البشرية والثقافية الخالدة والمتجددة.

هذا العراق نخر فيه السوس وأتلفته الديكتاتورية القاسية التى تستعصى على الفهم والإدراك، ولكننى أعتقد أن كل من عايشها، لن يستطيع أن ينساها، ولن يتسامح معها، ولعل هذا أخطر ما حدث، فقد أدت هذه الديكتاتورية بين عشية وضحاها إلى فوضى كبيرة تستعصى على إدراك العقل ثم المجىء بحاكم عسكرى أمريكى للعراق، وهو أمر خطير يصعب قبوله أو تصديقه، ولكن كل شىء فى العراق خارج منذ سنوات عن حدود الممكن والمعقول، فأصبحنا أمام مدركات وصعوبات واحتمالات وتطورات خارج المنطق والسياق، فقد وصلت بنا الأمور إلى أن الحاكم العسكرى جارنر كان قادرا على أن يقول فى 2003، أمام مستقبليه فى العاصمة الحضارية القديمة ˜إنه سيكون أفضل من صدام فى كل الأحوالŒ وإذا كانت عقولنا لن تقبل المقارنة بين حاكم فاسد ديكتاتورى وبين مستعمر أجنبى فى زمن الحريات وحقوق الإنسان، فلنا أن نترك لأنفسنا فرصة من الوقت لاستيعاب ما يحدث من التطورات وانعكاساتها على حياتنا المستقبلية مع إدركنا أننا يجب أن نضع مستقبل العراق وشعبه فى المقدمة من تفكيرنا وأن نحترم كل العراقين، عراقى الداخل وعراقى الخارج من المنفى، وأن نقدر عواطفهم، ونقف معهم ونتعالى على جراحنا.

من واجبنا أن نرفض الاحتلال وتمييز الأجنبى عن العراقى، ولكن ليس من واجبنا أن نوزع أوسمة ونياشين أو ألقابا، ونقول قرضاى العراق، وذلك عميل بتعاون مع المحتل، فالعراقيون يريدون أن يبنوا بلادهم، ويخرجوا من مأزقين، أو كارثتين أولا من الديكتاتورية بمآسيها الدائمة، وثانيا معاناتهم معها فى الحروب والحصار وضياع الثروات وتبديد مستقبل البلد وثالثا كارثة الاحتلال وتداعياتها الخطيرة وشخصيا أحترم آلام العراقيين وضحاياهم، وأعرف أنهم يعانون، ولن أزيد من معاناتهم، فمن منا يملك فكرة أو دعوة للعراق ومستقبله يجب أن يقدمها للعراقيين، ولكن أن نجلس ونتهم ونحن نعرف صعوبات ومعاناة الخروج من كارثة نظام حكم ـ شبيه له فى العالمين القديم أو الحديث، ثم معاناة وآلام الاحتلال والغزو ووجود الأجنبى المحتل فى شوارع ومدن العراق التاريخية فليس من المعقول أن نتباكى على الديكتاتورية خوفا من الاحتلال، أو نمجد الاحتلال ونشكره لأنه خلصنا من الديكتاتورية وجهالتها، فهذا ما لا يجب ولا أستسيغه شخصيا، وأنا الذى أجلس بعيدا، فكيف تكون حالة العراق والعراقيين والجميع يدركون حجم آلامهم والطريق الذى يسيرون عليه، فهم يتخلصون من كارثة كبيرة، ويجب ألا يقعوا فى كارثة أكبر، تلك هى المعادلة الصحيحة، ومن يملك أن يساعدهم ويتأخر يرتكب جريمة كبرى فى حق بلاده ودينه ومستقبل إقليمه بالكامل، وكل العراقيين مطالبون بأن يقدموا كل ما يملكون من قدرة أو طاقة ولا يتأخرون عن ذلك، ولا يتخوفون فيتخلفون عن المسيرة، وكل عراقى موجود فى الخارج تحديدا، عليه أن يمد يده وعقله وخبراته وأمواله، إذا كان فى استطاعته، لبلده وشعبه، ويعمل للخروج من الكارثة، والعراقيون يستطيعون منذ اجتازوا الأصعب فى السابق، وإن كان القادم ليس الأسهل، فإنهم قادرون على الإنجاز والسير فى الطريق الصحيح.

أما العرب، فيجب ألا يتأخروا، وألا يتباكوا على الديكتاتورية التى يعرفونها، ويتركوا للعراقيين حرية التعبير حتى ولو كانت خاطئة، فهم يعيشون مع الخطر، وفى قلبه، ويجب أن يكون الخطأ مسموحا لهم حتى لو كان كبيرة فى هذه الأحوال، لأننا لسنا ملائكة ولا شياطين، لكننا عشنا مع الاثنين، ومن واجبنا أن نتحمل أوزار الحياة، رغم قسوتها وصعوباتها، فتلك هى معادن الشعوب، ومصادر خبراتها، ونحن فى الامتحان الأصعب، لكن على قدر العزم تأتى العزائم، وفى العراق سيتحمل الناس، وسيخرجون ويتنفسون، ويبنون عراقا، أكاد أراه رؤية العين، ولن نخطىء الحدس، حتى إذا كانت الرؤية ضبابية فى أذهان البعض، فإن عراق الغد هو الأفضل، بل هو الحدث، الذى سوف يخلب اللب والأذهان.

وقد شاركت فى ندوة أخيرة استمعت فيها للسياسى والاقتصادى، حول مستقبل العراق، والتطورات والأموال والشركات، التى سوف تعمل فى تلك المنطقة بعد أن أصبحت فى بؤرة الأحداث، ورأيت أن العر اق هو البلد الوحيد الذى تعقد حوله المؤتمرات فى واشنطن ولندن وباريس، والعواصم العربية فى وقت واحد، فقد أصبح قلب الحدث وأطلقت للذهن الخيال ونسيت الأرقام فرأيت أن العراقيين أصبحوا أكثر تنظيما ودقة، واجتماعاتهم منظمة وأحزابهم لها كوادر عالية وراقية، وذات ثقافة رفيعة وصحفهم ومجلاتهم ومحطاتهم التليفزيونية تنطق بالحرية، وبالكلمة الجميلة والمعنى الدقيق، بل ألهبت خيالى احتفالات أهل الشيعة فى العراق بأربعينية سيدنا الحسين بعد 25 عاما من التوقف، ورأيت أهل السنة يلتفون حول الشيعة ورأيت الأكراد والتركمان فى العراق يتعانقون ويقدمون للعالم نموذجا فذا للتآخى، وأن الإسلام كان وسيكون دينا عصريا وقادرا على الحركة وبناء مجتمع حديث، بل رأيت السياسيين فى العراق يقدمون نموذجا للسياسى العربى الجديد، الذى يقدم مصلحة بلاده ووطنه على مصالحه الشخصية، ومصالح عائلته وعشيرته، ورأيت فى الحقيقة وليس فى الخيال العراق بلدا ديمقراطيا قويا اقتصاديا وسياسيا خرج من كارثة الديكتاتورية، وتجاوز محنة الاحتلال ودخل العصر الحديث بفضل أبنائه، وقدرة العراقيين على تجاوز المحنة، وأصبح قبلة للعرب ومحورا للأسواق، بل ونموذجا يحتذى للآخرين.

هذه ليست أحلاما، لكننى أراها رؤية العين، ولن يفعلها الأجنبى، لكنها ستكون على أيدى العراقيين الأحرار، فلن يبنى بلدا أو اقتصادا أو حرية، إلا العراقيون الأحرار، وهم القادرون.

وانتظروا هذا ليس نبؤة أو خيالاً مرسلاً، لكنه واقع يحدث، وأكتبها للتاريخ، لأقول للأجيال القادمة إننى قلتها مبكرا وقبل الآخرين، هذا سبق لى فتذكروه، سواء كنت موجودا أم تركت هذا المقال للتاريخ شاهدا على رؤية ستحدث فى تلك البقعة الحبيبة من أرض العرب، أرض الحضارات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى