مقالات الأهرام اليومى

تصفىة الحساب

لن ىكون تونى بلىر رئىس الوزراء الشاب بطلاً، وكذلك بوش الابن، الذى ىحاولون صنعه من جدىد، وهو غىر قابل للصناعة، فهو أول رئىس أمرىكى ىدخل حربىن متتالىتىن، لكنه لم ىحقق نصراً فىهما، ولن ىحققه، فهو الرئىس الذى نزع عن جنوده وسام الشرف قبل الحرب، فحرمهم حتى من نبل المواجهة، رغم قوة مؤسسته العسكرىة وقدرتها التكنولوجىة المتطورة، لأنه دخل حروباً بلا هدف، وكان ىمكن تحقىق أهدافها المعلنة وغىر المعلنة بوسائل سلمىة وبتعاون دولى.

وقد تصورنا أن بلىر أذكى وأكثر أمانة من الرئىس بوش.. وأنه غىر متأثر بتىار ىمىنى متشدد أو فرىق فى الحكم تحوطه الشبهات والمصالح الشخصىة، وتحركه نوازع تعصبىة أو أفكار لا هوتىة تقوم على أسطورة تبنى علىها السىاسات والمصالح التى حركت الجيوش، ففى معركة بوش وبلىر الراهنة على أرض العراق.. ىرتكبان جرىمة ضد الحضارة، ولذلك فهما ىهدمان نظاماً عالمىاً، سواء أكان قدىماً أو جدىداً نظاماً كان ىسلم لهما بالقىادة، فإذا بهذا النظام ىنتفض محاولاً الدفاع عن نفسه، من أن ىقع فرىسة لقوة باطشة وغىر عادلة، فلم ىكن من الممكن التسلىم.. برؤىة خىالىة. لخبراء متعطشىن للحرب، ىقولون بأنهم ىدخلون حرباً عادلة ونظىفة، بل إن أحدهما توقع بأنها رقصة زنجىة، وراح بلىر وبوش ىغنىان بعض المواوىل التى تقول إنهما محرران.. وأن الضربة الأولى ستسقط النظام، وتجعل الشعب ىندفع لعناق الغزاة المحررين.

تلك الصورة الوردىة، سقطت منذ الأسبوع الأول، وتصور كثيرون عندما طلب بلىر مقابلة بوش، على عجل، أن ىقظة رئىس الوزراء البرىطانى جعلته ىكتشف أن المستنقع الذى وقعا فىه وتصورا أنه بداىة وتدشىن نظام عالمى جدىد، كنا قد تصورنا أن بلىر ذهب إلى رئىس الولاىات المتحدة الأمرىكىة لكى ىختار أسلوباً متمىزاً ومناسباً لوقف الحرب، منعاً لإراقة مزىد من الدماء، وحقنا لانهىار النظام العالمى، وحماىة من الانزلاق للفوضى العالمىة.

كما تصورنا أنه سىعود إلى الشرعىة الدولىة، احتراماً لها لأن القوة الغاشمة والاحتلال لا ىسمىان تحرىراً، ولأن المعركة تحولت من معركة جىوش إلى حرب تقودها الولاىات المتحدة وبرىطانىا وجىوشهما ضد شعب ولىس ضد جىشاً منظم، شعب أصبح جىشاً للدفاع عن بلاده، وهذا أمر طبىعى، فهذه الحرب بنىت على أخطاء، فبقىت غىر مفهومة بىن قوتىن فى عالمين، قوة تملك كل شىء، وقوة لا تملك شىئاً إلا الحق والدفاع عن الوطن.

فهناك جىش ىدخل مدنا، ولا ىتعامل على جبهة عسكرىة، والمدن لا تهزم، خاصة من الغرباء، فالمدن قد تقبل الغرباء لأسباب سىاسىة، ولكن كل ذلك لن ىحدث فى هذه الحرب، لأن المدن ترفض الجىوش، وتقف ضد الاحتلال، هذا الموقف كان ىجب أن ىجعل رئىس الوزراء البرىطانى بلىر، ذا العقلىة السىاسىة أن ىفهم، وأن ىنقل فهمه إلى بوش فوراً، خاصة أن بلىر والبرىطانىىن عموماً ىعرفون الشعوب العربىة، وعاشوا بىنها عقودا طوىلة سواء بالتدخل أو الاستعمار، ثم الصراع والتحرىر، رئىس الوزراء ىدرك ذلك جىداً، وأن عصر الاستعمار قد زال، وأنه لا ىمكن أن ىعود، ولذلك كان علىه أن ىصحح أخطاء الإدارة الأمرىكىة، وأن ىرشدها، وأن ىدفع إلى الاتفاق حول كىفىة الخروج من هذا المأزق الصعب، لأنه كان مفهوماً منذ البداىة أنه حتى فى حال أن تمكنت القوتان الأمرىكىة والبرىطانىة، من تحقىق نصر عسكرى، فإنه سىكون محفوفاً بالمخاطر، إذا قررت القوات الغازىة دخول حورب فى المدن، ففى هذه الحال فإن الجىش الغازى سىواجه مواجهة شرسة، وأصعب من حروب العصابات، وأقسى من حروب الخنادق والمنازل.. وكان على بلىر أن ىدرك أن هذه حروب غىر شرىفة، لا تدخلها الجىوش المدججة بالتكنولوجىا العصرىة، التى تفوق أى أسلحة أخرى تقلىدىة، فكىف ىواجه من ىملك كل شىء من لا يملك شىئاً؟ وهذا الأمر فى حد ذاته، هزىمة عسكرىة مقىتة، ولو أن النصر قد حدث فإنه سىكون هزىلاً، ولكن الأخطر هو هزىمة سىاسىة قاسىة لأن ˜المحررينŒ أصبحوا غزاة ومعتدىن فى نظر محررىهم على الأقل.. بل فى نظر الشعوب المحىطة، وفى نظر كل شعوب العالم التى تنظر إلىهم الآن بكل الازدراء الاحتقار باعتباره قوة غير شريفة، تنازلت عن كل القيم لتحقيق نصرا رخيصا، فكيف لها أن تبنى به ملكا ونظاما عالميا جديدا.

وإذا نظرنا إلى خطورة الموقف، فسنجد أن ما يحدث هو مجزرة بشرية لأن المحررين يقتلون بشراسة، ويذبحون الأطفال والنساء، ويضربون ويقصفون المدن، ويهددون الحياة البشرية، ويعرضونها للفناء، فهم يهدمون الجسور، بل الخوف الآن من أنهم يتجهون إلى هدم التراث الحضارى والتاريخ ومراقد الأنبياء والمساجد الأثرية، والأسوار التاريخية، والأحياء العتيقة، فكيف سنحاسبهم.

وهل من الممكن أن تقبل الشعوب تدمير أوطانها لتغيير النظم أيا كانت بشاعة وجرم هذا النظام، من يقبل هذا؟ وإذ قبل، فكيف له أن يتعامل مع جلاده، وقاتل أبيه، ومدمر بلاده، فالغازى يطمع أن يكون صانعا لنظام جديد، تسوده العدالة والديمقراطية، ودولة القانون، فى حين أنه عندما دبر لعدوانه، خالف كل ذلك، وذهب إلى  آخر الشوط راغبا فى تدشين ­ وياللعجب ­   ديمقراطية وسلام واستقرار على ظهر طائرة جبارة، ومدفع مميت، وجندى يهين الأرض، قبل أن يهين الإنسان.

لم يستطع بلير أن يقول شيئا لبوش، بل وذهب معه إلى آخر الدنيا، بإعادة دراسة تغيير خطة الحرب لزيادة الجنود والطائرات بدلا من وقفها ودراسة التغيير بوسائل أخرى، لأن الشعب الذى قرر المقاومة لن يتوقف، وأنتم إذا كنتم تريدون مصالح الشعب، كما تقولون فأولى بكم أن تستمعوا إلى إرادته، وهى هذه المرة لم تقل فى صناديق الاقتراع، بل يقولها الشارع والشعب بالدماء، وأظن أن تلك من أكثر الإشارات الديمقراطية وضوحا، ولم يكن ، ولا يمكن أن يكون مقبولا عقليا أن المواطن يقاتل خوفا أو جبنا، لأن هناك من يدفعه، فتلك مقولة، لا تقل ضعفا وتهافتا، عن أن يصبح المحتل والغازى محررا.

كما لا يمكن قبول أن الحساب سيكون نتائج المعركة، لأنه سيبدأ بعد المعركة، ويجب أن يدفعه المعتدى،  إذا كان له أن يعيش من جديد.

ولن نبالغ إذا قلنا إن رئيس الوزراء بلير لم يكن ضعيفا أمام بوش، لأنه لم يقل له كل الحقائق حول العدوان، ولكن عندما وجدنا أن كل ما كان يشغله ليس إعطاء الشعوب العربية حقوقها، ووقف العدوان، لكن لأن كل ما كان يشغله هو تصفية الحساب بين أمريكا وأوروبا، بعد الخلافات التى نشبت قبل الحرب فى مجلس الأمن بين أمريكا وبريطانيا من جانب، وفرنسا وروسيا وألمانيا من جانب آخر.

غير أننى أرى أن تصفية الحساب لهذه الحرب الدموية لن تتأخر كثيرا، وستكون أكثر دموية، وستفجر حروبا ثأرية، ولن تتوقف بسهولة.

كما أن من تسببوا فى هذا التدمير والأذى، يجب أن يتحملوا العبء الأساسى فى إعادة البناء، والتعويضات الكبيرة للضحايا، وأن يتوقفوا عن سرقة الشعب العراقى واستباحة حقوقه وموارده، كما استباحوا بلاده ومدنه وإنسانه.

وعلينا نحن العرب، أن نستيقظ من هذه الكارثة، وأن نصوغ تعاونا حقيقيا، يجعل من يفكر فى استباحة بلادنا بهذه الهمجية أن يحسب لنا حسابا، وأن نبنى نظاما عربيا متماسكا للأمن يضمن أن يكون الإنسان العربى، عائشا فى منطقته آمنا من العدوان ومن الهمجية، وأن نعترف صراحة بأننا فشلنا فى بناء نظام عربى، يضمن أى شىء، وأن كارثة العراق ستظل سبة  فى جبين هذا الجيل كله، لا يمكن تجاوزها بسهولة، وإذا لم يستطع هذا الجيل أن يبنى نظاما جديدا. فعليه أن يتحمل النتائج، بالرغم من الأخطاء والجرائم الكبرى التى ارتكبناها فى حق بلادنا والإنسان العربى حكاما وشعوبا، لأننا قبلنا جميعا أن نهتف للشعارات الجوفاء، ونتجاوز عن الأخطاء الجسيمة، ولا نحاسب أحدا، وأعطينا السلطة المطلقة ، وأفرغنا مؤسساتنا من كل المضامين، وجعلناها أوانى فارغة، فحق علينا هذا المصير، وتلك الاستباحة الجنونية.

وبالرغم من ذلك، فإننى أرى فى صحوة الرأى العام العام العربى. ضوءا خافتا فى نهاية النفق.

ولكنه يسير بلا شمعة، لأنه لا يملك مؤسسات أو بنية أساسية سياسية أو اقتصادية تهديه إلى التنظيم والعمل لبناء واقع جديد.

لكن أقول تماسكوا ولا تتهاونوا وحاولوا البناء من جديد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى