المحاصر والسجين

الفلسطينيون والعرب لا يتساءلون إلى أين سيذهب عرفات؟
فحتى إذا أفرج عنه شارون الآن، وأطلق سراحه من الاعتقال البيتى فى رام الله،وسمح له بالتجوال فى المناطق الفلسطينية فلا يعنى هذا شيئا، فالمدن الفلسطينية، مهدمة، فهذا خروج من سجن صغير إلى سجن كبير، هذا ما يقوله الإسرائيليون، لأنهم لا يفهمون إلا معنى القوة ولا يشغلهم إلا تدمير مكتب عرفات.
لكن العرب يرون أنه برغم الحصار فإن الرجل يعمل بجد، على لملم الشمل، وتجاوز المحنة، فلا وقت لديه حتى للتأمل والبحث عن الأسباب، ولكنه يفكر فى الخروج من الأزمة فبشأن القضية الفلسطينية فى اللحظة الراهنة ـ رغم عمق المأساة وفداحة الخسائر ومشاعر الحزن على الضحايا والأرواح البريئة التى أزهقت فى مخيم جنين.. وفى مدينة نابلس التاريخية ورام الله والقرى الفلسطينية، التى لم يرحمها جبروت القوى الإسرائيلية ـ فإن هناك شعوراً بقوة الانتصار، فالفلسطينيون حصلوا على اعتراف دولى بدولتهم، واحترام عالمى بقوتهم وقدرتهم على التأثير فى المسرح العالمى.
وزعيمهم المحاصر، هو العنوان الوحيد للفلسطينيين وكلهم يعترفون بقوته، وفشل شارون، بل فشلت الولايات المتحدة فى سحب شرعيته أو حتى التقليل من مكانته، فالمحاصر يحاصر شارون، والمتطرفين، ويكشفهم، ويظل هو الورقة الرابحة لمستقبل المنطقة.
وكل ما يقال عن خراب المدن الفلسطينية لا يقلل من شأن عرفات، فهو لم يخض حرباً ضد الإسرائيليين لأنه لا يملك جيشاً أو طائرات وكل ما يملكه قوى أمن محدودة وسلطة تسعى إلى السلام والاستقرار ومجموعة من السياسيين تتفاوض من أجل تحرير الأرض وتقرير المصير لشعب، ظل محروماً من حقوقه، مشرداً فى المخيمات 50 عاما وما لحق بالأرض المحتلة من خسائر يحط من كرامة شارون، ويكشف جريمته والذين يقولون إلى أين يذهب عرفات استناداً إلى جرائم تدمير مكتبه فى غزة بصواريخ الأباتشى، وقصف مكتبه فى جنين وانهار المكتب بقصف من طائرات إف 16 وإزالة مكتبه فى رفح وخان يونس عن وجه الأرض.
وهم يتساءلون إذا أراد عرفات التوجه إلى غزة فكيف سيصل إلى هناك؟
فقد قصفت المروحيات، الطرق حتى إذا وافق شارون على أن ينتقل عرفات من رام الله إلى اللطرون، ومن هناك إلى شدردت وربما يهم لشرب فنجان قهوة فى مزرعة هشكيم مزرعة شارون ومن هناك إلى غزة فلن يوافق عرفات. فقد أقفل الرئيس الفلسطينى ملف شارون، وتركه للإسرائيليين لكى يتعاملوا معه فلن يكون هناك سلام ولنا يمر التفاوض أبدا من على يد السفاح شارون وعرفات يعرف ذلك، بل كل العرب يعرفون ذلك وأن معركة شارون بل مذبحته مع الفلسطينيين جعلت عمره محدداً، ولن تصنع له مجدا، بل فتحت سجله القديم وسوف تكون هى قائمة الاتهام التى تقدمه إلى المحاكمة باعتباره مجرم حرب حقق الرقم القياسى فى الجرائم والمجازر.
ونحن على يقين من أن شارون يريد أن يكمل هوايته فى الهدم وسيقصف مبنى المقاطعة فى رام الله حيث مكتب عرفات. حتى لا يكون لعرفات مكان يعود إليه، فور خروجه.
ولكن ما لا يفهمه شارون، أن عرفات ليس فى حاجة إلى مقرات فمقره فى قلوب الفلسطينيين ومكانته فى قلوب العرب تكفيه بل إن العرب بعد حصار عرفات يغفرون له كل خطاياه ويرون فيه القديس القادم ليأخذ بيد شعبه إلى الاستقلال والدولة لقد صعدت شعبية عرفات فى القلوب الفلسطينية، أما التدمير فسينعكس على إسرائيل وعلى سياسات شارون الإجرامية.
أما مروان البرغوثى فقد أصبح هو الآخر بطلا فلسطينيا صامدا هزم الإسرائيليين، رغم اعتقاله، لأنه رهين السلام وهو ما سيعنى أن أى اعتداء عليه من جانب إسرائيل معناه أنها تنهى عملية السلام، وتفتح باب جهنم عليها فلسطينيا وعربيا، وبرغم إيماننا الكامل أن شارون لا يؤمن جانبه، وأنه يمكن أن يتحذ كل ما من سبيله بقطع الطريق إلى عودة آمنه إلى طريق التفاوض والسلام ولكن لتتذكر إسرائيل ويتذكر شارون، أن البرغوثى قائد سياسى وافق على أوسلو وعلى التعايش العربى ـ الإسرائيلى ومثلما خابت كل توقعات شارون ستخيب مع البرغوثى فشارون بالقبض على البرغوثى كان يتصور أنه فى جعبة أمين سر حركة فتح معلومات كثيرة قد تورط السلطة الفلسطينية، ورئيسها عرفات فى العمليات الاستشهادية.
لكنهم مهما فعلوا مع البرغوثى فستظل لحظة القبض عليه محفورة فى الذاكرة العربية والفلسطينية، فهى لحظة أسطورية دشنته بطلا شعبيا سيحكى عنه الفلسطينيون لأبنائهم، كيف يتماسك القادة العظام ويضحون من أجل بلادهم، وأوطانهم بالغالى والرخيص فالرجل يتقدم نحو الجيش المدجج وحيداً بلا سلاح وبلا تردد، والإسرائيليون يحشدون الطائرات والدبابات لتنقل الميدبا العالمية لحظة القبض على البرغوثى على الهواء مباشرة للجنود وهيئة أركان الجيش وكل هذا من أجل رجل سياسى يقود انتفاضة ضد الاحتلال، القبض على البرغوثى يكشف أن الانتفاضة الفلسطينية كانت وستظل انتفاضة سياسية وليست مسلحة، لكن كل ما حدث فيها من مقاومة باسلة وتضحيات جسام من شباب وشابات فلسطينيات فضلوا الاستشهاد من أجل قضيتهم كرسالة سامية وليست عدوانا أو سعينا إلى قتل أبرياء أو انتحار كما يطلقون على العمليات الاستشهادية، إنها رسالة بالدم تقول للجيش المعتدى إن قوتك وجبروتك لن تمنعنا من الموت من أجل الحق والكرامة وبالرغم من نبل الرسالة فإنها لم تصل، فالقلوب مغلقة والنفوس موصدة مرتعبة.
ولذلك حق علينا الجهاد برفع الرأس عاليا، ووضع الحق والعدل أمام الجميع، وسوف ينتصر الحق فى النهاية مهما كانت قوة البغى والظلم.