مقالات الأهرام العربى

المبادرة الذكية

أعتقد أن المبادرة المصرية ـ الأردنية لإحياء عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد سبعة أشهر من الانتفاضة، قد حققت أهدافها. فقد كشفت قدرة الدبلوماسية العربية على الحركة وسط الأجواء الصعبة، وبين توترات إقليمية وأجواء ضبابية تجعل الرؤية غير واضحة، فالحكومة الموجودة فى إسرائيل برئاسة آرييل شارون ليست مهتمة بعملية التفاوض ورؤيتها قاصرة لمستقبل بلادها، ولذلك فهى حكومة لا تستطيع الحركة صوب الاتجاهات الصحيحة لتحقيق الأمن والاستقرار، كما أنها حكومة جاءت من الزمن الماضى، ولعجز هذه الحكومة وقصورها، فإنها كانت تحتاج إلى حركة عربية دءوب لكشف عجزها وتعرّىة قدرتها، وإبراز تطرفها أمام الرأى العام العالمى، خاصة الأمريكى، بالإضافة إلى الرأى العام داخل إسرائيل، الذى ˜لخبطتŒ الانتفاضة وثورة الشعب الفلسطينى اتجاهاته، وشلت تفكيره، وجعلته متخبطا، فتصور أن ملاذه وإنقاذه فى أقصى اليمين، فأخرج طلقته الأخيرة، شارون لتكشف وتعرى المسرح السياسى الإسرائيلى، الذى يمر بمأزق حقيقى تكشفه هذه الحكومة العاجزة، التى قطباها شارون وبيريز فى خريف عمريهما، وفى الهزيع الأخير لمستقبلهما السياسى. قطبان مختلفان، ويناوران معا، وليست بينهما إلا مصلحة شخصية واحدة هى المحافظة على وجودهما السياسى وتصدرهما للمسرح، وهى مصلحة بالقطع لا تحقق أهدافا سياسية لمجتمعهما، وتصل بهما سريعا إلى الفشل، بالرغم من التقاء هدفهما الشخصى، فإن كليهما لا يريد للآخر نجاحا، مع اختلافهما الجذرى، فأى سياسة ستنجح، وكلا القطبين يتمنى الفشل للآخر؟

وجاءت المبادرة المصرية ـ الأردنية كسياسة ذكية حصلت على التأييد العالمى والرغبة الأمريكية فى أن تجىء الحركة من الداخل الإقليمى، لتعيد التفاوض إلى الصدارة، بعد أن احتل العنف الإسرائيلى المسرح، وظهر كأنه يهدم سنوات البناء السلمى الممتد منذ ثمانى سنوات، وظهر المتفاوضون وكأنهم يحركون آخر ما يملكون، ويفجرون كل عناصر الكراهية والحقد البغيض بين الطرفين، بعد أن ظن بعضهم أن سنوات التفاوض قد أذابت الجليد، فإذا بالحائط الإسرائيلى الجديد يأتى كحائط أسمنتى صلب، للعنف يكشف عن الوجه العنصرى للصراع الإسرائيلى. فإذا بالمبادرة المصرية ـ الأردنية، تثبت للعالم إقليميا وعالميا أن خيار السلام الإستراتيجى حقيقة لا خداعا، وأنه حرب حقيقية على التطرف وصناع الحروب.

فالمبادرة جاءت كصوت مدوٍ يكشف المتطرفين على الجانبين، ويجب أن يكون مفهوما أن رغبة مصر والأردن فى التفاوض، ليس من أجل التفاوض، فهو ليس غاية فى حد ذاته، لكنه التفاوض الإيجابى، الذى يجب أن يصل إلى الحل، ولا يترك الحبل على الغارب، لكى يصبح التفاوض بمثابة المسكن لآلام الصراع، فطالبت المبادرة بضرورة وجود جدول زمنى محدد واضح، للعودة إلى التفاوض من النقطة الأخيرة، فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، يجب أن تحترم تعاهداتها واتفاقاتها، وأن تسلم الحكومة الأخيرة، بكل ما تحقق على أرض التفاوض من الحكومة السابقة عليها، وإلا تحولت المفاوضات إلى عملية عبثية لا طائل من ورائها، بل إن هذا الأسلوب من العمل السياسى سوف يمكن التطرف من فرض إرادته على المتفاوضين وتفريغ العملية السياسية الدائرة بين الأطراف المختلفة من مضمونها، لنعود جميعا إلى حالة من الصراع والحروب التى لا تنتهى.

كما أن عملية التفاوض ليس سياسة متروكة للمتفاوضين وحدهما، فهى مرتبطة بمرجعيات دولية واتفاقيات سابقة مرورا بقرارات الأمم المتحدة ومرجعية مدريد واتفاقيات أوسلو، بل التزاما بالمعاهدة أو الورقة الثانية التى وقعها بيجين مع السادات عند توقيع أول اتفاقية للسلام العربى ـ الإسرائيلى عام 1979 كل هذه الاتفاقيات تسلم بالأرض مقابل السلام، ويجب أن تحترم إرادة الشعب الفلسطينى الذى قبل بالسلام مع إسرائيل مقابل الحصول على دولة فلسطينية مستقلة على الأراضى التى كانت محتلة قبل 1967 مع القبول بعودة فلسطينى الشتات إلى الدولة المستقلة الجديدة واحترام حقوقها الدولية وسيادتها على أراضيها وحرية شعبها فى الاستقلال، ومن الضرورى احترام المرجعيات السابقة عليها، ومن الضرورى أيضا العودة إليها عند التفاوض، عقب صدور قرارات الأمم المتحدة بالتقسيم عام 1947، وقيام دولتين فى الأراضى الفلسطينية واحدة لليهود، والثانية للفلسطينيين.

لقد نجحت المبادرة المصرية ـ الأردنية فى كشف المتطرفين وأعداء السلام وأعادت إلى المنطقة هدوءها، وأشارت إلى أن العقلاء مازالوا يتدبرون الأمر، ولعل أهم ما حققته أنها تحمى حق الشعب الفلسطينى فى الحفاظ على مؤسساته الوطنية، التى قامت عقب قيام السلطة الفلسطينية وعودتها إلى غزة والضفة وإدارة الأراضى المحررة، والتى كشفت الانتفاضة وقوة المقاومة الفلسطينية عن عدم قدرة إسرائيل على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه عقب احتلالها قطاع غزة بالدبابات وجنود المشاة، وفشلها تماما فى الاحتفاظ بالأرض وإجبارها على الانسحاب المفاجىء، معترفة لأول مرة بعجز القوة ـ رغم جبروتها ـ لعودة الأمور إلى الماضى قبل بدء العملية السلمية، ولم تنجح إسرائيل إلا فى تدمير الأشجار والمنازل وتعرية العسكرية الإسرائيلية أمام نفسها وأمام العالم.

ومن المؤكد أن الشعب الإسرائيلى أصبح يفهم الآن أن الفلسطينيين فائزون ومعاناتهم تسلب إسرائيل جوهرها المعنوى، وكلما تصرفت إسرائيل باعتبارها قوة غاشمة وظالمة، ومضطهدة للفلسطينيين، سيكون من المستحيل الحفاظ على الدولة اليهودية فى قلب العالم العربى.

وسيكتشف الإسرائيليون أن اليمين والمتطرفين غرروا بهم وجذبوهم إلى الطريق الذى سيكون فيه هلاك دولتهم وضياع مستقبلها.

الأهم بالنسبة للفلسطينيين التمسك بالسلام مع رفضهم للعنف، وألا تجرفهم روح الصراع فيخلخلون دولتهم الوليدة، ويسلمون قيادتها للتطرف، وليفرقوا بوضوح بين حقهم فى رفض الاحتلال، ونزوعهم إلى الاستقلال وإظهار قدرتهم على مقاومة العدوان، وبين التحلل الداخلى والتنافس على الزعامات الوهمية، وليعرفوا جيدا أنهم يقامون عدوا يريد اقتلاعهم من جذورهم وتمزيقهم من الداخل، وأن أسهل طريق إلى ذلك هو تأجيج الصراعات وإظهار التفاوض والعلمية السلمية على أنها تسليم أو استسلام، ليدب الفساد فى الوسط الفلسطينى لتحمل الراية قوى التطرف، وهى قوة بلا عقل أو رؤية وتعميها حماستها عن رؤية الواقع، وتدفعها إلى هلاك حقيقى وتمزيق للكيان الفلسطينى الوليد.

أما العرب فإن ظروفهم أصعب، وهم فى حاجة إلى التماسك، ورفع درجة التنسيق وممارسة الضغط على المجتمع الدولى، خاصة الولايات المتحدة لتلعب دورها، لأن الجريمة التى ترتكبها إسرائيل فى المنطقة، فإن أمريكا شريكة لها.

ويجب على الولايات المتحدة أن تردع إسرائيل، خاصة بعد أن حققت على كل أهدافها، وأصبحت دولة فى الشرق الأوسط تحظى بالاعتراف الإقليمى، لكنها الآن تعربد فى المنطقة مستغلة الغياب الأمريكى، وبالقطع فإن هذا الوضع المؤلم فى المنطقة سيكون له ثمن فادح وستدفعه أمريكا وإسرائيل معا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى