مقالات الأهرام العربى

ما بعد القمة

الزوابع التى صاحبت عقد قمة بيروت، لها أسباب كثيرة، يأتى فى مقدمتها الوقت العصيب الذى عقدت فيه، فالزمان جاء عقب حصار إسرائيلى شارونى ضد الشعب الفلسطينى، شمل بلا خجل الرئيس عرفات فى رام الله.

حصار الفلسطينيين وعرفات لم يكن إسرائيليا فقط، بل كان أمريكيا كذلك، فلم يكتف الرئيس بوش بعدم لقاء عرفات والاستماع المباشر للفلسطينيين، بل رفض مصافحته ­ ولو عابرا ­ فى ردهات الأمم المتحدة، ثم كانت جولة نائبه تشينى، والذى رفض هو الآخر مقابلة عرفات، وكأنما أراد نائب الرئيس أن يشارك الإسرائيليين فى محاصرة الرئيس الفلسطينى والفلسطينيين، هذا السلوك الإسرائيلى والأمريكى. جاء بفجاجة ليكشف عن تناقض تصريحات الأمريكيين حول السلام وسعيهم أن يكونوا وسطاء أمناء أو حتى محايدين، فيما رهنت إدارة جورج بوش الجمهورية القرار الأمريكى كله فى يد رئيس الوزراء شارون، هذه المصاعب الأمريكية، الإسرائيلية حاصرت الموقف العربى السياسى، الذى لم يتردد رغم رفضه القاطع للسياسات الأمريكية، ورغم اقتناع قادة العرب جميعا بأن رجل الأمن الإسرائيلى شارون لا يمكن أن يكون رجلا للسياسة، وأنه ليس مؤهلا للتفاوض أو الاعتراف بالحقوق، لكن هذا لم يمنع العرب وقادتهم، والذىن امتثلوا للحكمة والوعى والإدراك السياسى الكبير، من أن يضمنوا قمتهم مبادرة. على درجة عالية من الفهم والوعى بالمتغيرات العالمية والإقليمية، وجاءت من أكثر القادة العرب تحفظا وبعدا عن العلاقات مع إسرائيل وليس تجمعه بإسرائيل حدود جغرافية، وفضلا عن كونه ممثلا لأكبر بلد بترولى واقتصادى هى السعودية، حاضنة الحرمين الشريفين، لتؤكد بكل وضوح وبلا مواربة استعداد العرب جميعا للاعتراف السياسى والعلاقات الطبيعية مع إسرائيل مقابل الانسحاب الكامل من الأراضى التى احتلت عقب حرب 1967 ˜فلسطينيا وسوريا ولبنانياŒ، وعودة فلسطينيى المخيمات، والاعتراف بحق العرب والفلسطينيين فى القدس الشرقية، باعتبارها عاصمة للدولة الجديدة، وجزءا من الأراضى المحتلة، وضمان احترام المقدسات الإسلامية ˜المسجد الأقصى وقبة الصخرةŒ، وعودتهما للإدارة الفلسطينية. إن مبادرة الأمير عبدالله حملت كل العمق السياسى، وأظهرت نيات العرب السلمية تجاه إسرائيل، واعترفت بحقها لأول مرة بعد 50 عاما من وجودها ­ رغم أنف العرب على أراضى الفلسطينيين ­ باعتبارها جزءا من إقليم الشرق الأوسط والمنطقة التى نعيش فيها ­ وهذا اعتراف لم تكن تحلم به أى قوة عالمية، أو حتى إسرائيل نفسها، لأن هذه المبادرة تحمل اعترافا شاملا من كل الدول العربية التى ليست لها حدود أو مشكلات أراض مع إسرائيل، وجاءت القمة، لتقول بكل وضوح وبلا مواربة أيضا إن تطوير القرار العربى، باختيار السلام كخيار إستراتيجى فى قمة القاهرة 96، جاء فى قمة بيروت، ليقول تعايشا إقليميا واستقرارا، يقبل به الجميع، ويقبل إسرائيل داخل حدودها بلا توسع، وبلا رغبات عدوانية، ويعترف بإسرائيل، رغم أنها كيان اغتصب الأرض بالقوة منذ عام 48، وشردت أصحابها الفلسطينيين، وفرضت عليهم حياة المخيمات، وبأن هناك دولتين وشعبين على هذه الأرض، ومن حق الفلسطينيين أن يحصلوا على دولتهم وحقوقهم وتعويضات من المجتمع الدولى، الذى شاهد الظلم، الذى وقع على الفلسطينيين عندما دعم الإسرائيليين على حسابهم، ومنحهم أراضيهم وحقوقهم، تعويضا فى مقابل ما تعرضوا له فى الحرب العالمية الثانية. بالرغم من أن الفلسطينيين لا يتحملون مسئولية ذلك.

قمة العرب فى بيروت، حملت متغيرات إقليمية مهمة لم تخاطب شارون أو حتى حكومة الولايات المتحدة، لكنها خاطبت الشعب الإسرائيلى والشعب الأمريكى، بل العالم كله، قائلة لهم ماذا تريدون منا، اعترفنا بحق إسرائيل. فى الحياة فى منطقتنا مقابل أن تعترفوا بأبسط حقوق الفلسطينيين فى العيش على %22 من أراضيهم التاريخية.

إن هذه هى فرصة للسلام، وإذا لم تنتهزوها، وتمارسواكل حقوقكم فى الضغط على المهاجرين اليهود من أمريكا وأوروبا وروسيا والدول الإسكندنافية، الذين استوطنوا أراضى فلسطين، وأقاموا دولة إسرائيل، فلا تلومن إلا أنفسكم، فمن حق الفلسطينيين أن يقاوموا الإسرائيليين الذين يحتلون أراضيهم، وأن يصبوا جام غضبهم وكراهيتهم على كل من يساعدهم على هذا العدوان.

قمة بيروت الدورية الثانية قدمت رسالة للسلام، على كل العالم أن ينتهزها، وأن يمارس الضغط الحقيقى، لتصل هذه الرسالة إلى كل الأطراف، وإلى المعتدين فى إسرائيل وفى أمريكا.

نجح العرب بامتياز فى قمتهم، كمانجح الفلسطينيون ورئيسهم عرفات بامتياز، وأثبتوا أنهم قوة حقيقية ­ شعبا وقائدا ­ يستحقون التحرير وتقرير المصير، وأطلقوا انتفاضتهم وثورتهم على المحتل الغاشم، من أجل أن يقولوا للعالم إن لنا حقوقا ودولة، لن نتنازل عنهما، وحموا بصدورهم وأيديهم العارية، كرامة العرب ودافعوا عن المقدسات.

كما اجتاز العرب المأزق الأمريكى، الذى كان يسعى ليجعل من أزمة التسعينيات مابين العراق والكويت مسمارا يتجدد باستمرار لينسينا قضايانا المهمة حول مستقبلنا ومصيرنا، ونستطيع أن نقول إننا بعد قمة بيروت قد اجتزنا نصف الطريق، لمواجهة إسرائيل، وشرح حقوقنا أمام المجتمع الدولى، وأننا وضعنا أقدامنا على طريق إزالة آثار احتلال العراق للكويت، وإعادة ضم وتأهيل العراق للمجتمع العربى، وأننا سنشهد تغييرا جوهريا فى المستقبل العربى، نحو المتابعة قضايانا الكبرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لبناء منطقة جديدة تكون فيها الحياة أفضل لكل عربى، بدلا من رهن مصيرنا للأزمات السياسية، التى جرّت على منطقتا كوارث وأزمات قلما تشهدها منطقة أخرى. بددت الجهد والموارد، وأعاقت تقدمها، وصنعت عقبات أمام تحرر شعوبها، وخلقت بيئة خصبة للإرهاب والتطرف.

هذه التطورات الجديدة خاصة على صعيدى القضيتين الفلسطينية والعراقية، ستفتح الطريق إلى انضمام المنطقة العربية إلى التطور العالمى، تأثيرا وتأثرا وتفاعلا.

قمة بيروت ببساطة نجحت فى محاصرة القضايا الثلاث المتفجرة أولاها القضية الفلسطينية، وثانيتها العراقية، وثالثتها أعطت للعالم بدقة الدور الذى يلعبه نظام العرب السياسى فى مواجهة الإرهاب والتطرف، لكن ما بعد قمة بيروت وضعنا جميعا أمام السؤال الصعب كيف نطور ونبنى ونعيد تأهيل المنطقة العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فى المرحلة القادمة؟ أى أننا انتهينا من الجهاد الأصغر، لنبدأ الجهاد الأكبر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى