مقالات الأهرام العربى

الكلام الطنان والدبلوماسية

نعيش مرحلة قاسية، حقيقة لا يمكن تجاهلها، والخيارات صعبة، لكنها واضحة، برغم عوامل إخفائها، أو التغاضى عنها، لأن الكل يريد أن ينتصر لرؤيته أو فكرته فقط، التى قد تكون جامدة أو موروثة، ويعتبرها هى الأصح، وفى هذا المناخ إذا ترك كل منا أفكاره القديمة، ونظرته إلى الواقع وتطوراته، وتحلى بالبصيرة والحكمة، لوصلنا إلى حلول مبتكرة تتيح لمنطقتنا الخروج من أزماتها المتكررة والمتشابهة طوال الوقت، ويتصور كثيرون أن النفق الذى نعيشه لا مهرب منه، لكننى أرى العكس، مع اعترافى بأن الحسم ليس قريبا، لكنه آت بالتأكيد.

مأزق شعوب الشرق الأوسط، قد تكون داخلية، نتيجة لأوضاعهم السياسية التى تجعلها غير قادرين على الوصول إلى نظام عادل سياسيا، يتيح لها تداول السلطة وتنظيمها بدون فوضى أو عشوائية أو ظلم أو تهميش لقوى سياسية عديدة ، فى ظل غياب المجتمع المدنى، وعدم وجود نظام اقتصادى يسعى إلى تدوير الاقتصاد، ورفع مستوى معيشة الشعوب، أو حتى عدم القدرة على تعاون إقليمى بأى شكل كان مثلما هى حال شعوب الأرض الأخرى، فهناك فشل فى تعاون عربى ­ عربى أو حتى فى تعاون جغرافى على نطاق ضيق، خليجى أو مغربى أو شامى، والأكبر هو فشل التعايش الإقليمى، ولا أعنى هنا فى نطاق الشرق الأوسط بمعناه الشامل، أى بكل قومياته حتى لا يدخلنا أحد فى المتاهة الإسرائيلية، لكننى أعنى خلافاتنا مع جيراننا فى الشرق الأوسط، سواء أكانو الإيرانيين أم الأتراك، وهى خلافات واضحة للعيان، سواء عقب قيام الثورة فى إيران، وحرب الخليج الأولى (1988-80) التى اشتعلت مع العراق، أم حروب المياه مع تركيا بينها وبين سوريا والعراق معا.

لا نريد أن نهرب بعيدا عن النيران المشتعلة فى الشرق الأوسط الآن من جراء الاعتداء الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى، ونتصور أن التفكير العربى والعالمى، يجب أن ينصب على الخروج من هذه الأزمة الإقليمية المستعصية التى بدون حل لها، فإن السلام العالمى والاستقرار الإقليمى يبقى مهددا، فلا يمكن أن ننكر أن الحرب الطويلة التى تفجرت بعد حادث 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة الأمريكية كان من ضمن أسبابها غياب العدالة فى منطقتنا، واستمرار البؤرة الصديدية المستمرة منذ 54 عاما بلا حل، أى منذ قيام إسرائيل فى منتصف القرن الماضى فى 15 مايو عام 48، ثم ترك الفلسطينيين فى  المخيمات يعيشون حياة مظلمة بلا أمل أو مستقبل.

وعلى الرغم من أزمة فلسطين الصعبة فى مقابل كلمات شارون الطنانة، وشعوره بالانتشاء والنصر، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الفلسطينيين حققوا نصرا مؤزرا، كشف إسرائيل من الداخل، وحصلوا على اعتراف عالمى بدولتهم، التى غابت 54 عاما، وكادت تطمس، لولا انتفاضة الشارع الفلسطينى، وثورته العارمة التى يجب ترشيدها وتطويرها نحو الهدف، وهو الدولة وحرية الإنسان الفلسطينى، وسيادته على أرضه، دولة قابلة للنمو والتطور، تعويضا للشعب الفلسطينى بعد معاناة صعبة ومريرة.

ونتصور أن الفلسطينيين وضعوا أيديهم على الأخطاء واتجهوا نحو تصحيحها، وأولها إنهاء النقاش حول العمليات، أهى انتحارية أم استشهادية، وإذا اعترفنا بنبل الشهداء ومقاصدهم، فإن موافقتنا على هذا الأسلوب فى التحرير والتجاوب معه وتشجيعه لا يتسم بأى نبل وشجاعة من جانبنا لأن يعنى التضحية بالشرفاء، والدفع بهم إلى التهلكة، ورغم أنه موت شريف وشهادة حق، فإنه موت على كل حال، وغياب الشرفاء أصبحوا ضحايا لواقع عربى مرير، والأخطر أن هذه العمليات يجب أن يكون مفهوما أنها لا تحقق نصرا أو تزيح عدوا من أرض، لكنها تفتح بابا لجهنم، وتوصد أبوابا للخروج من الأزمة وتعمق مشاعر الكراهية، بل إنها ستغلق كل فرص التسوية العادلة مع الشعب الفلسطينى، وصولا إلى الدولة، وتفتح شهية المتطرفين فى  إسرائيل لقضم حق الشعب الفلسطينى فى العيش بسلام، وتحقيق استقلاله، فالمتطرفون فى إسرائيل أو الصقور يسعون للتهرب من دفع التزامات الدولة الفلسطينية وراء استغلال هذه العمليات والاختباء وراء مكافحة الإرهاب تبريرا لهذه العمليات الناجمة عن سوء الأوضاع الفلسطينية وغياب الأمل الناتج من الطرح السياسى المعقول، لكن ما يفضح الإسرائيليين أو المتطرفين ويكشف مخططاتهم هو الرؤية الفلسطينية المتماسكة، ووضوح الطرح الفلسطينى والعربى نحو السلام، وحتى تنجح هذه المعادلة وتتماسك، على السلطة الفلسطينية أن تسعى إلى تجميع كل القوى الفلسطينية والفصائل خلف الحكومة بعد طرح الرئيس عرفات التغيير بالفعل، ويجب أن تتوحد البندقية الفلسطينية والمنظمات الأمنية فى بوتقة واحدة، وتفعيل الإصلاح السياسى، ومواجهة عناصر الفساد، وفصل السلطات عن بعضها البعض، واختيار حكومة فلسطينية قوية قادرة على التنفيذ والمتابعة على الأرض، ويجب أن ينأى الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات بنفسه عن التنفيذ المباشر للحكومة، باعتبار أن له صلاحيات أخرى، وباعتباره المنسق الرئيس بين الفصائل وقوى الشعب الفلسطينى الحية، وذلك اتجاها جديدا، نحصل فيه على زعيم قائد يلتف حوله الشعب الفلسطينى بكل فصائله الإسلامية، النضالية القديمة، الجديدة، وحكومة تنفيذية فعالة نشطة، كوادرها من الشباب الفلسطينى القوى، الذى يحمل فى طياته أحلام وطنه، وسيكون ذلك تغييرا جوهريا سيثبت للشارع العربى والإسرائيلى والعالمى أن الشعب الفلسطينى يملك إمكانات كبرى للنضال والثورة تتكيف مع كل مرحلة بوعى وثبات مذهل.

هذا التغيير الفلسطينى والرؤية العربية المساندة له والتى تتقدمها المبادرة العربية الأخيرة فى قمة بيروت، وبيان قمة شرم الشيخ، الذى جمع مبارك والأسد والأمير عبدالله، وأثبت أن هناك هجوما عربيا نحو السلام، فند المزاعم الإسرائيلية وكشفها وعراها أمام العالم، وكشف التحايل الإسرائيلى أمام العالم، وأزاح عنها ما حاولت إخفاءه دائما وجعلها دولة معتدية متعجرفة خارجة على القانون الدولى، ترفض بوضوح التعايش مع جيرانها عبر رفضها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينى الشرعية.

ويكفى أن نشير هنا إلى التغييرات التى شملت العالم اعترافا بحق الفلسطينيين، لقد بدأ ت تزحف نحو إسرائيل مباشرة، ففى الوقت الذى خرجت فيه مظاهرات إسرائيلية موالية للسلام للمرة الأولى منذ 19 شهرا، أى منذ اندلاع الانتفاضة، كشف استطلاع صحيفة ˜معاريفŒ أن %57 من الإسرائيليين يفضلون مؤتمرا إقليميا للسلام يقوم على فكرة دولتين لشعبين، وأن قرار الليكود الأخير برفض دولة فلسطينية، ليس له تأثير على الرأى العام، بل إنه ترجم أمامه، أن صاحب فكرته هو نيتانياهو شخص مفلس سياسيا، بل إنه مفلس أخلاقيا، وأن دوره لم يكن فى مصلحة إسرائيل بل يصب فى مصلحته الشخصية، وأن الإسرائيليين لأول مرة يقولون إنهم إذا لم يستدركوا ويحاصروا المنحى الشارونى النيتانياهوى على مستقبلهم، فإن مستقبل إسرائيل فى خطر.

أما الأمريكيون فهم أيضا يتغيرون، بل إن النقد تزايد، وهناك حالة من المراجعة الداخلية وتظهر حالات الندم على دعمهم للتطرف فى إسرائيل، بل إنهم يشيرون إلى التأثير الكاسح للكونجرس الأمريكى لاستخدام إسرائيل للقوة فى الضفة الغربية، يعتبر رد فعل عكسيا لسياسات واشنطن، ومضادا لاتجاه الرأى العام الأمريكى بشأن الأزمة فى الشرق الأوسط.

والغالبية العظمى يرون ظلالا رمادية فى صراع الشرق الأوسط، وتعاطفهم غير صامد، وهم يفضلون دورا محايدا للولايات المتحدة فى  المرحلة القادمة.

إن الأمريكيين أصبحوا أكثر حساسية لأزمة الشرق الأوسط، وقد كشف استفتاء لمحطة ˜إيه بى سىŒ واشنطن بوست عن أن تأثير الاعتراف الأمريكى بدولة فلسطين قفز إلى %68 فى إبريل الماضى، مقابل %55 فى الخريف الماضى.

والناخبون الأمريكيون يرون أن جورج دبليو بوش يجب أن يحاول التقريب بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى من مائدة التفاوض، فى الوقت الذى تكون فيه عناصر جديدة فى معادلة الشرق الأوسط، وأن ما يحدث فى منطقتنا له عواقب وخيمة على الأمريكيين، لذلك فإن الغالبية العظمى من الأمريكيين تطالب القيادة التنفيذية بأن تكون وسيطا محايدا، هذه التطورات تكشف أن الدبلوماسية والعمل السياسى تهزم الكلمات الطنانة، وأن تصويب السياسات العربية والفلسطينية وتصحيح المسارات. وهو ما يعطى للقضية الفلسطينية زخما قويا ويكشف قوة عدالتها ومنطقها ويجعلها تهزم العدوان والبغى، حتى ولو كان قويا عسكريا ومدججا بكل الأسلحة، ويواجه شعبا أعزل وأمة تسعى إلى السلام، ولا تريد تفجير المنطقة وتتسلح بالحكمة لهزيمة التطرف والعدوان والقوة الباغية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى