القمة والزمن المتغير

تابع العرب، كما تابع الأمريكيون والإسرائيليون والعالم القمة العربية على الهواء فى عالم بلا أسوار، وأصبح اتخاذ القرار السياسى يتم تحت سمع وبصر الجميع، لا يحتاج إلى من يركِّب أجهزة تنصت لينقل المداولات والآراء إلى الطرف الآخر، وهذ المتغير المهم وضع القادة فى امتحان عسير ليس أمام شعوبهم فقط، لكن أمام الأجيال القادمة كذلك.
والقمة العربية الدورية الأولى التى عُقدت فى عمان ما بين 27و30 مارس ستؤرخ إلى بداية العمل العربى المشترك الجديد فى عالم وزمن متغيرين، لا يطلب أحد من القادة أن يتجاهلوا ذواتهم ويذيبوا كياناتهم فى وحدة لا يغلبها غلاب، لكن الكل يطالبهم بأن يضعوا مصالح شعوبهم فى المقدمة، قبل مصالح الآخرين، فالشعوب ستحكم على القادة العرب هل هم يمثلون شعوبهم فقط أم أن هناك تمثيلا لمصالح أخرى غير معلنة لها تأثير على قراراتهم؟
قمة عمان نجحت فور اجتماعها، وليس لأنها استطاعت تجاوز ما اصطلح على تسميته الحالة العراقية الكويتية، وهى التراكمات التى بقيت من أزمة حرب الخليج الثانية، فقد استطاعت القمة اتخاذ قرار صريح يطالب بإنهاء الحصار على الشعب العراقى. ونجحت ـ أيضا ـ ليس لوقوفها فى مواجهة الصلف الإسرائيلى، بإعلانها دعم انتفاضة الشعب الفلسطينى فقط، بل لأنها أعلنت عن قدرتها على الحفاظ على النظام العربى أو الحد الأدنى من العمل العربى المشترك، الذى ورثته من القرن الماضى والمتمثل فى جامعة الدول العربية ومنظماتها.
العرب فى قمة عمان أعلنوا، بل أكدوا تمسكهم بالهوية العربية وحماية ما يجمعهم، واختاروا القمة لكى تكون المؤسسة التى تحمى هذا النظام وتراقبه وتدفعه إلى الأمام، فى وقت كان التهديد فيه على أشده بالتحول إلى أنظمة مختلفة وغياب النظام العربى شبه الكامل، فجاءت قمة عمان والتفاف القادة حولها وإصرارهم على حماية ما يجمعهم وتقليل ما يفرقهم، لتحافظ على آمال وطموحات العرب، فى أن تتحول جامعة الدول العربية إلى تنظيم إقليمى قوى يمارس دورا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا فعالا لصالح الشعوب العربية، والهوية العربية والدينية التى تجمعنا.
قمة عمان أثبتت دور وفعالية القادة العرب الجدد فى المنطقة العربية، حين أكدوا إيمانهم بهويتهم وببلادهم وشعوبهم ومنطقتهم، وتمسكهم بالعروبة، وظهر واضحا أن دورهم العربى يحتل مكانة إستراتيجية وله أولوية فى سياساتهم الداخلية والإقليمية والعربية، وكان هذا ضد رهانات البعض على أن هؤلاء القادة سيهربون بعيدا عن العروبة وعن انتماءاتهم.
وبالرغم من انشغال المراقبين بكل حواسهم لمعرفة كيف يجتاز القادة عقبة الخلافات، خاصة الكويتية ـ العراقية، بوضعها فى حجمها الطبيعى، للتركيز على حماية الشعب الفلسطينى، والمطالبة بحماية العراق ـ البلد والشعب ـ ووقف العدوان الأجنبى على الشعوب العربية. فقد كنت أرى أن الأحداث التى سبقت انعقاد القمة فى عمان، ستكون لها دلالاتها المؤثرة على مستقبل العرب، ولعل أهم هذه الأحداث.
صورة القادة والزعماء مبارك وبشار الأسد وعبدالله الثانى فى دمشق، وهم يدشنون مشروع الربط الكهربائى بين بلادهم وامتداده إلى لبنان وأوروبا.
قدرة أميرى قطر والبحرين الشابين حمد بن خليفة آل ثانى، وحمد بن عيسى آل خليفة على قبول قرار محكمة العدل الدولية بترسيم الحدود بين بلديهما بشكل حضارى، فقد التقيا على الفور لبدء التعاون بينهما، وإنهاء حقبة من الصراعات، وفورا حدث ترسيم للحدود بين السعودية وقطر، وقبلهما نجحت اليمن والسعودية فى تجاوز خلافات الحدود وترسيمها بين البلدين.
هاتان الصورتان كانتا تشيران إلى أن هناك تغييرا عربيا مستقبليا يجب أن نعيه جيدا.
ثم جاءت القمة لتكرس مكانة القضية الفلسطينية فى العقل العربى، ومازلت على يقين من أن الانتفاضة الفلسطينية سوف تنتصر، وتجبر إسرائيل على التسليم بالحق العربى، وأن الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، حقيقة أكاد أراها رؤية العين، وستتحقق على أكتاف أطفال الحجارة، وشهداء الانتفاضة، وسلطة فلسطينية عاقلة تتفاوض وتوظف كل القوى على الأرض، وتتعامل مع كل القوى الفلسطينية وفاعليات شعبها، وتحمى منظماتها ومؤسساتها الداخلية، وتطهر هذه المؤسسات، وتنفذ القانون بكل شفافية على الجميع، وفى الوقت نفسه تتعامل مع المجتمع الدولى بكل قوة وفاعلية، ولا تترك وراءها أخطاء تتصيدها إسرائيل وأمريكا أو أىة قوة تريد أن تتملق المشروع الإسرائيلى.
ثورة الشعب الفلسطينى يجب أن تتسلح بديمقراطية وسلطة قانون، وتحمى نفسها بالمؤسسات، وأن تضخ فى شرايين هذه الثورة دماء جديدة، تتواصل نحو هدف التحرير ومقاومة المشروع الصهيونى.
وبعيدا عن أىة شعارات، يجب أن تحافظ القمة على حيوية المشروع العربى واستمراره، وأن تتجه الجامعة العربية إلى الشارع العربى، وإلى منظمات المجتمع المدنى، لإنشاء مؤسسات عربية جديدة تحافظ على قوة العرب ووحدتهم، ولعل التغيير القادم يكون كبيرا وجوهريا، فمستقبل العرب قائم على أساس التغيير الداخلى، بقيام ديمقراطيات عربية واحترام القوانين وبناء المجتمعات الحديثة، والحد من الخلافات العربية ـ العربية.
وإذا نجحنا فى تحقيق الدولة القوية والتعاون الإقليمى العربى، فسوف نهزم المشروع الصهيونى، ونجبره على احترامنا والتعامل معنا بصورة تعكس مكانة العرب وقدرتهم.