الانتصار بين العقوبات الذكية والصماء

حدث خلاف عالمى وإقليمى حول النتيجة التى أسفر عنها فشل الولايات المتحدة وبريطانيا فى تطبيق نظام جديد للعقوبات على العراق سمى بـ العقوبات الذكية وقد تركز الفشل الأمريكى فى الصحوة الروسية المفاجئة، التى هددت باستخدام الفيتو ضد الولايات المتحدة لأول مرة لإفشال النظام الجيد، بالرغم من أن كولن باول وزير خارجية أمريكا استطاع حشد الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن لتأييده بما فيها قوتان كانتا ترغبان لو أعفتهما الولايات المتحدة من الموافقة على هذا النظام، وهما فرنسا والصين، ولكنهما فى النهاية اضطرتا تحت الضغط الأمريكى إلى الاستسلام لإرادة القوة الكبرى المهيمنة على النظام العالمى.
وبالتالى فإن الانتصار هنا ليس عراقياً بل روسياً فالعقوبات على العراق مستمرة، فقد تم تطبيق نظام العقوبات القديم بدون أى تغيير حتى الأسبوع الأول من شهر ديسمبر القادم، وبالتالى فهذه معركة ليس للعرب أو للعراق ناقة فيها ولا جمل، ولن يكون غريباً خلال الأشهر القادمة أن تستطيع الولايات المتحدة إعادة الكرة من جديد لنظام العقوبات المقترح، وبعد أن يكون العراق، قد سدد فاتورة هذا الانتصار المؤقت، والمتمثل فى تأجيل تطبيق النظام المقترح إلى وقت آخر..
ولذلك، وجدنا وسائل الإعلام الغربية تضخم ما حدث، وتجر العراق مرة أخرى إلى أن يصدق أنه حقق انتصارات ، جعلت صدام حسين يعلن النصر، فخصماه اللدودان أمريكا وبريطانيا تآمرتا لإحكام الحصار الذى استمر 11 عاماً على حكمه بجعل عقوبات الأمم المتحدة أكثر ذكاءً، إلا أن تهديد الفيتو الروسى فمجلس الأمن أطاح بأشهر من المساومة فيما بين الدول، حتى تم تمديد العقوبات الصماء البكماء القديمة بدون أى تغيير، والعقوبات الأذكى أصبح مصيرها أدراج الرياح.
والانتصار هنا فى تقسيم الأدوار، وأن يدفع العراق ثمنه مرتين، مرة بجعل الصراع العالمى صراعاً بين عقوبات ذكية وغبية حسب رغبتك فى التسمية.. وعقوبات صماء بكماء مستمرة وليس بين عقوبات أو إنهاء العقوبات، فذلك غير وارد، فالعقوبات مستمرة، ولكن أى شكل من العقوبات تريدون؟ حتى هذا الانتصار الوهمى سيدفع ثمنه العراق لروسيا مليارات من الدولارات المهربة فمن المعروف أن العراق تعهد بتسديد 8 مليارات من الدولارات لروسيا مقابل صفقات أسلحة ومعدات عسكرية قديمة، وكان العراق قد تعهد بصفقات بترولية لروسيا، ارتفعت هذه التعهدات وقت التصويت على أى عقوبات، سيختارها مجلس الأمن الذكية أم الصماء لتصل إلى 21 مليار دولار، وهو الرقم الذى تناقلته الشائعات ولكن يبدو أن الانتصارات العربية التى تتحقق لا تكون رخيصة إلى هذا الحد، فروسيا انتصرت للعراق.. ووافقت القوى الكبرى على أن تجعل العراق الفقير وشعبه المطحون فرخة بكشك لحل بعض المشكلات المزمنة فى الاقتصاد العالمى، ومنها الاقتصاد الروسى، وأن تحصل جميع الدول الغنية على فسحة من الوقت لدراسة شكل جديد للسيطرة على العراق، وسرقة بقية موارده لصالح القوى الغربية وشركاتها النهمة للسيطرة على العراق، بهدف تحويل نظام النفط مقابل الغذاء إلى النفط مقابل التطوير.. والنظام المقترح يحمل فى طياته أساليب تحكم جديدة مقنعة ومتطفلة فى التجارة والمال بحيث يستمر العراق فريسة اقتصادية مستمرة للقوى الطامعة.
العراق بأخطائه فى بداية التسعينيات سلم نفسه للغرب وبدد طاقته بعدم قدرته على معرفة ما يحدث وعجز قيادته على التسليم بالواقع الذى آلت إليه البلاد، ومحاولة تجاوز محنته أصبحت أزمة دائمة ومستمرة.
والصورة الآن أو المفاوضات القادمة سوف تتركز بين أمريكا وروسيا بعد أن تحصل روسيا على ثمن وقفتها مع العراق ضد نظام العقوبات الذكية، ستكون كالتالى إن أمريكا ستكشف لروسيا عن أن وقفتها تسببت فى عزلتها عن المجتمع الدولى، وأنها وحدها هى المسئولة عن تأخير التخفيف المبكر عن المدنيين العراقيين كما أن ما حدث ليس أسلوباً مميزاً أو طريقة تساعد روسيا لدفع هدف بوتين لإعادة بناء تأثير موسكو الدبلوماسى عالمياً أو إقليمياً، فى حق بلاده وعلاقته بالغرب، كما أن ما حدث سيكون له تأثيره على المنطقة العربية.
وستركز أمريكا على أن كلا من بوش وبوتين تعرفا على بعضهما البعض وأن علاقاتهما البناءة لمصلحة بلديهما، وأن من المصلحة استمرار العقوبات على العراق، وأن مواجهة صدام عسكرياً ونزع أسلحته غير التقليدية يعزز الأمن الأمريكى والروسى معاً.
وهكذا يكتشف العرب دائماً، أن أخطاءهم متكررة حيث تبدو اللعبة القديمة نفسها بين القوتين الأمريكية والروسية، فقد تكررت فى الستينيات فى العهد السوفيتى، ولم تكن لعبة ناضجة فى مصلحة العرب، ولكن الروس كانوا دائماً يحصلون على الثمن مرتين وسوف يحصلون على الثمن هذه المرة وقد كان الأولى عندما وقفوا معنا أو هكذا تصورنا، والثانية، عندما أجلوا الهدف إلى مرحلة تالية، ثم يحصلون على ما يريدون ليس لحل الأزمة العراقية، هكذا يجب أن يتعلم العرب. فالحل يجب أن يكون عربياً أولاً وقد فشلنا فى تحقيقه فى قمة عمان أو فى مفاوضات ثنائية أو مكوكية وسوف تستمر الأزمة إلى أن تتبدد الموارد، وتضيع وتذهب فى غير مكانها أى لا يستفيد الإنسان العربى منها إلا الفتات ولكن من يستفيدون هم من يدبرون المؤامرات الكبرى والمستمرة ونحن دائماً فريسة سهلة بين أيديهم أو بين عقولهم لأننا لا نفكر ولا نعى مصالحنا الحقيقية ولكننا أسرى الرغبات والشهوات والانتصارات الوهمية، ولله فى خلقه شئون.