الدولة الفلسطينية فشل شارون ونجح مؤتمر شرم الشيخ

على الذين يصورون كل عمل سياسى عربى على أنه إما صفقة أو مناورة أو مؤامرة أن يتوقفوا، خاصة فى القضية الفلسطينية، لأن حساسية الموقف الراهن والمتغيرات الإقليمية والعالمية تجعلنا ننتبه لنصحح رؤيتنا ونذهب إلى تحقيق الأهداف مباشرة، ولا نتأخر، لأن الوقت لم يعد فى صالحنا، والتأخير عن السير فى مسار السلام العادل، سوف يضيع من أيدينا دولة فلسطينية أصبحت على مرمى البصر.
الاعتراف العالمى بالدولة الفلسطينية أصبح حقيقة قبل قيام الدولة، وتلك ميزة مهمة سوف تؤرخ لمكانة الدولة قبل إعلانها، على أنها دولة ولدت فى رحم النظام العالمى، وأصبحت جزءا من وجدانه بل طريق استقراره ونمو منطقة الشرق الأوسط واستقرار نظامها الإقليمى، يحدث هذا قبل قيامها، فيدل على قوة الدولة المرتقبة ومكانتها.
وكانت الدولة الفلسطينية قد تعرضت فى اللحظات الأخيرة قبل قيامها إلى هجمة شرسة، استهدفت قتل الدولة فى مهدها، فالحرب الإسرائيلية التى شنت على مدن الضفة الغربية منذ 29 مارس 2002 وإلى الآن قوضت وسائل الاتصال والنقل والمواصلات الخاصة من الطائرات إلى مطار غزة الدولى ومنشآت الإذاعة والتليفزيون وتدمير هياكل الشرطة، واغتيال كوادرها وتدمير شبكات الصرف الصحى ومراكز توزيع المياه والطاقة وعدد كبير من المبانى والعقارات فى جميع المدن الرئيسية، وأخيراً التفت عملية الهجوم على المنشآت الإدارية لتدمير المطبوعات وجميع الأرشيفات والتقارير والوثائق والإحصائيات والحاسبات الآلية وأجهزة المكاتب فى كارثة اقتصادية مروعة ولا إنسانية أو حضارية بمعنى الكلمة، والهدف من ذلك كان إرغام الفلسطينيين على الرحيل وجعل سير العمل فى الدولة الفلسطينية غير صالح للحياة والاستمرار، أو بمعنى أصح مستحيلا، وما كان يمثل نواة للدولة الفلسطينية أصبح اليوم أطلالاً، وبالرغم من ذلك قامت الدولة من تحت الرماد، لقد واجه الإسرائيليون شعباً صامداً فى الضفة الغربية، حتى إن صموده فى قطاع غزة، أجبر شارون على أن يوقف هجمته ضد القطاع ويعيد تقييم حساباته.
وسط هذا المناخ الصعب والضباب، كان التحرك السياسى العربى، هو الآخر قوياً ومتوازناً، وانعقدت قمة عربية غير متوقعة فى شرم الشيخ، أعادت الروح للتنسيق والتشاور العربى، بعد أن ظن الجميع أن العرب قد توقفوا عن التأثير فى مجريات التطورات السياسية والإقليمية.
لأن قمة الدول الفاعلة مصر والسعودية وسوريا أعادت الحياة إلى القلب العربى، وجددت الدماء فى شرايينه، لأن تفعيل المبادرة العربية التى طرحها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز فى قمة بيروت، كان لا يمكن أن يكون عالمياً وليس عربياً، إلا إذا كانت مباحثات القادة العرب الذين زاروا أمريكا، قد نجحت إلى حد كبير فى تغيير مسارات البيت الأبيض، وحققت بعض المكاسب الجزئية، ومنها إنهاء الحصار على الرئيس الفلسطينى وكنيسة المهد، ومدن الضفة الغربية، وبالرغم من استمرار الاعتداءات و الاغتيالات والعدوان على بعض المدن الفلسطينية، فإن المؤشرات تؤكد على انحسار العدوان وانكشافه أمام الرأى العام، وأن شارون أصبح يواجه متاعب داخلية عميقة، من قبل حزبه الليكود الذى وقف ضده فى تصويت حول عملية السلام برفضه قيام الدولة الفلسطينية، والتصويت لصالح أفكار نيتانياهو منافسه ورئيس الوزراء الأسبق، لكن هذه العملية التصويتية، لا يمكن النظر إليها على أنها ضد الفلسطينيين بقدر ما هى ضد شارون ومع غريمه، ولا ننسى أن نيتانياهو رئيس الوزراء السابق تفاوض مع الفلسطينيين، وقع اتفاقيتى واى ريفر والخليل بل إن عملية الانسحابات الإسرائيلية من أراضى السلطة الفلسطينية كانت أكثر مداومة واستمرارية من مرحلة شارون التى شاهدت العدوان الإسرائيلى الجارف على السلطة والشعب الفلسطينى لم يحدث منذ 20 عاماً، فالتصويت رغم أنه شكلى، ضد الدولة الفلسطينية، لكن جوهره ضد شارون واتجاهاته العدوانية على الشعب الفلسطينى لأنه لم يحقق الأمن للإسرائىليين، كما أوهمهم، الذى كان لا يمكن أن يغادر إلى الحياة السياسية وانتخابه رئيساً للوزراء، إلا بكذبة كبرى وخديعة انطلت على الإسرائيليين تقول إن كيانهم نفسه مهدد فانتخبوه خوفاً من المصير المجهول، فكان هو طريقهم إلى المجهول وانعدمت فى عهده القصير فرص الأمن والسلام، بل المستقبل للإسرائيليين، ولعلنا نقف متأملين مظاهرة المائة ألف التى اخترقت تل أبيب وأعلنت بوضوح رفض الشارع الإسرائيلى لسياسات شارون، ورغبته فى الاستجابة لمبادرات السلام المعلنة وكشفت أخطاء حكومة الليكود وخطايا وانحرافات رئاسة شارون للحكومة الإسرائيلية.
لم يكن عدد كبير من المراقبين للمتغيرات فى إسرائيل يتصورون أن تتداعى حكومة شارون سريعاً هكذا، خاصة أن العمليات الفدائية أو الاستشهادية لايزال تأثيرها واضحاً فى الرأى العام الإسرائيلى، ولعل عملية جنوب تل أبيب الأخيرة التى راح ضحيتها 16 إسرائيلياً و 40 جريحا رأى بعضهم أنها تنطوى على مخاطر إعادة تهييج الرأى العام الإسرائيلى، وتخويفه من عملية السلام برمتها، ولكن رد الفعل جاء بعد العملية وكأنها لم تكن، فقد أعاد الشعب الإسرائيلى اكتشاف خديعة شارون وسوف يكتشفها مع الأيام القادمة.
ومع استمرار هجوم السلام العربى والفلسطينى على نفس قوته لإعادة طمأنة الرأى العام الإسرائيلى إلى أن التوجهات العربية للسلام حقيقية وليست خادعة وأنها نتيجة قراءة دقيقة وصائبة للمتغيرات الإقليمية والعالمية، وليست رد فعل أو خوفاً من العدوان الإسرائيلى.
ولكنها سياسة للسلام تجىء من قراءة صحيحة واعية لمجمل الصراع وعبثية أهدافه، خاصة من قبل اليمين الإسرائيلى لأن هناك إمكانيات كبيرة فى منطقة الشرق الأوسط تجعل التعايش ممكناً، بين دولتين قادرتين على صنع السلام بينهما ومن ثم فى المنطقة ككل.
والمرحلة القادمة تحتاج إلى تهيئة الرأى العام العربى، والفلسطينى تحديداً، للمتغيرات والسياسات التى يجب أن نقوم بها، ولعل أهمها أن الرئيس الفلسطينى عرفات فى حاجة إلى أن يحصن قيادته ويتجه إلى التفاوض بحكومة وحدة وطنية حقيقية تضم كل الفصائل الفلسطينية بعد الاتفاق على الهدف النهائى للمرحلة القادمة، وأن يذهب إلى طاولة التفاوض فى هذه المرحلة محصناً بوحدة فلسطينية وتماسك داخلى يتكلم لغة واحدة، داخل الحكومة والدولة القادمة، وأن يكون تفاوضه عبر وفد عربى موحد، يقول إن السلام للفلسطينيين هو سلام شامل للمنطقة والانسحاب يبدأ من كل الأراضى المحتلة منذ عدوان 67، الضفة الغربية وغزة والجولان ومزارع شبعا اللبنانية وهو الطريق الوحيد للاستقرار لأن إسرائيل لن تسلم الأرض للفلسطينيين وحدهم فقط لكنها سوف تسلم الأرض للعرب جميعاً، لأنهم هم الذين سوف يدفعون ثمن السلام غالياً بقبول إسرائىل للعيش فى المنطقة.
أعتقد أن الفلسطينيين ورئيسهم أدركوا وفهموا درس المحنة كاملاً ـ كما أن العرب أيضاً اجتازوا مراحل المراهقة وتسجيل المواقف ـ وأصبحوا لا يريدون إلا تسجيل الأهداف.
والفرصة قادمة، ولكن على كل المزايدين والمستفيدين وسماسرة القضية أن يمتنعوا، فالحقيقة أصبحت واضحة والرأى العام العربى أصبح شريكاً كاملاً فى كل التطورات ولم تعد تنطلى عملية الشعارات أو الأوهام، ولكن الحقائق وحدها يجب أن تتكلم، وسنقول مرحباً بالدولة الفلسطينية بعد طول انتظار.