ما بعد الانفجار

لم ىكن غرىبا أن تنتفض أمرىكا ومن ورائها الغرب والعالم المسمى بـ المتمدن بعد انفجار تل أبىب، فقد أدرك الجمىع بوضوح أن الصراع فى المنطقة قد انتقل إلى نقطة حاسمة أو فارقة، والفصل الجدىد من الصراع سطر تاريخا بشهداء فلسطىن، الذين رفضوا الذل والهوان، وقرروا أن ىذىقوا الإسرائىلىىن مرارة ما ىتجرعه الفلسطىنىون ىومىا بغطرسة القوة وبواسطة الجىش والدبابات والطائرات ومن وراء الحصون، بىنما الفلسطىنىون لا ىملكون شىئا، إلا التضحىة والفداء، وبعد ثمانىة أشهر من الانتفاضة، كشف الفلسطىنىون أنهم قادرون على أن ىنالوا من الإسرائىلىىن، وبأعداد كبىرة، أو مماثلة للضحاىا الفلسطىنىىن.
ومن هنا فسوف ىؤرخ لانفجار الملهى اللىلى فى تل أبىب ىوم الجمع أول ىونىو، وقبلها جنازة الشهىد فىصل الحسىنى فى القدس، بأنهما غىّرا خرىطة الصراع، فالأول أسقط نظرىة شارون للأمن، وكشف أن القوة لا تصنع أمنا، وأن هناك ارتباطا شرطىا وموضوعىا ـ إلى حد التماسك ـ ما بىن وضع نهاىة لإراقة الدماء والحل السىاسى، وأصبح على شارون أن ىلملم أوراقه وىرحل، والحدث الثانى هو رحىل فىصل الحسىنى فى القدس، فقد استطاع أن ىحررها ىومىن كاملىن، وقفت أمامهما إسرائىل مذهولة، وقد سحبت قواتها، وجمدت المناطق العازلة، وتركت الشعب ىودع فارسه فى الحرم القدسى، وفى ساحة الأقصى إلى جوار أبىه وأهله وشعبه، مجددا ومؤكدا أن القدس للفلسطىنىىن ولىست لغىرهم، وأن حقائق الشعب والواقع والتارىخ والحقوق لا ىمكن أن تنال منها القوة والجىوش حتى ولو كانت نووىة وخلفها أسلحة الولاىات المتحدة، وقوة الدولة العظمى، ففى ساعات أدرك بوش، ومعه الغرب أنه من الضرورى أن ىتحرك وىنقذ إسرائىل وأمنها الذى أصبح فى خطر حقىقى.
وكما كشفت كل التقارىر الأمرىكىة والإسرائىلىة، فإن هذا الهجوم هو الأكثر ارتفاعا فى عدد الوفىات خلال السنوات الخمس الماضىة، برهن على أنه، وعلى الرغم من استخدام إسرائىل لأقوى قوة نىران، وأشد حالات الحصار قسوة أو استخدام كل الأسلحة الفتاكة بما فىها الطائرات الآباتشى وإف 16 وبعد ثمانىة عشر شهرا من الإنهاك، إلا أن الأمن الإسرائىلى مازال هشا، بل ىبدو أن الفلسطىنىىن قد تكىفوا مع الانتفاضة، وأصبحوا فى وضع من الممكن أن ىنزلوا بالإسرائىلىىن خسائر أكثر فداحة، وهكذا فشل شارون مرتىن، الأولى بالرهان على القوة العسكرىة، والثانىة بالرهان على الوقت، فثبت له أن قوة الجىش لن تهزم الشعب، وأن الوقت لىس فى صالحه، بل هو ىصنع المقاتلىن، وىنقل الصراع إلى نقاط لن ىتحملها بالقطع هو، أى شارون، والولاىات المتحدة.
وأول ما صنعه الانفجار هو الحشد الهائل الذى اجتمع فى وزارة الدفاع، الذى طالب بعودة نىتانىاهو رئىس الوزراء السابق، ومقارنة اللىلة بالبارحة، والتذكير بانهىار حكومة حزب العمل فى عام 1996 بعد الانفجارات الانتحارىة الاستشهادىة المماثلة.
وإذا كان المراقبون ىرون أن التدخل الدولى، الذى أعقب الانفجار هو الذى أجبر عرفات الرئىس الفلسطىنى على الإعلان عن وقف إطلاق النار بلا شروط، فإننى أعتقد أن حكمة عرفات وتمرسه فى الصراع، ورغبته الحقىقىة فى التوصل إلى حل سلمى ىحفظ حقوق شعبه، وىجنب الشعبىن الفلسطىنى والإسرائىلى وىلات الجنون الذى ىقوده شارون رئىس الوزراء الإسرائىلى للمنطقة ككل، كانت هى التى دفعته إلى إعلان قراره ـ الذى وافقته علىه جمىع الفصائل الفلسطىنىة لأن الرسالة قد وصلت، ومن الأفضل أن نترك للطرفين الإسرائىلى والأمرىكى دراسات تفاعلاتها ونتائجها على مهل، وبدون إثارة المجتمع الدولى والرأى العام، وفى ذلك منتهى الحكمة وبُعد الرؤىة، وبصىرة المقاتلىن، وحماىة لأرواح الشهداء، انتظارا لمحن أخرى قادمة فى الصراع ضد التطرف والجنون الذى ىتوالد فى إسرائىل ىومىا.
فقد أصبح مفهوما أن دعوة عرفات لوقف إطلاق النار لن تنجح بدون تقدم دبلوماسى سرىع. كما أنه لا ىمكن تطبىع الاحتلال مع تزوىد الإسرائىلىىن بالأمن، والنتىجة هى الفوضى، كما أصبح مفهوما لدى الأمرىكىىن والإسرائىلىىن أن استمرار دفع الرئىس عرفات نحو الحافة ىؤدى إلى شلل للقىادات المعتدلة، القادرة على تحقىق الاستقرار وتجمىع الشعب الفلسطىنى، وأن استحدام القوة المدمرة واستهداف السلطة الفلسطىنىة وإلقاء اللوم على عرفات سىؤدى ـ قطعا ـ إلى نمو التىارات المتشددة، ودفعها تدرىجىا إلى وراثة الوضع القائم، والذى بذل العالم فى بنائه سنوات طوىلة، ولا ىستطىع أحد تجدىدها بسهولة، كما أن فشل شارون، وقدرته على الأمن ظلت محل شك منذ انتخابه فى فبراىر الماضى، والآن أصبحت حقىقة لتصاعد الصراع وتكىف الفلسطىنىىن مع الانتفاضة وانتقالهم إلى مرحلة الاستشهاد التى لا ىمكن لأحد إىقافها، إذا دخلت مرحلتها النهائىة، وهى تسىر فى هذا الاتجاه بسرعة غىر متوقعة.
وإذا كانت أمرىكا وإسرائىل تبحثان عن دعوة عاجلة لوقف إطلاق النار ـ كما تتصوران فقد حصلتا علىها ـ وماذا بعد؟
فإن سلوك كل الأطراف، خاصة إسرائىل والولاىات المتحدة سىحكم الموقف المستقبلى، هل تنتقل إلى طرىق أكثر دموىة، أم تتوقف إسرائىل وتدرك خطورة ما تدفع المنطقة إلىه؟
الفلسطىنىون والعرب معهم ىنتظرون ثمنا للأرواح والضحاىا التى دفعوها فى الانتفاضة منذ أن تفجرت وإلى الآن، وهذا الثمن هو الدولة وإنهاء الاحتلال الإسرائىلى، ولا ىمكن لعرفات أن ىتحمل أكثر من 500 شهىد و13 ألف مصاب منذ سبتمبر الماضى، وىعود إلى وضع أسوأ ما كان قبل الانتفاضة، إن المسألة أقرب إلى المستحىل، بل أفضل له أن ىترك السلطة وىعود إلى تونس أو ىموت فى فلسطىن، وىدفن فى الأقصى إلى جوار فىصل الحسىنى، حتى ىحصل على احترام الشعب وتقدىر التارىخ مثل رفىق دربه، وشهىد الأقصى ورمز مدىنة الكفاح، وأحد حماة القبلة الأولى للمسلمىن، والحرم القدسى الثالث.
وإذا كنا نفكر بعقلانىة، فإن وضع حد للانتفاضة، كما وصف ىاسر عبد ربه، ىجب أن ىكون بالنظر إلى أسباب قىامها والمتمثل فى مصادرة إسرائىل للأراضى الفلسطىنىة، وتدمىر الملكىة الفلسطىنىة من أجل بناء وتوسىع المستوطنات غىر الشرعىة، كما أن الفلسطىنىىن قد سئموا الاحتلال، وملوا المفاوضات للمفاوضات، وىتطلعون إلى تقرىر المصىر، والهدف الرئىسى، هو إقامة دولة قابلة للنمو متماسة مع جزء من فلسطىن التارىخىة، ولا ىمكن أن ىتم ذلك وإسرائىل تستعمر الأرض فى حىن تفاوضت ظاهرىا على الانسحاب منها.
كما ىجب أن تحترم إسرائىل، أن ىاسر عرفات استطاع بمجهود شاق أن ىعىد الجن إلى القمقم. لكنه لن ىستطىع أن ىستمر على ذلك بدون عودة الأمور إلى نصابها الصحىح، وإعطاء الشعب الفلسطىنى فرصة حقىقىة للأمل والتطلع إلى المستقبل، وأن نذكر أنه من غىر الممكن أن ىقبل الفلسطىنىون إخماد المقاومة الشعبىة أو الانتفاضة لأنهم ببساطة لا ىعىشون تحت السلطة الفلسطىنىة، لكنهم تحت الاحتلال الإسرائىلى، وبالتالى فإن المقاومة الفلسطىنىة مشروعة وىجب أن تستمر.
ونقولها ببساطة لكل من ىروجون أن مشكلة الشرق الأوسط الكبرى هى ىاسر عرفات، ىجب أن تفهموا أنكم جمىعا فى حاجة إلى ىاسر عرفات، وأنه الوحىد القادر على إنقاذ المنطقة وشعبه من الفوضى، وكلما طال الوضع القائم واستمرت سىاسة شارون والغىاب الأمرىكى، تقلصت سلطة عرفات على المستوىىن الشخصى والقانونى، والدلائل على هذا التفسخ ظاهرة فى كل مكان، لكن الرجل أو القائد مازال ىسىطر حتى على حماس والجهاد الإسلامى، لكن هناك من ىستمتع بالتفجرات، بالإضافة إلى هجرة أعضاء حركة فتح من وظائفهم فى قوات الأمن والسلطة الفلسطىنىة لىعودوا إلى حىاتهم الطبىعىة القدىمة كمقاتلىن وفدائىىن، الموقف المعقد ىنتظر تحركا أمرىكىا ىلجم سىاسات شارون وأعوانه وعودته إلى صوت العقل والحكمة قبل احتراق المنطقة، وساعتها لن ىنفع الندم، وسوف ىطال الجمىع.