رفض الاعتذار ورفض الحرب

الحل ليس بوسنة على الفرات
فجر الرئيس العراقى صدام حسين كعادته الغضب فى المنطقة العربية بالاعتذار الذى قدمه للكويتيين والمنطقة العربية، لأن الاعتذار جاء مليئا بالأخطاء والمغالطات الجسيمة، فبدلا من اعتذار صريح يتضمن نقدا ذاتيا وتصحيحا سياسيا، جاء الاعتذار متضمنا الاعتراف بالجريمة وتبريرها بنفس لغة الخطاب السياسى التى تضخها الدعاية السياسية التى تتحكم فى القرار العراقى، ومستقبله طوال سنوات حكم صدام، وحزب البعث العراقى.
جريمة بحجم وثقل كارثة الخليج واحتلال الكويت، كانت تستدعى وقفة مختلفة مع النفس، فالعالم الذى انتظر الاعتذار، كان يتصور أن الخطاب العراقى سيتغير أمام الموقف الحرج الذى تعيشه المنطقة والعراق حاليا، والمتمثل فى وجود فرق للتفتيش الدولية التى وصلت وتصل إلى كل شىء فى العراق بما فيه القصور الرئاسية، هذا التفتيش كان يجب ولايزال يتطلب وقفة انتباه عراقية من الحكومة والشارع، فقد وصلنا إلى نقطة حرجة، ولم يصبح هناك مجال للقادسية الثانية أو أم المعارك، فهزيمة النظام العراقى أصبحت كاملة، وواضحة للعيان، وتتمثل فى الرضوخ للتفتيش الشامل والامتثال الكامل للقرارات الدولية، وإذا كنا نرفض الحرب، وضرب العراق حماية لشعبه وللمنطقة، فإن هذه الحماية لا تمتد ولا يجب أن تمتد إلى الذين ارتكبوا الجرائم فى حق العراق أو الكويت، والذين يجب أن يقدموا للمحاكمات حماية للمستقبل العربى من التخريب الدائم.
لقد وضع كثير من المراقبين أيديهم على قلوبهم عندما سمعوا بنبأ خطاب وزير الإعلام، نيابة عن الرئيس، لتقديم الاعتذار، لأن ذلك ليس شيمة الرئيس العراقى، الذى لا يعتذر ويتصور أن هذا نوع من الكبرياء، وتلك مغالطة جسيمة، فالكبار يعتذرون، ويقدمون مصالح شعوبهم على مصالحهم الخاصة، ومستقبل بلادهم على مستقبلهم الشخصى، لكن صدام وحكومته لا يفعلون ذلك، ولا يتوقع أن يفعلوه، فهم لا يتحركون إلا فى اللحظات الأخيرة، وتحت التهديد المباشر ليس بالحرب فقط، لكن بحشد الحشود على الأبواب، فهو الذى يجبرهم على الحركة، وتجىء دائما بطيئة ومتأخرة ليضيع معها مستقبل العراق ومصالحه، ونتيجة لذلك أصبحنا فى موقف صعب فى تاريخ المنطقة العربية، وتاريخ العراق، فالتغيير القادم بالقوة، لن يكون فى صالح العرب أو العراق.
لكن وللتاريخ نقول إن المسئولية المباشرة عن الكارثة، وإن كانت ستقع على المجتمع الدولى، فهى أولا وأخيرا من صنع الحكم العراقى الذى لن نتسامح معه عربيا، فقد أوصلنا إلى وضع حرج ينذر بتطورات جسيمة وانهيار مرتقب.
يجب أن نتعامل عقليا مع التطورات السياسية الحثيثة التى تمر بها منطقة الخليج بكل حكمة وروية، وأن نقدم النصح والإرشاد لهذا النظام العاجز عن الفهم، والذى تسيطر عليه عقليات قديمة وشعارات وهمية، أسقطت كل قدرة رشيدة على الحركة وتقديم سياسة جديدة، فقد كان من الضرورى أن يتنحى وأوصله الفريق الذى يدير سياسة العراق منذ الثمانينيات والتسعينيات إلى هذا الوضع، والانهيار شبه الكامل ، ويجىء فريق آخر ليحكم حتى لو من وراء ستار، ويأخذ كل الصلاحيات السياسية لكى يخرج العراق ومنطقة الخليج من الكارثة القادمة.
لكن ماذا نقول، وقد انسدت الشرايين السياسية فى العراق، ووصلت إلى عدم القدرة والخوف من قبل الفريق الحاكم والملتف حول الرئيس، الذى أصبح غير قادر على أن يقول كلمة أونصيحة، أو يقدم قرارا رشيدا ورؤية واضحة حقيقية، فى هذه اللحظة الراهنة الصعبة التى دارت فيها كل الآلات العسكرية، وأصبحت هناك قوى على المسرح السياسى العالمى، ترغب وتود بإلحاح فى أن يكون سقوط الرئيس العراقى بالقوة العسكرية والحرب.
وإذا كنا نتصور أن الشعب العراقى قادر على التصحيح والتغيير، فإنه يحتاج إلى وقت تقدم فيه القيادة العراقية مستقبل بلادها على مستقبلها، ويجب أن يدرك النظام العراقى أن هذا سيحدث بالرغم من صعوبته عليه، وإلى أن يتحقق ذلك فلا يسعنا هنا إلا تقديم النصيحة للقيادة العراقية، فالأيام القادمة حاسمة للعراق، ونصيحتنا تتلخص فى أن يواصل التعاون النشط مع المجتمع الدولى بلا هوادة من خلال التعاون مع المفتشين الدوليين، وبطريقة واضحة وحاسمة، وقد كانت الإشارة الأولى من قبل العراق هى قبول التفتيش، والثانية هى تقديم الوثائق إلى الأمم المتحدة، أما الثالثة، فهى التعاون فى المعلومات الجديدة، والرابعة ستكون إعلانا واضحا عن أن العراق أصبح لا يملك أسلحة أو صواريخ بيولوجية أو كيماوية أو وسائل تصنيعها، مع التخلص من أى جهود لتطوير الأسلحة النووية، كما أن العراق قادر على مساعدة المفتشين على الوصول إلى كل مواقع الأسلحة المحتملة، وإتاحة السبل لكل العلماء والفنيين الذين يعملون فى هذه البرامج للإجابة عن أسئلة العلماء الدوليين، حتى نتخلص من كل الحجج الأمريكية الخاصة بالتسليح العراقى، ونتجنب اللوء إلىالقوة للتخلص من الأسلحة، ومن ثم تتطور الأمور للتخلص من النظام، الذى اعتبره تونى بلير رئيس الوزراء البريطانى هو نفسه أحد هذه الأسلحة.
إن التطورات فى العراق وأزمته الراهنة أعقد مما نتخيل، فليس الموقف هو انتظار سقوط النظام أو الحرب المقبلة فقط، بل مخاوف واسعة النطاق، من أن نهاية النظام ستعجل من التحطم العاصف للعراق نفسه، فعقود من الحروب وحالات القمع لكل القوميات السنة والشيعة والأكراد والآشوريين والتركمانيين والعرقيات الأخرى، أدت إلى استقطاب الشعب العراقى وإضعاف وحدة البلد، فخلف درع قوة الطيران الأمريكى والبريطانى. نشأت دويلات عراقية كأمر واقع على سبيل المثال فى شمال العراق للأكراد.
فالعراقيون سيواجهون قريبا، إذا لم تقم الحرب تحديا فى إقناع مواطنيهم فى الشمال بالعودة تحت مظلة حكومة مركزية جديدة فى بغداد، ولن يكون ذلك عملا سهلا، حيث إن الأكراد يفضلون الانقسام عن اقتسام السلطة والأرض، وقد قال الزعيم الكردى مسعود البرزانى، نريد اتحادا كرديا يقوم فيه الأكراد بالتحكم فى أربعة أقاليم من إجمالى 18 إقليما عراقيا، وهذه نقطة سوف تفجر العلاقات التركية الكردية والعربية ككل، فى الوقت الذى يخشى فيه المسلمون السنة فى المنطقة الوسطى نفوذ الشيعة المقيمين فى الجنوب، ويقولون إنهم سيستولون على السلطة فى العراق الديمقراطى فى المستقبل، فى حين يرغب الشيعة فى وضع نهاية لاستبعادهم الطويل عن السلطة.
كل هذه الجماعات عاشت معا فى سبيكة واحدة، مع الاحتفاظ بالتعددية الدينية، وأية محاولة للضغط عليها بتشكيل كانتونات عرقية أو طائفية يمكن أن تحول العراق إلى بوسنة على الفرات.
الخبر الطيب الوحيد الذى يجب أن نسمعه أنه يمكن تجنب مثل هذه الكانتونات، إذا أمكن إنقاذ وحدة العراق، وإتمام العمل بسلام.
ويكمن مفتاح الحل فى عراق جديد بدستور ديمقراطى، يضمن حماية كل حقوق مواطنيه بما فى ذلك الأقليات، وتحقيق المصالح الكردية فى الحكم الذاتى، وكل طموحنا أن يكون نظام الحكم فى العراق قادرا على فهم كل هذه المتغيرات، ويا حبذا لو شارك النظام سياسيا فى تحقيقها بدلا من أن تتحقق بالقوة أو بعيدا عنه، وبذلك نتعرض جميعا لمخاطر كبيرة.
فهل نطمع فى هذا الحلم، أعتقد أنه بعيد، لأن عقودا من الديكتاتوريات، وتوقف الإصلاح، لا تؤدى إلى ذلك، لكنها تفتح الباب دائما إلى التدخلات الأجنبية والقوة.
منحنا الله العقل والحكمة دائما فهما الأفضل للعقلاء ولمصالح الشعوب.