مقالات الأهرام العربى

الحقيقة العارية بين بيلين وفريدمان

الأزمة فى منطقة الشرق الأوسط تتفاعل، وكل الأطراف عقولها مرتبكة، وأطرافها مشدودة، لأن الضحايا الذين يتساقطون، والنيران المشتعلة، تتم فى بؤرة العالم، وبين صفائح البنزين، بما يعنى أن الاشتعال قد يخرج عن حدود التجاوز، أو خارج نطاق الدوائر الحمراء التى تتصورها عقول متخذى القرار فى عالم اليوم، والفرق بين الأزمة الدائرة فى الشرق الأوسط حول القدس، وأى أزمة عالمية أخرى أن الصراع بها معقد ومتشابك بين الحقوق والمصالح، ويدخل فى نطاقه التاريخ والعقائد، فهو صراع حول الإله والأنبياء، وليس حول الأرض فقط رغم خطورتها وأهميتها للمتصارعين، فهى مسرى الأنبياء وأرض الميعاد، والموعودة للجميع، وهى الأرض التى ولد عليها أبو الأنبياء ˜إبراهيمŒ، وانطلقت منها كل الديانات السماوية المسيطرة فى كل الدنيا، بل استقرت العقائد على أن منبت السلالات النبوية واحد، وأنهم أسرة واحدة، وتفرعت من هذه المنطقة ومنها إلى العالم فى أوروبا وأمريكا وآسيا.

فهو صراع الأقارب وفروع أسرة الأنبياء المتصارعة، وهو أشد ضراوة من الصراعات الأخرى، وبما يشعل الصراع أن رحاه تدور فى بؤرة المصالح العالمية، وقريبا من آبار البترول مخزون الطاقة للحضارة المعاصرة، ويتصور المتصارعون أنهم من الممكن أن ينتصروا فى معركة واحدة أو معارك متعددة، فحتى لو انتصرت إسرائيل وملكت كل القوى العسكرية، فإنها لن تستطيع أن تهزم العرب أو تفرقهم من هذه المنطقة، فهى دولة صغيرة مهما كبرت قوتها العسكرية ومهما تعاظمت، لن تجعل منها قوة فى المنطقة، حتى قدرتها الاقتصادية لن تجعلها قادرة على السيطرة على منطقة ترفض وجودها، وانتصار العرب بإزاحة إسرائيل من المنطقة فى ظل الأوضاع الإقليمية والعالمية الراهنة مستحيل، بل إن العرب الآن لا يطرحون هذا الحل، إذن فهذه الأزمة المشتعلة بلا طائل أو نتيجة، إذا كانت العقول تملك من القدرة التحليلية النافذة ما يجعلها تستطيع نقل الأمور إلى سياسيين قادرين على اتخاذ القرار، وتلك المعضلة نقص فى التحليل وعدم قدرة على النفاذ إلى الحقائق بلا تعصب أو عصبية وساحة مليئة بالسياسيين والزعماء والقادة، لكنهم لا يملكون اتخاذ القرار.

وإذا امتلكوه فهم خائفون ترتعد فرائصهم ممن يرفضون قرارهم، أو يلوحون لهم بعصا الرفض، وأقصد هنا السياسيين على الجانبين ˜العرب والإسرائيليينŒ، فعلى الجانب العربى هناك زعمات متعددة داخل الأرض المحتلة وخارجها، له رأى، وكل يحاول جذب متخذ القرار إلى  صفه، وتغييب المصلحة القومية حول الزعامة والخوف من المجهول، أو محاولة نفاق الجماهير، وفى إسرائيل السياسيون قامتهم أصبحت هزيلة وضعيفة وخائفة، وفى هذه الحالة يتمسكون بعنصر القوة كأنها تعصمهم وتحميهم من الانهيار ، ولعل ما قاله يوسى بيلين ـ الوزير الإسرائيلى السابق ـ أقرب إلى الحقيقة، عندما وصف عملية السلام بأنها أقرب إلى كرة الثلج الرقيقة التى شيّد عليها هيكل عملية السلام، ويشير إلى الوضع الإسرائيلى الحالى، مشبها إياه ˜بالهرقليةŒ لإحلال السلام بالعودة إلى حلبة الصراع، فهل تستقيم الصورة أو الموقف، حتى لو حققت إسرائيل نصرا عظيما؟ إن انتفاضة الأقصى ـ كما يصفها بحق بيلين وهو عقل إسرائيلى راجح ـ أوقفت عملية السلام، ودفعت الشرق الأوسط إلى الانقلاب تجاه العنف والكراهية والجو المضطرب والصراعات التى لا جدوى منها، والبطالة والأسى والتحريض وانسلاخ إسرائيل المتجدد عن الدول العربية، والشعور بالعودة إلى المربع رقم واحد.

ويصل فى تحليله لإسرائيل إلى أنه بدون أمل السلام من المستحيل الإبقاء على دولة يهودية قابلة للنمو لمدة طويلة، فلا يوجد كثيرون ممن يريدون العيش بحد السيف والمخاطرة بأنفسهم وبأسرهم بدون أي أمل فى حياة طبيعية.

ويقول إن الفلسطينيين يعيشون معنا جنبا إلى جنب، ولا يوجد مبرر حقيقى يفسر سبب عدم العيش معهم فى سلام، فنحن نعرفهم تمام المعرفة وندرك آلامهم.

ومن ناحية أخرى فقد حاول فريدمان ـ الكاتب الأمريكى المتحيز لإسرائيل ـ أن يكون موضوعيا، فوصف حماقة إسرائيل الكبرى بتوسيع المستوطنات، فى حين أنه يتم التفاوض بشأن السلام، وطالب الأمريكيين برفض هذا المسلك، وإن كان لم يتحدث عن سلوك الإسرائيليين العدوانى إزاء الفلسطينيين والاستخدام المفرط للقوة، ولم يكشف العسكرية الإسرائيلية بكل تجهيزاتها الأمريكية، التى تحارب شعبا أعزل من كل سلاح ومحاصر من جميع الاتجاهات، وتحدث ـ فريدمان ـ عن ازدواجية وزير خارجية مصر الذى يندد بإسرائيل عندما تفعل الخطأ ـ حسب تعبيره ـ لكن فى حقيقة الأمر هناك جرائم مستمرة ومتجددة، ولا ينطق بكلمة إيجابية عندما تفعل الصواب، ولم يذكر لنا فريدمان أى صواب تفعله إسرائيل، فقد نسى ازدواجية المعايير الأمريكية فى التعامل مع إسرائيل، التى قد تهدد المصالح الأمريكية، وإذا كانت رغبة فريدمان خالصة لإتمام السلام، نوافقه عليها، ولكنه يظلم الفلسطينيين عندما يصف انتفاضتهم الثانية بأنها من أكثر الأشياء غباء، لأنها ـ حسب تحليلاته ـ حققت عكس أهدافهم تماما، فبدلا من إخراج اليهود من الضفة الغربية، ازداد الفلسطينييون فقرا، ودمروا معسكر السلام الإسرائيلى.

فالفلسطينيون لم يلجأوا إلى انتفاضتهم الباسلة، إلا بعد اليأس من السلام الأمريكى المتحيز لإسرائيل، وبعد أن قدموا كل ما طلب منهم من تنازلات عن حقوق قد لا يملكون تاريخيا التنازل عنها، لكنهم قبلوا بها إذعانا لواقع ظالم، وقوى أمريكية قاهرة تقف مع المغتصب، ولا تريد أن تكون متوازنة حتى يشعر الطرف الضعيف، الذى سلبت أرضه وحقوقه، بأنه تم إرضاؤه بالحد الأدنى، الذى يمكّن الطرف القوى والمغتصب من أن يعيش فى سلام وأمن فى المستقبل.

وحتى لا يجىء هذا المستقبل الذى يحمل كل المتغيرات وقلب حقائق القوى التى تتحكم الآن فى مسرح الأحداث، ويقول هذا الطرف إن ما حصلنا عليه، لا يحقق مصالحنا وبالتالى يتجدد الصراع مرة أخرى.

إن الحقيقة العارية التى يقدمها فريدمان كنصيحة للعرب، ولكل الأطراف فى لعبة الشرق الأوسط لم تكن مخلصة إلا للإسرائيليين وللأمريكيين، فهذه الحقيقة لا يمكن أن تخرج إلا من عقل متعصب يرى حقائق القوة، ويريد أن يفرض الاستسلام على الضعيف حتى يتحقق السلام الذى ينشده.

لكن الحقيقة الوحيدة التى ذكرها كانت عن الاستيطان الذى يجب أن يرفضه من يقفون فى معسكر السلام، ولعله قد أصاب كبد الحقيقة، حين عيّر الفلسطينيين بأنهم لم يجدوا من العرب سوى أطقم التليفزيون وتعهدات واهية بالمساعدة المالية، ومطالبة أمريكا بإخبار إسرائيل بأنها لن تدافع عن احتلالها الأبدى للضفة الغربية، ولن تدافع عن المستوطنات المبنية بإهمال فى قلب أكبر التجمعات الفلسطينية، ومطالبة أمريكا بإدانة الحصار الإسرائيلى المستمر للأراضى الفلسطينية وتوسيع المستوطنات، وهو ما يعتبر شيئا مخزيا، وستجعل التوصل إلى اتفاقية سلام أكثر صعوبة من ذى قبل.

بصراحة انتفاضة الفلسطينيين ومقاومتهم للعدوان الإسرائيلى، وعدم انجراف العرب وراء العدوانية الإسرائيلية بكل أنواعها لنقل المعركة من المقاومة إلى الحروب العسكرية، كشفت المأزق الإسرائيلى، وستؤدى إلى هزيمة منهج شارون العدوانى، وستفتح آفاقا جديدة أمام الفلسطينيين للحصول على كامل حقوقهم وانتصارهم المقبل ـ بإذن الله ـ فالانتصار فى عالم اليوم ليس بالقوة العسكرية، لكن بالعقل والحكمة وإدارة الصراع باقتدار، ونحن فى حاجة إلى توحيد صفوفنا وتحديد إستراتيجيتنا، والاختيار الدقيق للقيادات، والتسليم بأهمية اتخاذ القرارات الصعبة التى تضع نصب أعيننا حكمة الرؤية المستقبلية، إذا وعينا الدروس وصمدنا، وحكّمنا العقل، وتركنا التعصب جانبا، فسوف ننتصر، فالانتصار للعقل وليس للعسكرية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى