وقفة مع واشنطن

ما يجب أن تفهمه إدارة الرئيس جورج دبليو بوش الأمريكية هو أن العرب لا يخافون، وأن رفضنا للإرهاب والعنف ليس من منطلق تحذيرات أمريكية، لكن لقناعات داخلية وخاصة بنا، وأن مبادرات السلام العربية التى قدمت واحدة تلو الأخرى، عبر أربع مؤتمرات قمة عربية، من فاس إلى القاهرة إلى عمان، وأخيرا فى بيروت، ليست تسليما عربيا، لكنها كانت بحثا عن مخرج من أزمة مستعصية تواجه السلام الإقليمى، أو تنحية الحروب والصراعات جانبا ليحتل السلام مقدمة المشهد.
رغبة العرب فى السلام هى التى جعلت أمريكا وسيطا فى عملية السلام، فهى لم تكن فى يوم من الأيام صانعة له. كما أن ما تحقق من سلام إقليمى فى منطقتنا إلى الآن لم تكن واشنطن هى المحرك الفاعل فيه، وذلك منذ أن أطلق السادات مبادرته، حتى توقيع الاتفاقات بين مصر و إسرائيل، وأيضا فإن اتفاق أوسلو كانت بدايته، بعيدا عن واشنطن، ثم انتقلت رعايتها له بعد أن حققت المفاوضات نتائج مباشرة مع الإسرائيليين.
وخلال هذه الفترة لم تطرح الإدارة الأمريكية أى مبادرة حقيقية لكى تكون دولة صانعة للسلام أو حتى وسيطة للسلام، فقد وصل الأمر بالإدارة الأمريكية حدا من التدهور والانهيار لا مثيل له فى تاريخها، وأصبحت تابعة للإدارة الإسرائيلية من غير أن تمارس تأثيرا عليها، فالإدارة الأمريكية لا تعترف إلا بالقوة، وتخلط كل الأوراق، بعد أن أثرت عليها حربها ضد الإرهاب والتطرف، فهى تطالب الجميع بالتزامات أو تفرض شروطا بلغة أبسط ما يمكن أن يصفها أى مراقب، هى أنها لغة صناعة العدو، والتربص ليس بالأصدقاء فحسب، لكن بالحلفاء والشركاء أيضا.
وبيان الرئيس جورج بوش الأخير لا يساعد على صناعة السلام، ولا يقول أى شىء لرئيس الوزراء الإسرائيلى آرييل شارون، بل إنه يعترف له بأنه رجل سلام، وبالتالى فإن الإدارة الأمريكية لا تملك إلا ترديد ما يقوله، وقد يكون فى أحسن الأحوال الخطاب نفسه بلغة جديدة، على هذا النحو فإن الإدارة الأمريكية تبرهن على ارتباطها إلى حد كبير برغبة شارون، فقد كان صاحب فكرة عقد مؤتمر عن الشرق الأوسط، ثم أصبح الأمر اقتراحا أمريكيا، بل إن شارون أيضا هو الذى طالب بتصحيح أوضاع السلطة الفلسطينية كشرط أساسى قبل أى محاولة لاستئناف مباحثات السلام، وأيضا تحولت تلك الرغبة إلى مطلب أمريكى.
وأصبحت إسرائيل أو شارون لا تريد الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، الذى بات الآن يقبل أى شىء يعرضه عليه الإسرائيليون، بل إنه قبل بكل ما قال الرئيس بوش قبل أن يعرف بدقة أن هناك فيتو إسرائيليا عليه شخصيا، وأنه لن يكون جزءا من اللعبة القادمة، رغم قبوله بكل شىء، واعترافه بأخطائه فى كامب ديفيد، وعلى حد وصف المراقبين فإنه مستعد للقبول بأى شىء حتى لا يسقط فى هوة سحيقة.
وما لم تدركه أمريكا، ولم يدركه بوش فى خطابه الأخير، هو ما التقطه العالم العربى بحاسته القوية أن الشرط الإسرائيلى، ثم الأمريكى الحالى، لتأجيل السلام حتى يتم إصلاح السلطة الفلسطينية وتغيير عرفات ما هو إلا حيلة للهروب من التزاماتهما، ودفع استحقاقات السلام، لأنه ببساطة لا يمكن أن يكون هناك إصلاح حقيقى إلا فى جو من الحرية والديمقراطية فى الأراضى الفلسطينية، التى تقع تحت الاحتلال الآن، ولن نتحدث عن صور الاحتلال البشعة، فسنترك ذلك للصورة ومحطات التلفزة، لتحكى ببلاغة عن نوعية المحتلين الإسرائيليين الذين يقفون ضد أى وجه للحياة، وأهون هذه الصور هو إغلاق المدارس وقصف المستشفيات، واغتيال الأطفال، وقتل النساءعلى الحواجز وفى بيوتهم.
الواقع أن الجيش و الدبابات والطائرات والمصفحات تقاتل أطفالا ونساء فى الشوارع والبيوت، أليس هذا احتلالا تفرضه إدارة بوش وحكومته على الشعب الفلسطينى، وتريد تصنيف مقاومة الاحتلال على أنها إرهاب، وتريد تصفية عناصر المقاومة قبل أن يحصل هذا الشعب على حريته، أو تنسحب قوات الاحتلال من أراضيه وبعد هذا كله يأتى بوش ليسمعنا لاءاته وشروطه المجحفة، التى هى فى الأصل إذعان لمطالب شارون.
ماذا يفعل الفلسطينيون والعرب إذن إزاء هذا الموقف الأمريكى المجحف؟
أعتقد أن الفلسطينيين فى حاجة ماسة إلى أن يتماسكوا ويوقفوا حالة التشرذم بين تيارى التفاوض والمقاومة، ويكونوا حكومة وحدة وطنية فى الداخل والخارج، توقف تعاملها مع شارون، وتتجه مباشرة إلى التفاوض مع الشارع الإسرائيلى وقوى السلام بداخله، دون حاجة إلى أمريكا أو شارون.
ينبغى أن يعرف العالم بأسره أن الفلسطينيين موحدون سواء كانوا تحت قيادة عرفات أم غيره، ففى هذه الحالة ستتغير كل الموازين الإقليمية، وستنهزم قوات العدوان، وسيحدث انقلاب داخل المجتمع الإسرائيلى، يكشف الولايات المتحدة وضعفها فى التعامل مع حكومة شارون العدوانية.
أما العالم العربى فهو فى حاجة إلى الوحدة والتعاون الداخلى، والاتفاق على أسلوب موحد فى تعامله مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكشف حالة العدوانية الراهنة التى تتسم بها. وتصحيح أخطائها فى حرب الإرهاب الراهنة، وعلى العرب أن يركزوا على الرأى العام فى أمريكا وأوروبا، حتى يتم تصحيح الأوضاع، ولا ينتظرون شيئا من الإدارات الحاكمة التى تقع فريسة لأشد التيارات يمينية فى مجتمعاتها، خاصة أن العرب لا يريدون أكثر من المساواة والعدل من جانب القوة العظمى، التى لا منافس لها فى عالمنا، ولا يريدون الصراع أو الحروب، فهم يفرقون جيدا بين الحقوق والسلام والاستسلام، ويدركون أن السلام لا يمكن أن يفرض إلا بقوة الحق، وليس بالقوة الغاشمة.