ذئب عجوز فى عصر مختلف

عندما وقف آرييل شارون أمام الكنيست الإسرائيلى الصامت ليلقى كلمة التأبين فى رحبعام زئيفى، كان إما ينعى سياساته أو يراهن على أخطاء عرفات والفلسطينيين، لكن رهانات شارن أخطأت، هذه المرة بالكامل، فلم يخطىء عرفات أو السلطة الفلسطينية، بل تصرفوا بحسم وجدية، وأثبتوا أنهم يقودون سلطة تقرأ وتعى، وأنها أصبحت تعرف بدقة طبيعة وظروف العصر الجديد الذى نعيشه. أما الذى أخطأ الحساب وأصبح كالذئب العجوز الخامل ويعيش فى غير عصره فهو شارون.
شارون الذى انتخب على عجل فى إسرائيل، لأنه كما قيل رجل أمن، جاءوا به ليوقف ثورة الشعب الفلسطينى ضد الاحتلال، كان يقف فى أصعب تحد له منذ انتخابه فى فبراير الماضى فقد كان مذهولاً وهو يرى أن يدى الإرهاب كما يسميها طالت الوزراء، وكان عليه أن يقارن ويدرس ما يقوله، ليرى من هو المخبول لكنه اندفع كعادته ليهاجم إسحق رابين، الذى قامت حكومته بالتفاوض مع الفلسطينيين، ووقعت اتفاقيات أوسلو معهم للسلام، ويصفها بأنها حكومة مخبولة قررت السير قدماً فى انتحار قومى.
هكذا يفكر شارون، ويتهم، ويطلق تهديداته بلا وعى أو تفكير، ويحاول التنفيذ ليفرض أفكاره غير المنطقية ومنهجه الخاطىء وزمنه الماضى على حاضر لا يمكن أن يقبله هو وأفكاره.
فـ رابين مخبول واندفع بالإسرائيليين إلى الانتحار أما هو أى شارون فيملك الرؤية الثاقبة وسوف يكسر عظام الفلسطينيين، ويتعامل مع عرفات ومنظمته كما يتعامل الأمريكيون مع بن لادن وقاعدته..
أى تفكير هذا وأى ثمن سياسى بعد هذه الرؤية ومن سيدفعه؟ هل ستدفعه إسرائىل أم الأمريكيون أم كل منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع؟، حتى يبقى فى السلطة شخص مثل شارون، الابن الشرعى للسياسات الخاطئة، والرهانات الخطأ، أخطاء الإسرائيليين وخطيئة الأمريكيين، وأخطاء العرب والفلسطينيين المتكررة، وتفكيرهم الذى يحتاج إلى رؤية متكاملة لكيفية كشف جرائم شارون، ليس أمام الأمريكيين أو أمام العالم، فالكل يعرف شارون، لكن المهمة الكبرى هى أن نكشف شارون وسياساته أمام الرأى العام الإسرائيلى، وأعتقد أنها المرة الأولى التى أصبحنا نفكر فيها فى مخاطبة الإسرائيليين، وطمأنتهم إلى أن من يدفعهم إلى الانتحار ويهدد مستقبلهم الإقليمى، ليس عرفات أو حتى حماس أو حزب الله، ولكنه شارون وسياساته.
لقد فشل شارون وظهر عجزه أمام الإسرائيليين عندما أراد أن يجعل عملية اغتيال زئيفى أول هجوم فلسطينى فى قلب القيادة الإسرائيلية منذ تأسيس الدولة، شبيهة بعملية 11 سبتمبر فى واشنطن ونيويورك، فقد قال كل شىء قد تغير الآن ثم تعهد بشن حرب لوضع نهاية للفلسطينيين.. ونسى شارون الاختلاف التام بين العمليتين، فالأولى كانت عملية إرهابية شاملة بكل المقاييس، والثانية نتيجة سياسات إسرائيل التى شرعت عمليات الاغتيال بقتلها لعشرات المئات بنفس أسلوب الاغتيالات، بل إنها تخطت كل الحدود باستهدافها القيادات الفلسطينية، فعملية اغتيال الوزير الإسرائيلى تكشف أخطاء شارون وسياساته، وأنه مثلما استهدف أبوعلى مصطفى وغيره من قيادات الفلسطينيين، فإنه يضع نفسه وقياداته فى نفس المكان للاستهداف بالقتل ناسياً أن الضعيف اليوم يصبح قوياً فى الغد، وغير القادر اليوم يكون قادراً غداً، هذا ما لا يفهمه شارون، وحانت لحظة الحقيقة، كما يصفها جول بيترز المحلل الإسرائىلى فى جامعة بن جوريون، الذى يرى فى لحظة صدق أن شارون فى غاية الخوف، فهو سيفقد التأييد الدولى، والأمريكيون ومعهم العالم، لن يتحملوا تصعيد آخر، ويتمنى المحلل الإسرائيلى أن تصل فكرته إلى شارون، ويضيف إن أحداث 11 سبتمبر فى نيويورك وواشنطن، لم تكشف للأمريكيين والعالم خطورة التطرف الإسلامى فقط، بل كشفت كل تطرف إرهابى باسم الأديان، وأن إسرائيل هى من أولى الدول الدينية المتطرفة، التى يجب أن تغير سياساتها، حتى تصبح دولة تحكم بالقانون ونظم العدل، وليست دولة المتطرفين اليهود الذين يستهدفون العالم بغطرستهم وعدوانيتهم وليست الشعوب العربية فقط.
وكنت أعتقد أن شارون والمتطرفين الذين معه سوف يكتشفون التغييرات التى تحدث فى باكستان وأفغانستان والكثير من دول الشرق الأوسط، ليعرفوا أننا نتجه سريعاً إلى دول القانون، وأن شرعية الحكم باسم الأديان تسقط، ولا يمكن أن تكون إسرائيل هى الاستثناء الوحيد، خاصة مع اكتشاف العالم أن التطرف نجم عن خلط الدين بالسياسة.
وقبل أن أنهى هذه الرسالة، فإننى علي يقين من أن اغتيال رحبعام زئيفى ـ الذى يعد من الرعيل الأول المتطرف ـ سيمثل لحظة صدق أو يقظة للإسرائيليين ليعرفوا أن طريق الاستقرار ليس عن طريق سياسات شارون، ومن على شاكلته، بل من يسير على سياسات رابين يسير على نهجه.
وإننى أتفهم، وأدرك صعوبة ما تعرض له الرئيس ياسر عرفات، عندما رفض عملية اغتيال الوزير الإسرائيلى، وقيامه بحل الجناح العسكرى للجبهة الشعبية التى أعلنت مسئوليتها انتقاماً لشهيدها الأمين العام أبوعلى مصطفى فى 27 أغسطس الماضى بصاروخين أطلقتهما طائرة آباتشى وهو داخل مكتبه.
أزعم أننى أرى أن زئيفى لم تقتله الجبهة الشعبية، لكن قتلته الأفكار التى نادى بها، فهو من أشد المتحمسين لاغتيال القيادات الفلسطينية، وكان يحرض شارون على تدمير السلطة الفلسطينية وقتل ياسر عرفات، وهو الذى طالب بترحيل الفلسطينيين ترانسفير وخلعهم من جذورهم وتشريدهم خارج فلسطين، وهو يمثل نموذجاً للأصولية الصهيونية المتعصبة المتطرفة، وهو العنصرى الذى قاتل فى تشكيلاتها، بل هو من مؤسسى الإرهاب الإسرائيلى، وأفكاره هى التى قتلته، ولم تقتله المنظمة التى أعلنت مسئوليتها متمسكة بحق الرد.