لحظة صدق لصدام وعمق لديك تشينى

بصدور قرار مجلس الأمن 1441 انتصر فريق كولين باول وزير الخارجية الأمريكى على فريق ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى، فالفريق الأول هو صاحب فكرة ومبدأ ضرورة الرجوع إلى الشرعية الدولية، واحترام الرأى العام العالمى. والفريق الثانى كان يرى ولايزال أنه ليس فى حاجة إلى مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وهذا الفريق يعتقد أنه قادر وحده على تكوين تحالف دولى مناسب، وتأديب الرئيس العراقى وإزاحته عن السلطة فى بغداد، بل بلغ الخيال بهذا الفريق حد أنه اختار سيناريوهات المستقبل لما بعد صدام حسين، ليس فى العراق وحده،
بل فى منطقة الشرق الأوسط ككل، وتصور أنه بانتصاره فى العراق من خلال معركة عسكرية فاصلة سيبنى تحالفا جديدا، وديمقراطية مستحدثة، سوف تشع من العراق إلى كل المنطقة العربية، وجد هذا الفريق فى ذلك الخيال ، حتى إنه اختار ثالوث الديمقراطية المرتقب تركيا وإسرائيل والعراق، ومثلما وصف أحد منظريهم وهو ستانلى ويس، مؤسس ورئيس شركة أمريكية أن هذا الثالوث هو مستقبل شرق أوسط جدير بالتخيل، وأنه عقب الحرب مباشرة، سيظهر عراق ديمقراطى موال للغرب، يشكل تحالفا مع الديمقراطيات الأخرى الوحيدة فى الشرق الأوسط تركيا وإسرائيل، بما سيؤدى إلى خنق القوى الأخرى، وتحديدا سوريا وإيران، وسيؤدى ذلك إلى قطع علاقاتهما الإرهابية مع لبنان حزب الله،
وفلسطين حماس والجهاد الإسلاميين، بسبب الحرمان من الأموال والأسلحة التى يحصلون عليها من الدولتين، وتصبح العمليات الانتحارية الفلسطينية نادرة، وتظهر سلطة فلسطينية معتدلة، وساعتها لن تخشى إسرائيل ما كانت تخشاه طويلا من وجود دولة إرهابية فلسطينية على حدودها، وبلغ بهم التخيل أن هذا التحالف سيكون من نتيجته أن تتغلب الشعوب الشابة الغاضبة على حكامها الفاسدين، وتخضع الأنظمة لرغبات الشعوب المتمثلة فى مزيد من الحريات السياسية والاقتصادية.
كذلك فإن نهاية الصراع العربى الإسرائيلى ستكون وشيكة بمزيد من المصافحات والمصالحات التاريخية على مروج البيت الأبيض وبرعايته، وسنكون أمام ازدهار للعلاقات التجارية العربية الإسرائيلية، مع إنفاق السائحين الإسرائيليين الملايين فى بغداد ودمشق وطهران وبيروت، ويواصل المتخيلون سيناريوهاتهم، كما يتحدث جورج دبليو بوش عن مستقبل مختلف تماما للمنطقة، مثل إحلال الديمقراطية فى كل من أفغانستان وفلسطين والعراق، ونشر الإصلاحات على امتداد العالم الإسلامى، لأن الحرية السياسية والاقتصادية يمكن أن تحقق نصرا فى الشرق الأوسط، وكما يصف أحد المعارضين العراقيين أننا بالتغير المرتقب فى بغداد سوف نرأب أعظم صدع فى المنطقة المتمثل فى الفجوة بين الشعوب وحكوماتها، وليس بين العرب وأمريكا.
وهذه صورة غريبة الشكل، فالديمقراطية ليست سلعة تباع وتشترى من السوبر ماركت الأمريكى، لكنها عملية بناء شعب عن طريق تنمية بشرية وتعليمية وتدريبية طويلة وتكوين مؤسسات حديثة ومنظمة ، وكل ذلك يحتاج إلى مئات الملايين من الاستثمارات والعمل الطويل، كما أن عنصر الوقت مؤثر ولن تتحقق تلك الأحلام فى مجتمعاتنا فور إزاحة صدام أو غيره، وحتى يفهم الأمريكيون ذلك عمليا، فإن عليهم أن ينظروا بدقة إلى الأوضاع فى أفغانستان التى تحتاج إلى سنوات طويلة من التنمية الاقتصادية والسياسية، حتى تتمكن من إجراء انتخابات وتجميع الأفغان حول النظام السياسى، وهذا لا يتأتى بعمل أمريكى فور إزاحة نظام طالبان، وانتخاب حامد قرضاى، بدعم أمريكى وبتوجيه مباشر، وديمقراطية عسكرية، مصنوعة ومحمية بقوة الاحتلال، لكن النجاح الحقيقى لن يكون إلا بعمل سياسى واقتصادى أفغانى بعيدا عن الاحتلال وسيطرة قوة عسكرية أجنبية على مقادير الشعب الأفغانى، وإلا كان ذلك تصورا سطحيا بعيدا عن العمق والرؤية الصحيحة لمستقبل البلاد والمنطقة.
وإذا عدنا إلى الأزمة العراقية وتداعياتها وحللنا انتصار الفريق الذى نادى بتغليب التعاون الدولى لإنهاء الأزمة العراقية سياسيا، فسنجد أنه مازال انتصارا مؤقتا وليس نهائيا، فعلى الرغم من نجاح كولين باول فى حشد مجلس الأمن لإصدار قرار جماعى موجه للعراق، فإن قرار 1441 الصادر فى 8 نوفمبر 2002، هو الحلقة الأولى لهذا النجاح لاشتراك فرنسا وروسيا والصين وسوريا، فى توجيه هذا القرار، فإن قرار اللحظة الأخيرة، سيتحول إلى قرار حقيقى قد يدشن انتصارا عمليا لفريق السلام الأمريكى فى حالة وعى النظام العراقى وقدرته على فهم حقيقة المتغيرات العالمية التى أدت إلى حشد قوات برية وبحرية وجوية ضخمة فى منطقة الخليج، ولا يمكن لهذا الحشد أن ينتهى إلا بتحقيق أهدافه، لعدم قدرة صانعيه على تكوينه مرة أخرى أو أن يقعوا فريسة لأوضاع سياسية ومناورات قد يلجأ إليها العراق، كما حدث خلال السنوات الماضية،
خاصة أن المسرح العالمى عامة والأمريكى خاصة مهيأ الآن تماما لهذه المعركة، بل إن من مصلحة الفريق اليمينى الحاكم فعليا فى واشنطن أن يخطىء العراقيون فى تقديراتهم السياسية، يتمكنوا من جرهم إلى المعركة التى يحلمون بتحقيقها ليروا نتائج هذه السيناريوهات على أرض الواقع، ويختبروا تجاربهم كما يرسمونها على الورق، ولحظة صدام كما تمناها كولين باول صاحب فريق السلام والحل السياسى فى واشنطن، ووجهها فى رسالة إلى صدام حسين بدأها بأنه فى 12 من شهر سبتمبر الماضى وجه الرئيس جورج بوش رسالة تحد لمجلس الأمن ليتصرف بمسئولية ضد التهديد العراقى الذى يفرضه على السلام والأمن العالمى.
وهذا ا لاختيار كان من نتيجته قرار 1441 بالإجماع، الذى يعتبر خطوة تاريخية للأمم المتحدة نحو تخليص العراق من أسلحة الدمار الشامل بالوسائل السلمية، كما أن المجتمع الدولى قد أعطى صدام حسين ونظامه فرصة أخيرة، وعلى بغداد الآن انتهازها.
وعندما سئل باول كيف يمكن أن يتم ذلك؟ قال بعد سبعة أسابيع قاسية من التشاور أدى الجدل والتفاوض فى مجلس الأمن إلى صياغة اتفاق عميق وحل قوى لنزع أسلحة العراق كلية ونهائيا، ويجب أن يكون واضحا للرئيس العراقى أن ذلك ليس موضوعا بين العراق والولايات المتحدة، لكن بين العراق والمجتمع الدولى المتحد بعد 11 عاما من الاستهزاء بعشرات القرارات والتصريحات التى تصدرها الأمم المتحدة، فإن ازدراء صدام حسين للمجتمع الدولى أصبح واضحا، ونحن نسلم تماما بتكتيكات الإنكار والخداع والتأجيل التى استخدمها مرارا وتكرارا لتجنب الانصياع للأمم المتحدة، كما أننا ندرك الطبيعة الوحشية والعدوانية لنظامه، فقد قام بغزو جيرانه مرتين، واستخدم الأسلحة الكيماوية ليس فقط ضد الدول الأخرى،
لكن ضد مواطنين رجال ونساء وأطفال، وخلال السنوات الأربع التى تم حظر دخول المفتشين فيها للعراق طور صدام أسلحة الدمار الشامل سواء كانت بيولوجية أم كيماوية أم نووية، وباول ليس لديه أدنى شك فى استخدام هذه الأسلحة أو تقديمها للإرهابيين وأن الخبرة الطويلة بنظام صدام كما يقول باول تخبرنا بأنه يستجيب فقط، عندما يواجه تهديد القوة، وكل عضو فى مجلس الأمن يفهم أنه إذا لم ينصع صدام للقرار الدولى ستكون هناك عواقب وخيمة، فكلمات القرار واضحة وليست غامضة.
* لقد وجد مجلس الأمن العراق مخترقا لكل التزاماته اختراقا ماديا.
* لقد تم إعطاء العراق أسبوعا واحدا ليقرر ما إذا كان ينوى الانصياع أم لا.
* يجب على العراق إصدار إعلان شامل عن برامجه التسليحية.
* يجب أن يخضع العراق لنظام تفتيش أقسى وأكثر تمكنا من ذى قبل.
ويجب على صدام السماح للمفتشين الدوليين بالدخول الفورى بدون عوائق أو شروط أو قيود للكشف عن أسلحة الدمار الشامل لديه والدخول ليس فقط إلى أماكن مثل القصور الرئاسية، لكن إلى مقابلة الشعب فى الشوارع ومصادر المعلومات الأخرى من علماء وخلافه، ونحن ندرك أن الموقف سيكون حرجا وصعبا لأنه يجب أن نعلم أين ومتى يجب النظر من أجل العثور على أسلحة بيولوجية وكيماوية من السهل إخفاؤها أو إزالتها، وبدون الدخول إلى الأشخاص والمعلومات يجب على المفتشين أن يبحثوا تحت أى سقف وفى حاوية أية شاحنة .
لقد تم إعطاء كل من رئيس المفتشين هانز بلكس والمدير العام للطاقة الذرية محمد البرادعى النظام القوى النشيط الذى يريدونه ، إن عملية نزع الأسلحة يجب أن تبدأ الآن، وأول طائرة للمفتشين ستصل إلى العراق بعد أسبوع، وسيكون العالم فى وضع المشاهد، ومطلوب من المفتشين تقرير بعد 60 يوما، كما سيكون مطلوبا منهم كشف العوائق أو أي نوع من التدخل، فالأيام والأسابيع القادمة كما يشرحها باول هى مرحلة الاختيار للعراق ليس فقط باستبعاد أسلحة الدمار الشامل، لكن باحترام أو الانصياع لقرارات الأمم المتحدة، وبلوغ الأهداف، كما يصف وزير الخارجية، فإن العراق لا يمكنه تهديد شعبه أو الدول المجاورة له والعالم.
ويقول باول إن الرئيس بوش والكونجرس والولايات المتحدة قد تفضل رؤية نزع أسلحة العراق تحت رعاية الأمم المتحدة بدون استخدام القوة، ونحن لا نسعى إلى الحرب مع العراق، لكننا نسعى إلى نزع أسلحته بطريقة سلمية، لكننا لن نرتد عن الحرب إذا كانت الطريقة الوحيدة لتخليص العراق من أسلحة الدمار الشامل، لقد واجه مجلس الأمن صدام ونظامه بلحظة صدق، فإذا قابلها بالمزيد من الأكاذيب فإنهم لن يسلموا من العواقب.
أردت أن أنقل كل أفكار باول صانع قرار 1441 لأهميتها للمرحلة القادمة، التى أتمنى أن ينجح العراق فى اجتيازها فالصعوبات جمة وخطيرة، لكنه فى حاجة إلى أن يسارع فى التخلص من أسلحته، وأن يكشف ذلك للرأى العام ويشركه فى كل شىء، حتى يتمكن من تقليم أظافر اليمين، فالعراق ليس فى حاجة إلى الأسلحة الآن، لكنه فى حاجة إلى إنقاذه من المعركة القادمة، حتى لا يقع تحت احتلال ثقيل سيبدد موارده ويدمر شعبه ومستقبل بلاده، لكن لحظة صدام النى نطلبها من صدام حسين، يجب ألا يغيب عنها لحظة عمق من ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكى أو جماعته. إنهم وإن كانوا قادرين على الانتصار فى معركة عسكرية، فهم غير قادرين على قمع إرادة الشعوب وحريتها فى الاستقلال، وأن يتعلموا من دروس التاريخ أن الديمقراطية والاقتصاد الحر فعل من أفعال الشعوب، وأن البناء الحقيقى هو للإنسان،
ولا يفرض عليه بإرادة عسكرية أو بكسر إرادته بالقوة، وإلا كان احتلالا وقمعا، وأفضل للعراقيين أن يظلوا تحت نيران صدام حسين، من أن يقعا حتى نيران الأمريكيين وأسلحتهم واحتلالهم البغيض، فما يدعونا إليه هو الأسوأ، حتى وإن كان البديل استمرار نظام صدام حسين القمعى، الحل السياسى بالتأنى وباحترام القرارات الدولية. إذا وصل إليه النظام العراقى، فيجب أن تنسحب القوات الغازية، وتسلم بحقائق العصر وتحترم الشعوب، لحظة صدق من صدام حسين من بغداد نترقبها، ووعى وعمق من جماعة تشينى فى واشنطن نتطلع إليها، لتنجو الإنسانية ومنطقتنا من ويلات الحروب، ننتظر ويملؤنا القلق، لكن ليس هناك بديل، والله المنجى.