مؤامرة التطرف

فى الوقت الذى تعيش فيه إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش أسيرة لرفضها سياسة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، لانغماسه فى قضية السلام العربى ـ الإسرائيلى، بما استوجب منه زيارات متتابعة إلى المنطقة وخطابه فى المجلس الوطنى الفلسطينى فى غزة، ثم أخيرا مقترحاته فى كامب ديفيد الثانية التى تعرضت لتفاصيل دقيقة، ومقترحات عملية وجريئة تتصور الإدارة الأمريكية الحالية أنها لا تستطيع أن تقدم أكثر مما قدمت الإدارة السابقة عليها. وبالرغم من ذلك فإن ما قدم لا يرقى إلى مستوى قبول الطرفين، بما يعنى أن العرب والإسرائيليين غير مؤهلين للسلام، وترى إدارة بوش أن المنطقة غير ناضجة لعملية السلام، وتُحمل الرئيس عرفات مسئولية فشل عملية السلام، والتوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين، ولذلك تركت الإدارة الأمريكية المنطقة لكى تؤهلها إسرائيل بطريقتها الخاصة، وإسرائيل تلجأ إلى أساليب جديدة للتأهيل، لعل أهمها، تغيير الأوضاع على الأرض الفلسطينية، وإعادة احتلال الأراضى المحدودة التى تحت السيادة الفلسطينية، مع اغتيال القيادات الفلسطينية الفاعلة سواء من السلطة أم المعارضة، وتفكيك السلطة الفلسطينية التى استغرق بناؤها أكثر من 10 سنوات، وبتكلفة كبيرة دفعها الفلسطينيون من دمائهم ورغبتهم فى الاستقلال، والخروج من المخيمات والشتات.
وكأنما الصورة تكشف عن دوافع إسرائيلية لذبح الفلسطينيين وإهدار فرصتهم فى السلام والاستقرار وإقامة الدولة، فتحالفت الأحزاب الإسرائيلية، للهروب من الالتزامات الدولية، وتغيير خريطة الشرق الأوسط، وإعادة التطرف لكى يحكم الساحة، فدبرت إسرائيل وأجهزتها الأمنية والعسكرية الخفية مؤامرة، لم تكشف بعد، رأينا فصولها تتابع زيارة شارون إلى الأقصى، واستقالة باراك، وإجراء انتخابات إسرائيلية، ثم حكومة تضم كل ألوان الطيف الإسرائيلية برئاسة شارون لتغيير كل الأوضاع، وبدلا من الحديث حول الانسحابات الإسرائيلية المتتابعة لتنفيذ الاتفاقيات المبرمة، واعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية، تفجرت الأوضاع داخل فلسطين والأراضى المحتلة وخرج الشعب الفلسطينى غير المسلح، لكى يطالب بحقوقه وحريته فى الاستقلال، واستغل المسلحون والمتطرفون ورافضو عملية السلام الدائرة لكى يلتهموا طبق السلام الذى لم ينضج بعد.
وكان صعود اليمين الإسرائيلى وشارون فرصة ذهبية لقوى التطرف لكى تقلب الأوضاع على الفلسطينيين فى المجتمع الدولى، شارحين لأمريكا ولأوروبا وللعالم، أن العرب والفلسطينيين لا يمكن التعامل معهم إلا بالاقوة والقمع.
وحصلت إسرائيل على صكوك أمريكية وعالمية لقمع الفلسطينيين.. وهكذا، اشتعل الشرق الأوسط من جديد، وليس فلسطين فقط، وهكذا تجر إسرائيل المنطقة إلى كارثة حقيقية، فالحرب داخل فلسطين لا يمكن أن تستمر داخل فلسطين فقط، وهذا ما يجب أن تفهمه أمريكا، حيث إن تداعى المسئولية الأمريكية وتوقفها سيؤدى إلى انهيار إقليمى لن تملك أمريكا أن تتلافاه فى الوقت المناسب الذى تقرر فيه التدخل.
الموقف الآن داخل الأراضى الفلسطينية والعدوان الإسرائيلى خطير وصعب، وهذا ليس كلاما للتوصيف، لكن للتوقف ودراسة هذا الوضع للخروج منه، ولا يمكن أن نخرج منه الآن بما نطلقه من شعارات وعودة اللهجات الخطابية غير الواقعية أو نطلق العنان للقوى المتطرفة لأن تحكم المنطقة، لكن العقل يجب أن يحتل الأولوية فى هذه المرحلة الراهنة.
البعض يجر المنطقة كلها إلى الحروب أو إلى الفوضى، وهو خطر يجب أن يتوقف، نحن جزء من العالم، ويجب أن نتعلم كيف نخاطب العالم بلغته ونكسبه لقضيتنا.
لا نتحدث عن قوى الضعف والتطرف وانعدام الرؤية التى تطل برأسها الآن مستغلة العدوان الإسرائيلى لكى تهيل كل التراب على مرحلة السلام والتفاوض.
يجب ألا يجرفنا العدوان الإسرائيلى والمؤامرة التى دبرت للتهرب من الالتزامات الدولية، لكى نقع فريسة لأخطائنا ونكرر خطأ الفرص الضائعة منذ عام 1948 حتى الآن.
ويجب أن تكون هناك إستراتيجية واضحة فى التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة.
والتحرك العربى الآن يجب أن يكون صوب إعادة الولايات المتحدة لتلعب الدور الرئيسى فى قضية السلام المعروضة بين الإسرائيليين والفلسطينيين لخطورة الموقف وتأثيره على مستقبل المنطقة ككل، فنحن لا نعيش، ويجب أن نعترف بكل صراحة، فى منطقة مستقرة، لكنها منطقة يعشش فيها التطرف والإرهاب الذى يستغل العدوان الإسرائيلى، وتعنته ضد الشعب الفلسطينى، لكى يطل برأسه ويقدم نفسه كبديل طبيعى لقيادة المنطقة، بعد فشل قياداتها فى الحرب وفى السلام، وهذا هو الحل المميت للجميع وللمنطقة.
يجب أن يكون مفهوما أن محاصرة المشروع الصهيونى لن تكون بالحرب، لكن بالسلام وبإقامة معاهدات سلمية مع كل الأطراف تجبر التطرف الإسرائيلى لكى يعيش فى حدود معروفة ويعترف بحق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم، ويعود اللاجئون ليعيشوا حياة طبيعية بدلا من المخيمات والشتات، والفلسطينيون لا يستطيعون أن ينتظروا أكثر من هذا، خاصة أن دولتهم أصبحت فى مرمى البصر.
إن وقفتنا فى الدفاع عن الفلسطينيين وحماية انتفاضتهم السلمية الحرة يجب أن تدفعنا إلى رفض المؤامرة التى تحوكها لنا إسرائيل، وهى جر الفلسطينيين إلى صراع لا ينتهى، يجر المنطقة كلها إلى التوتر والحروب، تخدم مشروع المتطرفين، وتمكّن إسرائيل من التهرب من الالتزامات الدولية التى حصل عليها الفلسطينيون بعد جلوس الطرفين على مائدة التفاوض.