مقالات الأهرام العربى

عام على الانتفاضة

اجتزنا أصعب شهور العام أغسطس 2001 الذى يذكرنا بأغسطس عام 90، عقب اجتياح صدام حسين حدود الكويت وإحداث تغيير جوهرى فى خريطة المنطقة، كان من الصعب قبوله، وهو ما أدى إلى حرب إقليمية ضخمة، فى منطقتنا مازالت آثارها ماثلة إلى الآن، ولا يمكن تلافى سلبياتها الجسيمة ببساطة، لأنها بددت الطاقة والثروات العربية، ومازلنا جميعاً ندفع ثمن هذه الحرب باهظة التكلفة.

وفى أغسطس هذا العام، دفعنا شارون إلى حدود وخطوط غير متصورة، أكبر من أى خطوط حمراء تم تجاوزها من قبل، فقد دفع المنطقة إلى حافة الحرب، ولولا واقعية وحكمة القيادات العربية ـ يتقدمهم الرئيس حسنى مبارك ـ لجرف شارون المنطقة إلى لهيب مشتعل، لا يمكن تجاوزه، وهكذا وصلنا إلى شهر سبتمبر، الذى يقتضى منا جميعاً أن نقف فيه لحظات بل ساعات يومياً، نقدم فيه التحية إلى الشعب الفلسطينى البطل، ففى هذا الشهر يكون قد مر عام بكامله على أكبر وأنقى ثورة لشعب فى التاريخ، شعب أعزل لا يملك شيئاً لا قوات ولا حتى مؤسسات دولة، ويقع تحت الاحتلال، وأى احتلال؟ إنه احتلال استيطانى يفوق فى تأثيره وخطورته كل أنواع الاستعمار والتمييز العنصرى التى شهدها العالم منذ بدء الخليقة إلى الآن.

هذا الاحتلال كشف عن وجهه القبيح والأسود والعنصرى، طوال العام المنصرم من ثورة الفلسطينيين ضده، كانت الصورة تشير إلى حرب لم يعرفها الإنسان المعاصر، جيش يملك طائرات ودبابات وصواريخ وأسلحة حديثة فتاكة لا يستخدمها فى ميدان عسكرى، لكن فى الشوارع والطرقات، يقصف بها الأماكن المدنية والمناطق المأهولة بالسكان، يقاتل شعباً لا يملك من الأسلحة إلا الحجارة.

استولى شارون وعصابته على السلطة فى إسرائيل، ليس بالقوة العسكرية، لكن بسلطة شعب خائف، تصور أن أساليب القمع والعنف العسكرية هى الطريق إلى تأديب الفلسطينيين وإلزامهم بقبول الاحتلال  العنصرى، ولذلك سلموا أمرهم إلى هذا الجنرال العجوز المتخفى فى ثوب السياسيين، هذا المتعطش إلى الدماء، والذى مازال يعيش فى القرون السحيقة، بينما انسحب أقرانه وزملاؤه من مؤسسى إسرائيل من الحياة، أو أدركتهم رياح التغيير، ولكن الجنرال الذى انتهت صلاحيته يعيد المنطقة إلى سيرتها الأولى، غير مدرك طبيعة المتغيرات العالمية والإقليمية أو حتى الموقف الراهن للعلاقات بين إسرائيل والعالم العربى، والتى قبل العرب فيها ˜السلام كخيار إستراتيجى وحل للصراع بين العرب والإسرائيليينŒ فإذا بنا خلال هذا العام نشاهد الجنرال شارون، وهو يحاول جاهداً جر المنطقة إلى صراع لا ينتهى، يشعل النيران فى كل شىء من حوله، فعندما قام بزيارته المشئومة إلى منطقة الحرم القدسى، تفجرت الانتفاضة الفلسطينية، فهو لم يذهب زائراً طالباً للسلام والتعايش بين الشعوب، لكنه ذهب جنرالاً مدججاً بالسلاح، لكى يقول للفلسطينيين أنتم تحت رحمة أسلحتنا ونحن قادرون عليكم، وليس أمامكم مفر من الخضوع لقوتنا وجبروتنا.

وهكذا كانت الخطوة الأولى لانتفاضة الشعب الفلسطينى استعراضاً من شارون لقوته العسكرية، مستنداً إلى الغياب الأمريكى والضعف العالمى، فأنفجرت الثورة التى سيصفها التاريخ المعاصر بأنها ثورة فريدة من نوعها، أثبتت قدرة الشعب الفلسطينى واستحقاقه وجدارته بالعيش حراً، وحقه فى تقرير المصير وقيام دولته على أرضه، لكى يضع حداً لأكبر ظلم إنسانى وقع على شعب شُرد وأصبح أهله من اللاجئين فى حين أن أرضه تستقبل ملايين المستوطنين اليهود من كل أنحاء العالم، صورة عاكسة للظلم، شعب يُشرد من أرضه ويُجبر على العيش فى المخيمات والملاجىء، وأرض تُحرث من جديد وتستقبل شعباً آخر لتكرس الظلم الإنسانى والتمييز العنصرى فى ظل غياب دولى وازدواجية فى المعايير.

وبعد مرور عام على ثورة الشعب الفلسطينى المستمرة، اكتشف الجميع فشل شارون وعدم قدرته على تحقيق الأمن لشعبه بقوته العسكرية، بل إنه يجلب النقمة الآن على إسرائيل فى كل أنحاء العالم، ولعل مظاهرات دربان فى جنوب إفريقيا، ووقفة منظمات المجتمع المدنى فى كل أنحاء العالم التى كشفت فى بيانها عن الأبارتهيد الجديدة للإسرائيليين ضد الشعب الفلسطينى، تكون بمثابة جرس إنذار لليهود فى كل أنحاء العالم وعلى الإسرائيليين أن يسألوا ما الذى جلبه لهم شارون وسياساته، العالم الآن يدين إسرائيل ويكشف عنصريتها ووجها القبيح، وتغيرت الصورة، فلم تعد إسرائيل الدولة الصغيرة الموجودة فى مجتمع عربى متوحش يضمر لها العداء ويريد إلقاءها فى البحر؟ بل أصبحت إسرائيل الدولة النووية المدججة بالسلاح، والتى تستأسد فى مواجهة شعب أعزل، بل تهدد كل الشعوب العربية باستخدام أسلحتها الفتاكة والدعم الأمريكى وإشعال العالم بحرب دينية ونووية، وفتح المجال لصراع وإرهاب عالمى، سيخرج عن نطاق السيطرة، متطايراً من أرض فلسطين إلى المنطقة العربية بل إن مسرحها سينتقل للعداء الدينى الذى لا يمكن إيقاف شرارته، فهو يستشرى بصورة خطيرة، فأخطر أنواع الحروب هى تلك التى تشتعل بين الشعوب لا بين الجيوش، وهكذا فإن شارون أدخل المنطقة فى نطاق الانفجار.

ومازالت الولايات المتحدة وإدارة جورج بوش الابن غير منتبهة إلى ما يحدث، بل إنها تتصور أن أصابعها وأقدامها بعيدة عن اللهيب المشتعل فى حين أن النيران كلها تحوم حول تخوم البنزين، واشتعال الآبار وارد لا محالة لنعود إلى أوائل التسعينيات حينما أشعل صدام حسين آبار بترول الكويت وهو يهرب بعد أن فشل فى احتلالها.

وهاهو شارون اليوم يشعل المنطقة والنيران فى كل بيت، وهو يودع السياسة والحرب فاشلاً ومطلوباً للمحاكمة كمجرمى الحروب، مطارداً من العدالة الدولية، محمياً بموقع رئيس الوزراء الذى وصل إليه فى غفلة من الزمن وتحت ستار كثيف من الدخان والخوف الذى ألم بالإسرائيليين والمنطقة العربية، بعد أن تم إنجاز خطوات على طريق السلام والتسوية، فإذا بالزمن يسلم مقاليد القرار فى المنطقة إلى عتاة المجرمين والمتطرفين، وسط غياب دولى جاء نتاج عجز قادة وحكام واشنطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى