روح المتوسط

لحظة مثيرة بالنسبة لى أن أشارك فى احتفالات البحر المتوسط فى تونس، والإثارة والتميز مبعثهما الزمان والمكان، فبالنسبة للأول فإنه يجىء بعد 50 عاماً، عندما أطلق الباشا المصرى محمد طاهر فى سبتمبر 1951 على ضفاف الإسكندرية عروس البحر إشارة البدء ليتبارى شباب البحر المتوسط بشماله الأوروبى الغنى وجنوبه العربى الفقير المتطلع للحياة والتخلص من الاستعمار.
والمكان .. تونس التى تتغير اقتصادياً وسياسياً وتلبس ثوباً جديداً، فى شكله غربى أوروبى وجوهره عربى إسلامى، معبرة بعمق عن روح وثقافة المتوسط التى طالما حلمت بها وعشتها فى أحياء ومدن البحر المتوسط فى مصر سواء فى الإسكندرية أم حتى فى سواحلنا المتوسطية رأس البر وبورسعيد وحتى جمصة وبلطيم والعريش.
قضية كبرى أرقتنى.. أن بلادنا ليست هبة من النيل فقط، فالمتوسط له تأثير عميق وساحر على كل حياتنا، والبحر يأخذنا بغموضه وما يحمله من حلم متجدد لحياة جديدة.
وشغلتنى تلك القضية إلى أن برقت الفكرة فى عقلى ووجدانى، فالبحار مثل الأنهار تأثيرها متغير وخلاق، وتساءلت هل للبحار ثقافة وروح، وهل استطاعت شعوب المتوسط الفقيرة تذويب الفوارق بين الأغنياء والفقراء وكانت الإجابة نابعة من فكرة الأوليمبياد نفسها.
وسبقنى إليها باشا مصرى منذ 50 عاماً بفكرة خلاقة نافذة ومبتكرة عاشت 50 عاماً وتكررت كل 4 أعوام ولم يهزها تغيير، تفاعل معها الجميع شباباً وشيوخاً، أغنياء وفقراء، واستمرت وعاش محمد طاهر الذى أطلقها فى وجدان من يعرف، ومن لا يعرف، فهو صاحب الحدث القديم والمتكرر.
أتوقف أولاً.. أمام ما حدث فى تونس منذ بداية سبتمبر وحتى منتصفه، بهرتنى جدية التونسيين، فقد أخذوا أوليمبياد البحر الأبيض المتوسط بالجدية التامة، فأقاموا البنية الأساسية الكاملة، ملاعب حديثة، تنطق بالفخامة وتعلى من قيمة الإنسان وتبرز دور الشباب وحيويته من خلال التنظيم الدقيق، بل إن مدينة تونس أعيد تجديدها، وصيانة معالمها.
أقف فى وسط المدينة العتيقة مطلاً على شارعها الرئيسى، المعروف باسم مؤسس الجمهورية الحبيب بورقيبة، وأمام ساحة 7 نوفمبر التى كانت لحظة انطلاق الجمهورية الثانية والتى جددت شبابها الأول وبعث النهضة والاستقرار فيها بن على ففى أول الشارع تشعر بأنك فى شارع أوروبى، تصدح الموسيقى الشرقية فى كل أرجائه والشباب العربى والأوروبى من أبناء المتوسط يتكلمون بلغة العصر ويتفاهمون بإشارات التغيير ومواكبة التطور، يعقدون مؤتمراً دائماً فى كل أرجائه يتحدثون عن الميداليات والمنافسات بروح حية ومتجددة تشعرك بأنك فى محيط متكامل فضاء حقيقى يشغل ويتطور، لغة الشباب وحديثهم، وطموحاتهم تملأ المكان، شباب يتجاوز حتى ما حققه وما يراه، فالتونسيون يتجاوزون ما يتحقق فى بلادهم فلا تبهرهم معدلات التنمية 5 المستمرة والتى لا تتوقف، أو أن مستوى المعيشة ينمو، والاستقرار السياسى والاقتصادى يمكن تونس من أن ترتقى فى مجال التنمية البشرية، وتصنع طبقة وسطى عريضة 80 من الشعب، والاهتمامات تتنوع، بل إن الشباب التونسى لا يذكر أن بلاده الموجودة فى المنطقة العربية فى قلب المغرب العربى، قد استطاعت أن تنجو من الصراعات والاضطرابات الإقليمية والتى لم يستطع أشقاؤهم أو جيرانهم فى المغرب العربى أو الشام أو حتى فى الخليج العربى الغنى وأرض النهرين، أن يتجاوزه، فالتوانسة يتصورون أن ما تحقق كان طبيعياً أن يحدث، ويفكرون فى التطور والتغيير السريع، ولكن لا يساورنى الشك فى أنهم يحسون بما يحدث ونتاج شعورهم هو تقديرهم البالغ للقيادة السياسية وبالرغم من ذلك فهم يتطلعون للمستقبل، ويقارنون بلادهم بالأوروبيين، ويريدون أن يركبوا قطاراً يصل بهم إلى مصر أو الشام وحتى الخليج، مثل الأوروبى الذى يتحرك فى أرجاء قارته براً وبحراً وجواً بلا عوائق إدارية أو غياب المواصلات والبنية الأساسية.
إذا كان التونسى يتطور على النمط والطريق الأوروبى فإنك تلمس بوضوح وكثافة اعتزازه بهويته العربية والإسلامية عن طريق اللغة العربية التى تزيد مساحة استخدامها وإنشاء المساجد الجديدة وصيانة القديم منها والحفاظ عليه، كل ذلك يتم بلا تزيد، بل بجدية تستحق الاحترام والتقدير للحكومة ولرجل الشارع. تلك هى تونس.
أما عن الأوليمبياد فقد استطاع التوانسة إحياء روح هذه الرياضة النبيلة، وسبروا غور المنافسة الشريفة لكى يطرحوا على عالمنا فكرة وروح المتوسط ثقافياً وسياسياً ولأول مرة أجد أنه بعد 50 عاماً على انطلاق هذه البطولة، فإن التونسيين أعادوا اكتشاف الهدف مع الألفية الجديدة، فإن المنافسة مع الشباب، وإن كانت غاية فى حد ذاتها للوصول إلى الألفة وبناء الشعوب، فهى فى حقيقتها وسيلة للتعبير عن المحيط المتوسطى، الذى له ثقافة متغيرة وارتباطاته تجعل من الشعوب وحدة متكاملة، حتى تحقق الرياضة أهدافها، فالرياضة الصحيحة نتاج مجتمع صحى متقدم اقتصادياً وله دور سياسى يعيش فى بلد يحترم حقوق الإنسان المعيشية والاقتصادية ويفتح له الآفاق السياسية فيتيح له حقوق أن يقول رأيه ويشارك سياسياً ويختار حكامه بل حريته، وعبر مؤسسات ديمقراطية تلك هى سنن التقدم، ولا يمكن تجزئتها أو قسمتها، فالحقوق واحدة، وإذا حصل عليها فيجب أن يكملها ولا ينسحب من وسط الطريق.
روح المتوسط .. تترجم الآن فى التعاون الاقتصادى داخل تجمع دول برشلونة وبين اتفاقيات الشراكة بين دول المتوسط والاتحاد الأوروبى اكتشف الأوروبيون بعد 50 عاماً أن الرفاهية لا تتجزأ، فلا يمكن أن تعيش شعوبنا فى شمال المتوسط فى مستوى معيشة متقدم، ونظام سياسى حر، بينما دول جنوب المتوسط تعيش فى فوضى وتناحر سياسى وتأخر اقتصادى وغياب مؤسسى واليوم تتغير شعوب المتوسط وتنطلق نحو النمو الاقتصادى والاجتماعى والتطور السياسى.
فرحة المتوسط، كانت شعار دورة تونس 2001 وسمتها المنافسات الرياضية والركض للفوز بالميداليات والسعادة الغامرة لحظة التتويج وارتفاع علم بلادك فى صورة مشرفة للتحضر والنمو وهى صورة الرياضة التى يجب أن تتحلى بالقيم الخلقية وتتخلص من التعصب، فتلك تخلق ثقافة الفوز، وتلك الثقافة نحن فى حاجة ماسة إليها ليس فى الرياضة فقط، لكن فى كل مناحى الحياة والفوز لن يأتى للمتقاعسين ولكن للعاملين الذين يعرقون، مثلما يأتى للرياضيين الذين يعرقون فى الملعب، ويتحلون بالقيم الخلقية الرفيعة.
الاحتكاك بين لاعبى أوربا المتوسط وآسيا وإفريقيا المتوسط يخلق لغة وحواراً مشتركاً واحتكاكاً بين قيم سبقت وقيم تحاول اللحاق بها. إن اكتشاف تونس لروح المتوسط ذكرنى بالباشا المصرى رئيس اللجنة الأوليمبية فى الأربعينيات وأدركت خطورة الفكرة ونضجها، وأن الفكرة المبتكرة المبدعة الصائبة تعيش عبر الزمن بل تهزم الأىام والسنين باستمرارها وتقدمها وتجد دائماً من يطورها وينميها ويبعثها جديدة ومؤثرة.
دورة المتوسط، عاشت 50 عاماً بلا انقطاع فانطلقت إلى الإسكندرية 51، ثم إلى برشلونة 1923 ثم بيروت 1959، ثم نابولى 1963، ثم تونس 1967، ثم أزمير فى تركيا 1971، ثم حطت فى الجزائر 1975، ثم عاد إلى أوروبا فى دورة سيلين فى يوغوسلافيا 79، ثم عادت إلى إفريقيا فى الدار البيضاء فى المغرب 1983، ثم سافرت إلى اللاذقية فى الساحل السورى 1987، ثم عادت إلى أوروبا فى أثينا 1991، ثم احتضنها الساحل الفرنسى فى إقليم لونج دوك 1993، ثم استمرت فى أوروبا فى بارى فى إيطاليا فى 1997، ثم عادت مع الألفية الجديدة إلى الساحل الإفريقى فى تونس الخضراء 2001، لتبعث فى المتوسط روح جديدة معلنة للعالم انتبهوا فالمتوسط قادم على كل صعيد.
ولا يفوتنى أن أذكر أن المتوسط يجمع بين الشرق والغرب، وإذا كان المتوسط ليس هوية واحدة، فهو ثقافة واحدة ولا تعوزه اللغة المشتركة فى عصر التنوع.
ولايفوتنى أن أذكر أن قيم المتوسط وثقافته ستصنع تميزه وتجدد دوره.
شكراً للباشا المصرى الذى وضع البذور ونمت الفكرة وترعرعت حتى ولو بعد 50 عاماً.