الخروج من الأحزان

أحداث داخلية، عكست صورة عالمية، مما يعنى وحدة وتشابك ما يحدث فى عالمنا المعاصر من وحدة عضوية وتأثيرات متتابعة.
ففى الحادث الأول الذى أشغلت مصر والعالم، وهو حادث سقوط طائرة مصر للطيران القادمة من نيويورك إلى القاهرة. وقد سقطت فى المحيط الأطلسى فيما يعرف بمثلث الموت الجديد، وراح ضحيتها شخصا، من الضحايا الأبرياء، من المصريين والأجانب.
أما الحادث الثانى فقد كان خاصا بالاضطرابات العمالية للعاملين المصريين فى الكويت، التى نجمت عنها خسائر مادية كبيرة، وجاءت نتيجة حادث فردى وفع فى منطقة خيطان، ولكنه كشف عن أخطاء داخلية، أمكن تجاوزها بفضل حكمة السياسيين فى الكويت ومصر، والتعاون المثمر بين وزيرى الخارجية فى البلدين.
أما الحادث الثالث. الذى نشير إليه هنا، فهو السحابة السوداء التى غطت القاهرة وبعض مدن الجمهورية، نتيجة كثافة التلوث، وأسلوبنا فى التعامل مع البيئة والحرائق المشتعلة فى مزارعنا والدخان فى شوارعنا، والفساد فى التعامل مع قضايانا الصغيرة، الذى نتجت عنه أزمات كبيرة.
فالحادث الأول جاء قضاء وقدرا، ومازلنا فى انتظار نتائج التحقيقات ، حتى يمكن التعرف على أبعاده بالكامل، وخطورته على مستقبل الشركة الوطنية، ولكنه كارثة بكل المعايير، ولا يمكن التقليل من شأنها أو التهاون مع أبعادها ورغم عدم معرفتنا بالأسباب التى أدت إلى هذا الحادث، فإن الشركة الوطنية فى حاجة إلى ثورة داخلية كبيرة تعيد الرشاقة والقوة والمستقبل لها، فلا يمكن فى زمن التغيير والتطور أن تتوقف رؤيتنا عند الحدود الحالية، كما أن الحادث رغم خطورته لا يمكن أن يقلل من وزن مصر للطيران الإقليمى والدولى، فهو قوى ومتميز، كما لا يمكن التقليل من زن مصر للطيران فى السنوات الماضية استطاعت أن تطور أسطولها الجوى، وأن تملك الطائرات الحديثة، وأن تنافس إقليميا، وتملك أسطول نقل قويا يغطى الشرق الأوسط وأوروبا، ووصل إلى أمريكا، وحقق نجاحا كبيرا، لكن الموقف الحالى يدعونا إلى التطوير واستيعاب الأشكال الحديثة للشركات الكبرى، فهى شركات يجب أن تكون شركات مساهمة وقوية، وأن تطرح أسهمها فى البورصة وأن تكون الملكية العامة الكبيرة للمصريين، وأن تكون للشركة جمعية عمومية قوية تمثل فعاليات الوطن وقواه الحية والفعالة من الشركات و البنوك الكبرى، بل ورجال الأعمال والمجموعات المالية التى أثبتت قدرة وفاعلية فى أسواقنا المحلية والخارجية، فعندما تكون شركتنا الوطنية الكبرى للنقل والطيران بمثل هذا الوزن والقوة، ستملك السيولة المالية، وقوة النفوذ المالى للتوسع والنمو والانضباط فى المواعيد والقدرة على المنافسة فى هذا العالم المتشابك والقوى ذى الأسواق الصعبة والكبيرة.
كارثة مصر للطيران، لم تمنع كل المراقبين من الإشادة بسجل الشركة المشرف فى مجال الأمان وسلامة الطيران والسمعة الدولية، والشهادات التى حصلت عليها من منظمات الطيران العالمية، كلها تؤكد على قدرة الطيارين المصريين وكفاءتهم العالية، لكن الجميع رصدوا ضعف الشركة فى انتظام الخطوط والمواعيد ونقص بعض خدماتها للركاب.
كارثة مصر للطيران أصابت المجتمع كله بالحزن والخوف من المستقبل، وسوف نحتاج فى المرحلة القادمة إلى بعث الثقة وزيادة كفاءة الإدارة وفعاليتها وتحكمها، وأن يكون المقياس عالميا، والقدرة على المنافسة متزايدة.
حادث كبير كهذا يستلزم تغييرا كبيرا وثورة إدارية شاملة، وتطورا هائلا، وأعتقد أن الإدارة الحالية بما تملكه من خبرة طويلة وقدرة وسمعة محلية ودولية متميزة، قادرة على مجابهة المستقبل بمعاييره، وبدون خوف أو تردد، وتجاوز السلبيات، وتقديم الشركة بصورة جديدة ومتغيرة، كما أن الشركة فى حاجة إلى زيادة قدرتها المالية وإعادة توظيفها فى خدمة عملائها، وزيادة قدرتها التنافسية.
الحادث الثانى. وهو التوتر الذى شهدته الكويت نتيجة أعمال العنف التى اشتعلت فى حى خيطان جنوب العاصمة الكويتية، وهذا الحى معروف بأنه حى الفقراء والعمالة اليدوية، ورغم سطحية السبب الذى فجر هذه الأحداث، وهى ما عرفت باسم أحداث الصحن فالسبب المباشر تافه بكل المقاييس، لكنه يحمل فى طياته ظروفا معيشية صعبة يعيشها هؤلاء العمال المساكين الذين بسبب ضعف الأجور وارتفاع تكلفة المعيشة، فى نفس الوقت هم ضحية مستمرة لسوء الأوضاع العربية فى التعامل مع العمالة الوافدة، وأبرزها تجار الإقامات، الذين يفرضون الإتاوات ويعرضون العمال إلى أقسى أنواع الظروف، التى تخفى فى طياتها عودة إلى أيام السخرة، والخطأ هنا يقع على الطرفين فى البلدين، سواء الذين سمحوا بهجرة العمال بدون قيود أو تنظيم أو تدريب، أو حماية ورعاية، فتعرضوا لظروف صعبة، وشكلوا تجمعات عمالية يتم استنزافها بعيدا عن أوطانها، ولعل هذه الحادثة تدق ناقوس الخطر للحكومة فى مصر، حتى تقوم بتنظيم ورعاية المصريين فى الخارج، وفى نفس الوقت للكويت، التى يجب أن تحمى هؤلاء العمال وتُحَسِّن من ظروف معيشتهم، ولا يكون التنظيم على حساب الفقراء وحماية السماسرة وتجار الإقامات أصحاب النفوذ الكبير.
أما الحادث الثالث. وهو السحابة السوداء التى ظلت عالقة فى سماء القاهرة، مشيرة إلى العبث فى البيئة وسوء استخدامها من الإنسان، وأيا كان السبب، سواء كان كامنا فى قش الأرز أم فى السيارات وحرائق الغيطان ودخان الشوارع، التى تحولت إلى جراجات أم فوضى المرور وسيارات السرفيس وزحام المدن الذى يعوق الحركة وحرائق القمائن، والورش والمصانع التى تضخ مخلفاتها فى الشارع والنيل، فلوثت الماء والهواء، فإن السحابة السوداء هى ناقوس خطر، ومؤشر خطيئة جاء فى وقته يقدم للحكومة رمزا للفوضى والفساد، وعبث الإنسان بالموارد الطبيعية لكى يحطمها على رأسه ورأس الأجيال القادمة.
خطر السحابة السوداء ينذرنا ويحذرنا من الفوضى والإهمال والفساد وغياب القانون وعدم القدرة على تنفيذه لضبط الحياة وحماية الموارد، فى حدها الأدنى.
إنه خطر على الجميع، وتأثيره على الصحة يعادل تأثيره على الاستثمار والسياحة، هذه السحابة تهدد كل أعمالنا، فهى مؤشر مخيف للمستقبل، وعدم الانتباه إليه ومعالجته ومواجهة المفسدين ستجعل حياتنا صعبة، ومستقبلنا مخيفا، وعلينا الانتباه، فهذه الأحداث الثلاثة كبيرة فى معانيها ومضامينها، تدعونا إلى التغيير وبسرعة، فالحكومة عليها أن تعمل وتنقل النشاط الإنسانى فى إنتاج السلع والخدمات للشعب، وأن تتفرغ لدورها الذى غاب طويلا فى تنظيم المجتمع، ودفعه إلى الأمام وبنظام ، وفى ظل سيادة القانون، ودور فاعل للمؤسسات، فمصر بلد كبير ولا يتحمل العبث أو الفوضى أو غياب حكومة قوية وفعالة تشارك فى كل المجالات بكفاءة واقتدار وحرص على مستقبل وسلامة الشعب.