مقالات الأهرام العربى

يد إلهية

عنوان فيلم أم عنوان قضية!؟ أظن أنهما الاثنان معا، فاز فيلم، وفازت قضية، فللمرة الأولى فى عالمنا نفوز عالميا، مع أن بعضنا يشعر بهزيمة داخلية لأنه لا يقرأ لغة السياسة ولا يرى تطورات قضيتنا الفلسطينية التى عشنا على  أنها أكثر قضايا العالم عدلا وحقا، فى حين كان الآخرون يرون العكس، وينظرون إلينا على أننا متعصبون وفاشيون وهمجيون، والأغلبية الكبيرة التى تستهدف الأقلية الصغيرة المضطهدة، وعشنا ورأينا بأعيننا الدنيا تتغير حولنا، أصبحنا ­ نحن الأغلبية ­ نبحث عن سلاحف ˜النينجاŒ حتى ولو خياليا لتنقذنا من براثن عدو مدجج بكل الأسلحة، يستأسد على الأطفال والنساء، والمدنيين الأبرياء.

لكن قضيتنا الفلسطينية حققت فى مهرجان ˜كانŒ السينمائى انتصارا فكريا وثقافيا يستحق وقفة تقدير واحترام لمن أنجزوه، فهو انتصار يتزامن مع الشعور العالمى الآن، خاصة فى أوروبا، بعدالة قضية الفلسطينيين، وضرورة إنصافهم بعد طول معاناة واضطهاد إسرائيلى وعالمى، وإعطائهم الحق فى حياة كريمة وحرة، فى ظل دولة مستقلة بعيدا عن الاحتلال وقمعه.

استطاع المخرج الفلسطينى إيليا سليمان ابن الناصرة 42 عاما أن ينتزع من قلب صناعة السينما الأوروبية فى مهرجان ˜كانŒ الـ 55 اعترافا مدويا بفيلمه الملهم عالى التقنية، ˜يد إلهيةŒ جائزة لجنة التحكيم، واستطاع أيضا أن يفرض على المتعصبين أن يخفوا أعينهم وهم يواجهون كاميرات المصورين بعد مشاهدة ˜الكوميديا السوداءŒ التى صاغت يوميات الحب والألم، وجسدت العنف اليومى الذى ينخر فى المجتمع الفلسطينى ويدمره.

قصة سينمائية بسيطة ومركبة فى آن، جاءت كإبداع خالص، كانت حديث أوروبا، مثلما كانت انتفاضة الفلسطينيين حديث العالم، الفيلم والفوز قدما وجها غائبا للفلسطينيين كشعب ملهم وحيوى، يبحث عن الحياة والحب والحرية، لقد هزم الفيلم فى ˜كانŒ كل الأصوات القبيحة التى أرادت أن تلصق كل ما هو قبيح بالفلسطينيين، وتصمهم بالإرهاب، فجاء الفيلم سلاحا خطيرا يسرى فى العقول والوجدان، ويقدم قيمة جديدة، وبعدا غائبا عن قضية عادلة لشعب يستحق الاحترام لأنه يتوق للحرية.

قدم إيليا سليمان إبداعه السينمائى بأسلوب سهل ممتنع، لم يلجأ إلى خطبة حماسية، ولم يكتف بالمضمون السياسى، لكنه خاطب العصر بلغته، وانتصر لقضيته فى العمق، وليس بالشكل، ولم يصرخ مثل السياسيين، تسبقه علامة (V) لكن بالكوميديا، فكان الناس يضحكون بينما قلوبهم تدمى، وتوخز ضمائرهم القضية العادلة، فيتمنون أن ينصفوا أصحابها.

والفيلم الفائز عبارة عن مجموعة من القصص الصغيرة، تكبر متجاورة بعيدا عن بعضها البعض، لتشكل قصة الفيلم، فى النهاية ورغم أنها لا ترتبط ببعضها البعض، فإنها شكلت قصة وطن، يجعله إيليا سليمان ينتصر على فاشية المحتل فى مشهد ينتمى إلى الخيال، حيث تنجح فتاة ˜نينجاŒ فلسطينية فى قتل الأعداء، فى مشهد يسبق نهاية الفيلم.

فى الوقت الذى يظن فيه الإسرائيليون أنهم يدوسون علم فلسطين تهتز الأرض من تحت أقدامهم، وتظهر خريطة فلسطين سلاحا فى يد المرأة ˜النينجاŒ الفلسطينية، التى تنجح فى تفجير طائرة هليكوبتر إسرائيلية. كما تنجح فى قتل رجال الوحدة الخاصة الذين كانوا يتدربون على قتلها، وتتجمع فى النهاية شيئا فشيئا خيوط السيناريو لتعلن انتصار فلسطين على العدو ­ ولو فى الخيال ­ وهنا يتداخل عنوان الفيلم. وعنوان القضية ˜اليد الإلهيةŒ ليقول إن الأمر ممكن، وأن السيطرة الإسرائيلية لا يمكن أن تكون أبدية.

ولعلنا نتوقف أمام صورة البالون الذى عبر الحاجز وعبر أسوار القدس القديمة، حتى استقر فوق قبة مسجد الصخرة، بفضل تدخل ˜اليد الإلهيةŒ لتذكر إسرائيل، بأن الأمر لا يمكن أن يستقر لها. وهى تحتل القدس إلى الأبد، هذا البالون الذى حمل صورة عرفات كرمز لأمة، تشعر بأن النصر قادم من عند الله، أربك الإسرائيليين، وهم يرون البالون يتحرك، فخافوا الاقتراب منه، حتى يسألوا قيادتهم لتقرر ما الذى يجب فعله أمام بالون يعبر الحاجز، كان هذا عنوان النصر القادم، لقد خرج عفويا من يد طفل يقف عند الحاجز، ليعبر عن صورة المستقبل.

نتوقف عند المخرج عندما قال عن فيلمه إننى رجل سلام، لا أميل إلى العنف بالمرة، ويمكنكم أن تروا ما يمكن أن تفرزه بيئة عنف فى روح شخص مثلى، بهذه الكلمات ينتهى الفيلم الفائز، الـ ˜وثيقةŒ لا الـ ˜وثائقىŒ الذى جاء ملحمة شعرية، تؤكد احتمال وجود عالم أفضل.

أتمنى أن يؤدى  هذا الفيلم إلى  أن يكتشف كل شخص الجزء الصغير من الفاشية التى يحملها فى داخله، وليس فقط التنديد بالفاشية الإسرائيلية.

أما الإسرائيليون فيقولون عن الفيلم نعيش يوميا هذا النوع من الاضطرابات والتناقضات، ويؤكد صحفى إسرائيلى ذلك قائلا عندما يكون هناك فيلم واضح وكريم مثل فيلم إيليا سليمان، فإنه يفتح أعيننا على كيف أصبحت حياتنا اليومية، إذ نخرج بعد مشاهدته ˜محبطينŒ، ويقول آخر فى أثناء العرض كانت هناك أوقات أردت فيها إخفاء وجهى تحت المقعد، خاصة مشاهد نقاط التفتيش.

وعندما أراد صحفى فرنسى إحراج إيليا سليمان بعد عرض فيلمه، قال له فيلمك جميل، لكننى أريد أن أسألك ما رأيك فى ˜الكاميكاز الفلسطينىŒ؟ يقصد العمليات الاستشهادية أو الفدائية مستخدما المصطلح اليابانى، كانت إجابة المخرج النابه ممتازة لأنها كانت واضحة وغير غامضة، فقد قال له لن أقع فى الفخ مثل عرفات، وقال له  أتمنى أن تتوقف أعمال ˜الكاميكازŒ والعمليات العسكرية الإسرائيلية فى الوقت نفسه.

هذا الفيلم يستحق أن يشاهده الجميع، وأن يعرض على الإسرائيليين حتى يخجلوا من أنفسهم، مما يفعله شارون، ويسألوا أنفسهم، كيف يمكن أن يبرروا أفعالهم أمام أطفالهم فى المستقبل؟

كما يستحق الفيلم أن يعرض على الأمريكيين، فسوف يخجلهم أن شارون استخدم سلاحهم وطائراتهم فى قمع النساء والأطفال، وقتل الأبرياء.

وسيحدث حتما تغييرا فى الأمريكيين مثلما أحدث هزة فى قلوب الأوروبيين.

كما أننا فى حاجة إلى أن نعرض الفيلم فى كل البلاد العربية، حتى نتعلم من إيليا سليمان لغة الخطاب الراقى، وعلى شاشاتنا الفضائية حتى نخجل من اللغة الزاعقة والرنانة والخطابية، ونسعى إلى تغيير أسلوبنا وطريقة خطابنا حتى نكسب العدو قبل الصديق، سنفهم أن هناك لغة للعقول تتسم بالجمال والدقة، وأنها اللغة المحببة ، وليست اللغة التى تدغدغ المشاعر وتؤجج الوجدان، حتى تلغى العقول وتجعلنا ˜قبائلŒ لا نفكر، حتى تسهل هزيمتنا وتهمش قضيتنا.

فيلم إيليا سليمان لغة جديدة، تؤكد قدرة العقل العربى والفلسطينى على التعبير عن قضيته، لأنها تسير بمنهج العقل، فالمضمون السياسى الفنى لم يجعله يستغنى عن التواصل مع الآخرين والتأثير فيهم بلغة سينمائية راقية عالية التقنية، جعلت السينمائيين الأوروبيين يتوقفون أمامها، ويمنحونها الجائزة، ويمتدحون المخرج إيليا سليمان والفنانة منال خضر.

أعتبر أن هذا الفيلم وتلك الجائزة باقة ورد كبيرة قدمت للقضية الفلسطينية، بل للدولة الفلسطينية القادمة، ونحن فى حاجة إلى المزيد من الجميع وبنفس اللغة والكفاءة فى كل مناحى حياتنا، وبهذا الأسلوب تنتصر قضايانا وترتفع قيمة أمتنا، ولا نسأل أنفسنا دائما ما الذى ينقصنا؟ تنقصنا أعمال بهذه الكفاءة والقدرة وشخصيات ومؤسسات تتواصل مع العالم بلغته، وتفوز وتفرض فكرها ولغتها، لأنها تملك لغة العصر وعلمه، وتعمل بانتظام، لكى ينتصر الحق، ولا يصبح ضحية نبكيها ونبكى معه على قضية ضائعة، لكن يكفينا الآن ˜يد إلهيةŒ وهى معنا وقد فازت والحمد لله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى