عرفات مانديلا وليس سافيمبى

يخطىء الرئيس بوش خطأ جسيما هو وإدارته، إذا أصروا على الوقوف فى مواجهة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات ومحاربته، أخذا بنصيحة رئيس الوزراء الإسرائيلى آرييل شارون، الخطأ هنا ليس سياسيا فقط، بل أخلاقيا، فالأمريكيون بذلك يتخلون عن كل مبادئهم وما يؤمنون به إرضاء أو ضعفا، أو عدم قدرة على مواجهة المتطرفين فى إسرائيل.
لأن الرئيس الفلسطينى هو قائد مخلص للشعب والثورة الفلسطينية رغم أخطائه التى هى أخطاء طبيعية لأى زعيم سياسى يواجه ظروفا صعبة، بل إن كفاحه البطولى حد الاستحالة ضد أعتى قوة احتلالية استيطانية ليس لها نظير فى التاريخ العالمى، إلا الاحتلال الفرنسى للجزائر الذى خرج فى نهاية المطاف، هذا الكفاح يمنحه أوسمة كثيرة، ومكانة رفيعة، فقد ظل حاملا شعلة الحرية لحوالى عشرة ملايين فلسطينى، كانت إسرائيل وما تملكه من قوة كبرى أو قوى عديدة لا تحاربهم، وتطردهم من أراضيهم فقط، بل تحاول محوهم من الوجود.
عرفات هنا هو مانديلا العربى، فمثلما وقف مانديلا الإفريقى ضد التمييز العنصرى البغيض فى جنوب إفريقيا السابقة، وانتصر، وقف عرفات فى المواجهة الدامية بصلابة، وبعض المراقبين أيضا عندما يقارنون بين الزعيمين ذوى المكانة الضخمة فى التاريخ الحديث، يؤكدون على أن عرفات واجه ظروفا أصعب وأقسى مما واجه مانديلا، فمحاولة بعض القوى إزاحة عرفات وضربه فى المعركة الراهنة، وتشبيهه بسافيمبى خطيئة ومقارنة ظالمة يكذبها الواقع، وعلينا أن ندرك أن نهاية عرفات يجب أن تكون انتصارا وليس قتلا عمدا أو تشويها، وسجنا أو عودة إلى الطرد أو المخيمات.
فعرفات المحاصر يواجه أصعب الظروف وأقساها، ومع ذلك يتحكم فى سياساته وردود أفعاله فى هذا الوقت الصعب، ويمارس أقسى درجات ضبط النفس، وتلك حكمة الزعماء الحقيقيين، فهو يقبل بمبادرة بوش، ويصححها عمليا، ويقوم بعمله وسط الحصار، ويضع خطة لبناء السلطة والدولة الفلسطينية فى مائة يوم، يصلح ما هدمه شارون، ويحاول ضبط المقاومة الفلسطينية، ويرشد العمليات الاستشهادية والفدائية، ويشرح للشعب ويتحاور معه من تحت الحصار، بأسلوب أسطورى يستحق التشجيع والإشادة.
الرئيس الفلسطينى يمارس النقد الذاتى والتصحيح لإدارته، بالرغم من الحصار، ولعل شجاعته تتجلى هنا فى قدرته على الاعتراف بارتكابه أخطاء فى مفاوضات كامب ديفيد الثانية فى يوليو 2000، لكن عرفات يستدرك قائلا إنه كان قريبا من الوصول إلى السلام والاتفاق فى شرم الشيخ وباريس وطابا لو لم تقع زيارة شارون إلى المسجد الأقصى.
وإذا أصرت أمريكا على موقفها فستخطىء خطأ فادحا على اختيارها هى وشارون، قيادة تفصيل للشعب الفلسطينى.
حتى إن توماس فريدمان الكاتب الشهير والمؤيد لإسرائيل، وصف خطة بوش شارون الرامية إلى الإطاحة بالرئيس عرفات بأنها ليست نهاية لعملية أوسلو فقط بل لفكرة السلام برمتها، وأن مقارنة خطة بوش حول إقامة الدولة الفلسطينية بالاقتراح الجاد لكلينتون، مقارنة ظالمة لخطة كلينتون.
وإذا كنا قد قارنا بين عرفات ومانديلا وسافيمبى، فإن ستيفن كوهين الخبير فى شئون الشرق الأوسط، يقارن بين عرفات والزعيم المصرى جمال عبدالناصر، ويقارن بين الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وحرب 1967، لأن الرجلين اكتسحتهما التخيلات الجامحة فى لحظة ما، وفشلا فى التمييز بين ما هو حقيقى، بين ما هو أوهام ومثلما كانت 1967 بداية النهاية لناصر، فإن الانتفاضة الفلسطينية بداية النهاية لعرفات، انتهى كلام كوهين، لكننى أقول حتى لو انتهى عرفات حقيقة، فهل إسرائيل مستعدة لمنح خليفته كل الضفة الغربية وغزة وشرق القدس والاحتياطات الأمنية والحدود أو كل ما يتعلق بالسيادة الفلسطينية.
نعود إلى عرفات وقصته.
نتطلع إلى أن تعى إدارة بوش ورئيسها وكوادرها وأن تدرس ملف الرئيس الفلسطينى، فليس سهلا تجاوزه أو تهميشه أو عزله بقرار إدارة، لا تدرك طبيعة صراع الشرق الأوسط وحقيقته، فالرئيس عرفات من شخصيات الصراع العربى الإسرائيلى المحورية، التى ارتبط اسمها بالقضية الفلسطينية طوال العقود الخمسة الماضية، ولايزال عنصرا فاعلا على الساحة السياسية ومحركا رئيسيا لأحداثها، ولا تنسوا أنه القائد الذى وقع اتفاق أوسلو مع إسحاق رابين مع اعترافه بالدولة الإسرائيلية القائمة على الحدود التاريخية لفلسطين، وأنه الذى أوجد شرعية جديدة للعملية التفاوضية، شرعية تقوم على الاتفاقات الثنائية وليس على القرارات الدولية، وأنه صاحب جائزة نوبل للسلام فى عام 1994 التى تحظى باعتراف دولى، ولا يمكن تحميل عرفات أخطاء العمل السياسى فى المنطقة بعد الزيارة الاستفزازية التى قام بها شارون فى ظل تنامى الحديث عن هيكل سليمان والحفريات التى تتم تحت المسجد الأقصى والخوف المتزايد من إلحاق الضرر به، وقد تعامل رئيس الوزراء السابق باراك بعنف مع الانتفاضة، ولم يستطع إخمادها، وهكذا فعل شارون، فهما مسئولان عن كل أحداث الانتفاضة وتطوراتها المتلاحقة.
عرفات، رئيسا وقائدا يستحق الاحترام، وإذا كنا نعترف بأخطائه، وإذا كان يصححها بعمل جاد، وحوار خلاق مع كل الفصائل الفلسطينية، فيجب أن تعيد أمريكا نظرتها للرئيس الفلسطينى، ولتأخذ الإدارة الأمريكية عبرتها ليس من العرب، لكن من أوروبا التى تتحدى سياستها تجاه الفلسطينيين ورئيسهم، ويبرز الآن اتجاه عالمى بمنح عرفات فرصة جديدة خاصة أنه يصحح الأخطاء، وهو أمر يزيد قدرته على التأثير فى شعبه.
أقولها بصراحة وثقة إننى على يقين من قدرة الرئيس عرفات على تحقيق الانتصار، والخروج من المأزق الجديد، رغم صعوبته، وأنه مع القوة الكبرى الوحيدة فى العالم الراهن، مع إدارة أمريكية تتصدى لقضية لم تخبرها جيدا، وتدخل حقل ألغام على قاطرة إسرائيلية مشبوهة تقودها حكومة يمينية منغلقة، جاءت من الزمن الماضى، وتلفظ أنفاسها الأخيرة إسرائيليا، قبل أن يحدث ذلك إقليميا وعالميا، فنحن نعيش فى زمن سوف تسقط فيه كل الأساطير الدينية المتطرفة.
لن يقبل هذا العالم المتطرفين الدينيين الذين يشعلون الحروب، بل وسوف يكشفهم الجميع، ويضعهم فى حجمهم الطبيعى، وتتم تصفيتهم.
وعرفات الجديد يدرك هذه الرؤية، وسوف يهزم التطرف المتطرفين فى دائرته وخارجها.