الحلقة الدموية السيناريو القادم

حاول قدر طاقته أن يتصرف بذكاء، أراد أن يخالف طبيعته الدموية، فألهمه عقله أو تفجرت قريحة مستشاريه وخلصائه ـ وهم على ذات شاكلته من العقليات التى شاعت فى عصور قديمة، ومازالت تقيس الأمور بحسابات تجاوزها الزمن ـ أن ترد على عملية كتائب القسام فى القدس التى راح ضحيتها المئات من الموتى والمصابين، فقام شارون رئيس الوزراء فى فجر 11 أغسطس فى عملية حمقاء بالاستيلاء على بيت الشرق، وقام وزيره لازو لانداو وزير الأمن الداخلى بإنزال العلم الفلسطينى ورفع العلم الإسرائيلى وتصور الاثنان معاً أنهما بدءا عصراً جديد فى القدس، سمياه بداية تطبيق القانون.. وأنهما بذلك يتجهان لمنع الإرهاب، ولم يكونا يدريان أنهما بهذا العمل يحكمان الحلقة الدموية ليس حول الفلسطينيين الذين لم يخسروا شيئا ـ فالمدينة كلها تحت الاحتلال ـ لكن حول الإسرائيليين أنفسهم فهذا البيت الذى شيد فى عام 1897 وبناه إسماعيل موسى الحسينى، كان وسيظل عنوانا للمقدسيين الذىن يعيشون فى المدينة العتيقة ويلتف حوله 160 ألف مقدسى و5 ملايين فلسطينى،
وأصبح رمزا للسلام والتعايش بين الشعوب، فقد شهد مخاض تشكيل الوفد الفلسطينى فى مؤتمر مدريد وداخل قاعاته وجدرانه العتيقة التقى الفلسطينيون مع كل زعماء العالم والأهم أنهم التقوا داخله مع الإسرائيليين من معكسر السلام وفيه أيضاً تبلورت فكرة التعايش الإسرائيلى والفلسطينى. لم يكن شارون ولانداو يدريان أنهما بهذا القرار يفتحان باب جحيم حقيقيا من جديد، وما نقصده بالجحيم هنا ليس خطة شارون أورانيم العسكرية، أو جهنم التى يفتحها على الشعب الفلسطينى رداً على قبولهم التعايش السلمى مع المحتلين، بل جهنم حقيقية للإسرائيليين ولشعوب الشرق الأوسط وللولايات المتحدة الأمريكية بل للمصالح العالمية فى منطقتنا، فقد عدنا حقيقة إلى نقطة التجمد. فهذا الاحتلال للبيت الرمزى يسقط اعتراف الفلسطينيين ـ ومن خلفهم ومن أمامهم بالقطع كل العرب والمسلمين ـ بالإسرائيليين وبإمكانية التعايش معهم.
ونعود إلى نقطة الصفر منذ أن خرج يهود أوروبا وأمريكا وروسيا من بلادهم لبناء وطن جديد فى صهيون القديمة كما يطلقون عليها أرض فلسطين وانسحبت سلطة الانتداب البريطانى، وطالبت بدولة يهودية مستقلة واستمر الصراع خمسين عاما. من كان يتصور أن يقبل العرب والفلسطينيون بالإسرائيليين فى منطقتنا، ولذلك فإن أوسلو 93 تمثل تقدما لكل الأطراف، فكل طرف وافق على الوجود المبرر للآخر، فإذ بشارون يسحب هذا الاعتراف الذى قدمه للمجتمع الدولى وللفلسطينيين قبل أوسلو. يسحب الاعتراف بشرعية وجود المقدسيين والفلسطينيين فى عاصمة بلادهم القدس العتيقة، فماذا يتصور أنه يفعل؟ إنه يفتح باب جهنم أمام شعوب المنطقة، وينتظر إعلان حرب جديدة، والحرب الجديدة كما نفهمها، وكما أصبحت تعرف، هى حرب الإرهاب، أو الجهاد كما يسميها كل طرف، وهذه الحرب نطاقها لن يكون فى إسرائيل أو الأراضى المحتلة، لكن فى كل مكان فى العالم توجد فيه قوى البغى والإرهاب، التى تتسلط على شعب أعزل، وهى الولايات المتحدة وإسرائيل، ولن يستطيع أحد فى العالم أن يوقف هذه الحرب عندما تشتعل، وهى جهنم حقيقية لو عرف شارون فإذا كان شارون يتصور أن الضرب المبرح أو احتلال أراضى السلطة الفلسطينية واحتلاله لبيت الشرق ومحافظة أبوديس ومقار وإدارات ترمز للوجود الفلسطينى فى القدس، قد كسر كبرياء الشعب، وأنه قد نجا فى الوقت نفسه من الإدانة الدولية،
أو أنه قد نجح فى الرد على عملية القدس كثيفة الدماء والضحايا، فإنه مخطىء وعاجز عن الفهم والإدراك الحقيقى لحقيقة ما يفعل، ويرتكب من جرائم فى حق شعبه قبل الشعوب الأخرى. إن ما نجح فيه شارون إذا كان هذا نجاحا، ـ هو قلب عملية السلام رأسا على عقب، فإن عملية القدس وتل أبيب وحيفا، كلها من العمليات الفلسطينية التى تجىء ردا على عمليات إسرائيلية انتقامية، وردا على المجازر ونافورة الدماء المستباحة للأطفال والنساء والشباب الفلسطينى منذ أن تفجرت الانتفاضة السلمية التى كانت ومازالت تعبر عن إرادة شعب يبحث عن السلام العادل، ويرفض الاستسلام والخنوع، ويبحث عن طريق للحياة والعيش بكرامة على أرض سُلبت منه. إنها أكثر القضايا عدلا فى تاريخ البشرية فى مقابل أكبر وأقوى القوى المستأسدة فى عالمنا المعاصر عدوانية وتجاهلا من شعوب الأرض. فقد كشف شارون عن الوجه القبيح لإسرائيل، وحان وقت التدخل، ولعل وصف مارتن إنديك سفير أمريكا فى إسرائيل ـ رغم تحيزه لإسرائيل ـ جاء دقيقا عندما طالب أن تتدخل إدارة بوش فى الصراع الدائر، ولا تقف عند حد التنديد اليومى الصادر من الرئيس أو وزارة الخارجية، والتدخل الأمريكى الفعال ضرورى، وموجود فى خطة عمل تينيت، وخريطة إعادة بناء الثقة واستئناف المفاوضات تم تحديدها بالفعل فى تقرير ميتشيل.
وإذا كان إنديك يحاول أن يضغط على عرفات، فإن الوجه القبيح لشارون وعصابته هو المسئول عما وصلنا إليه الآن من طريق مسدود، فقد فجر الرجل الصراع بزيارة مشئومة للمسجد الأقصى، ووصل عن طريقها إلى مقعد رئيس الوزراء، مستغلا أزمة الشعب الإسرائيلى وخوفه، والآن ينتقل إلى برنامج جديد لتفجير الشرق الأوسط، مستغلا الغياب الأمريكى وخوف الرئيس بوش وضعف السياسة الأمريكية فى كل المجالات فى مرحلتها الراهنة. ولعل الاقتراح الأمريكى بقيام لجنة مراقبة شبيهة بالفريق ـ الذى كانت تقوده أمريكا فى جنوب لبنان منذ عام 1996 ساعد على وجود درجة من الاستقرار حتى الانسحاب الإسرائيلى فى العام الماضى ـ يكون مجديا فى الموقف الراهن الذى تعيشه الأراضى الفلسطينية المحتلة فى غزة والضفة الغربية. وهذا الاقتراح لن يكون مجديا وحده، لكنه يحتاج إلى تدخل أوروبى فعّال بالضغط على الولايات المتحدة وشارون للالتزام بالتعاهدت الدولية والانسحاب من المناطق المؤثرة فى القدس الشرقية والتسليم بحقوق الفلسطينيين فى هذه المناطق، مع إعلان إسرائيلى بوقف بناء المستوطنات وإعادة التزامها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، كل ذلك من الممكن أن يهدىء الخواطر ويفتح الباب أما المنطقة للخروج من المأزق الذى جرها شارون إليه،
وإذا لم يحدث ذلك فإننى أنصح الرئيس عرفات بأن يختار حكومة وحدة وطنية من كل الفصائل الفلسطينية حماس والجهاد وفتح والجبهة الشعبية، وبقية الجبهات المختلفة، وأن يختار قيادة ميدان جديدة، ويخرج بالقادة التاريخيين إلى أقرب عاصمة عربية، ويترك الشباب لتصعيد درامى للجهاد إلى المستوى الذى يجبر الولايات المتحدة الأمريكية على التدخل الحاسم، ويجبر الشعب الإسرائيلى على تصفية الحساب مع شارون واليمين الإسرائيلى.