عابرون فى كلام عابر

زيارة كولن باول وزير الخارجية الأمريكى للمنطقة قُصد بها، الحد من الأضرار، التى يتصور الأمريكيون أن عرفات وشارون معا ألحقاها ببلديهما وشعبيهما، وفى الزيارة أيضا محاولة للحد من الضرر الذى أصاب العلاقات العربية الأمريكية، وهى فى الوقت نفسه محاولة لإعادة ما افتقدته إدارة بوش من مصداقية فى سياستها الخارجية.
وكانت فرص باول فى النجاح ضعيفة على كل المستويات، بالرغم من محاولاته الجادة للخروج على النص الإسرائيلى، ومقابلة عرفات المحاصر، ولو بتناول حبوب التقوية أو الشجاعة التى أخذها من رحلة مدريد، ولقائه رئيس الاتحاد الأوروبى، وأمين عام الأمم المتحدة للحصول على تفويض عالمى، بالإضافة إلى دعم عربى قد يمكنه من تغذية الضعف الأمريكى عند التفاوض مع آرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلى.
وبالرغم من كل ذلك فشل الوزير الأمريكى بكل المقاييس، ولم تنجح مناوراته أو خروجه على النص الأمريكى هذه المرة، وذهب إلى لبنان وسوريا، وأعطى انطباعا كاذبا بأن هناك تصورا أمريكيا لحل كامل وشامل للأزمة العربية الإسرائيلية، وليس بطريقة المسكنات أو الحلول الأمنية، تمنطق وزير الخارجية بوشاح الجنرالات، وهو جنرال قديم، لكن زيه هذه المرة كان فضفاضا ولا يناسبه، فيبدو أن العمل فى إدارة بوش قد قزَّم الجنرال الوزير، وجعله ساعى بريد أو إطفائى أزمات، لذلك تركه شارون يقابل عرفات ويتحدث معه لثلاث ساعات، وهو يعرف جيدا حجم الوزير، وقدر التفويض الذى حصل عليه أمريكيا وإسرائيليا، لكنه كان وزيرا عابرا فى كلام عابر، مع الاعتذار للشاعر الكبير محمود درويش، ولم يفشل باول فقط فى رحلته الشرق أوسطية، بل كان فشله ذريعا هذه المرة وعميقا، ولم يتحمل ولن يتحمل الوزير وحده مسئولية الفشل، فهو فشل أمريكى حقيقى فى منطقة الشرق الأوسط، فقبل أن يصل الوزير، كانت التصريحات الأمريكية من الرئيس بوش ومستشاريه، تطالب شارون بالانسحاب من الأراضى الفلسطينية المحتلة فورا، وتصور الجميع أن إنذار ساكن البيت الأبيض، وصاحب قراراته من القوة بحيث ينفذه رئيس الوزراء الإسرائيلى، فإذا بنا نرى أن الموقف عكس ذلك تماما، فرئيس الوزراء الإسرائيلى ترك الرئيس الأمريكى يصرح ويهدد ويتوعد، وهو لا يرد عليه بالكلمات، لكنه يمارس عمله على الأرض، وينتقل من مدينة فلسطينية إلى أخرى، بل من بيت إلى بيت، ومن مذبحة إلى مجزرة، معلنا بوضوح أن القرار الأمريكى لا يخصه ولا يحكم تصرفاته، وأن الجريمة ستكتمل أركانها.
فكلمات الرئيس الأمريكى أيضا عابرة فى كلام عابر، ولا داعى للاعتذار هذه المرة.
وارتكب شارون جريمة كاملة الأركان فى كل الأراضى الفلسطينية، بل ذبح الأطفال والنساء، وهدم جنين، ودمر نابلس، وحاصر رام الله، وبيت لحم وكنيسة المهد، لم يفرق بين القديم والجديد، بين جامع أو كنيسة، بين بناء حديث أو أثرى، وقتل الجميع دون تفرقة بين مسيحى أو مسلم، بين رجل دين إسلامى أو كاهن مسيحى.
مثلما لم يفرق بين امرأة أو رجل، وبين مقاتل يحمل أسلحة خفيفة وطفل يحمل حجرا، بل لم يسلم من دماره شخص معاق ذهنيا، خرج من الكنيسة بحثا عن طعام أو شراب، أو قائد فلسطينى يمثل شعبه، وأقر بما جاء فى اتفاقات أوسلو عن السلام، وعبر عن طموحات شعبه فى انتفاضة كل جريمتها أنها عبرت عن رغبات شعب، تطلع إلى الاستقلال وتقرير المصير، والأغرب أن حرب شارون هذه المرة كانت انتقاما علنيا، وعلى الهواء مباشرة نقلت إلى القاصى والدانى.
وشاهد كل طفل وامرأة وشيخ فى العالم الجريمة كاملة الأركان، ولأول مرة فى حياتنا نشاهد العسكريين والجيوش المسلحة وهى تهدم البيوت والمساكن على ساكنيها وتحتل الشوارع، والأكثر غرابة أن الدبابات كانت تطارد سيارات الإسعاف، وتمنع العلاج، وتحاصر المستشفيات، جريمة كاملة نقلت على الهواء مباشرة، ولا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولن ينساها طفل أو رجل أو امرأة، فقد سكنت ليس فى النفوس فقط، بل فى القلوب والعقول أيضا، وأصبح الجميع يفهمون معنى الحياة مع العدو، ويدركون أن النوم أصبح ممنوعا بعد مذبحة جنين ونابلس، وأن دم الطفل الشهيد لن يضيع كما شهدنا عبر الشاشات وفى المطارات، وحول موائد المباحثات، سقوط قوة كبرى، رأينا ضعفها وتهافتها أمام قوة وجبروت شارون، صحيح أن شارون استأسد على الأطفال والنساء، وقتل المدنيين، وحاصر عرفات، لكنه فى الوقت نفسه كشف القوة الأمريكية الكبرى ووضعها فى حجمها الطبيعى، وقال لنا بوضوح ليست هناك كلمة للقوة الكبرى، علينا وعليكم، إذا أردتم أى العرب أن تتكلموا عن السلام والمفاوضات، فلا تضيعوا وقتكم ووقتنا بالحديث مع أمريكا، بل معنا مباشرة، حتى إن الوزير الأمريكى خرج من المباحثات وكأنه لم يدرك شيئا، ليتكلم بصوت شارون، طالبا عقد مؤتمر دولى جديد بلا شرعية، ولا يحضره عرفات، فحضوره كما سمع من الإسرائيليين ليس مهما.
الوزير الذى بدأ جولته خائفا من الذهاب مباشرة إلى القدس، واستغرق 4 أيام للوصول إليها، مدعوما عربيا وأوروبيا أنهاها بتصريحات شارون، ورئيسه بوش، الذى حذر صارخا كفى.. يعنى كفى وخرج بعد أربعة أيام ليقول كنت أعنى ما قلته، الأزمة كشفت أمريكا سياسيا مع حكومة شارون.
صعوبات أمريكا مع شارون تتجاوز توقيت أى انسحاب تنتظره من الأراضى المحتلة.
إن رحلة باول تضيف حلقة أخرى من سلسلة يبدو أنها لا نهاية لها، فأمريكا التى رعت اتفاقيات أوسلو عندما أخفقت توصلت إلى تقرير ميتشيل،. ولما تعثرت خطاها، كانت خطة تينيت لوقف إطلاق النار، وعندما تم رفضها ذهب الجنرال زينى إلى المنطقة، والآن يحاول باول بالتعجيل بإعادة العملية لإقناع الأطراف بالعودة إلى زينى، لذلك يمكنهم تنفيذ تينيت للعودة إلى ميتشيل لإعادة شىء بديل مثل أوسلو.
أى فشل وأى ضعف أمريكى وأى حلقة مفرغة ووضعت فيها منطقة الشرق الأوسط؟
ولعلى أتفق مع كل الأمريكيين والعرب الذين يرون أن فشل باول كارثة حقيقية، وستقع نتائجها على الجميع، وإذا كان أصحاب محور الشر فى أمريكا، يقولون إن الترهل وراء بيت لحم تأتى من شعر قائم على سفر رؤيا يوحنا أحد أسفار العهد الجديد الإنجيل قام بنظمه دبليو بى ييتس المجىء الثانى، وفيه يرهب الوقت الذى يكون فيه الأفضل يفتقر إلى كل الإقناع، فى حين أن الأسوأ مملوء بقوة عاطفية.
وإذا كان السياسيون قد توقفت عقولهم عن رؤية المخرج، فإننى أراه فى كلمات الشعراء وهى فادحة، يقول نزار قبانى
تسأل صحف العالم
كيف صبى مثل الوردة
يمحو العالم بالممحاة
تسأل صحف من أمريكا
كيف صبى غزاوى
حيفاوى
عكاوى
نابلسى
بقلب شاحنة التاريخ
ويكسر بللور التوراة؟
وأكرر مع محمود درويش أيها المارون بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر والمستقبل.