مَنْ يدين لمَنْ؟

لم تعد قضية الشرق الأوسط قضية محلية أو إقليمية فحسب، بل أصبحت قضية عالمية، ليس بحكم الجغرافيا والتاريخ فقط، لكن أيضا باعتبارها الآن بؤرة الأحداث، وتحظى مسألة الاستقرار والأمن فيها بنصيب الأسد من القضايا التى تشغل العالم أجمع.
صحيح أننا نحن أبناء المنطقة المستفيد الأكبر من الإصلاح والتغيير الذى يجرى الآن على قدم وساق، لكن النظام العالمى الجديد له نصيب لابأس به من عوامل ذلك الاستقرار، ولعل الدولة الكبرى فى ذلك النظام العالمى ـ أمريكا ـ تعتبر المستفيد الأكبر من استقرار هذا الإقليم لتأثيره على مجريات الأمور والسياسات العالمية، فضلا عن خصوصية المنطقة جغرافيا واقتصاديا.
وغنى عن القول تأثير منطقة الشرق الأوسط فى عالم الاقتصاد، لأنها تحتوى على المخزون العالمى للنفط بالإضافة إلى المخزون الثقافى والدينى والروحى الذى يمثل ضمير العالم والذى يفجر أنهار وروافد الإلهام، وفضلا عما سبق هى بؤرة المواصلات والاتصالات.
إن انضمام دول الشرق الأوسط إلى التطور العالمى والأسواق الحديثة لم يصبح الآن هدفا إقليمىا فقط، بل سياسة عالمية لا يمكن لأحد الفكاك منها، وأول هذه السياسات للاستقرار العالمى، هى إنجاح سياسة السلام بين شعوب الشرق الأوسط، وإتمام المصالحة التاريخية بين الشعوب القديمة فى عصرنا الراهن، ليس بين العرب والإسرائيليين فقط، لكن بين العرب والإسرائيليين والإيرانيين والأتراك، وأن يمتد التصالح إلى ما بين الشرق والغرب، ويقينى أن تكون تلك المصالحة طريقا للتغيير الاقتصادى ورفع مستوى معيشة شعوب المنطقة، حتى لا تظل فريسة التمييز العرقى والدينى والاضطهاد الموروث من الغرب، وأن يكون لهذه الدول دور ملموس فى حركة واستقرار نهضة العالم فى عصر انتهى فيه الصراع بين المذاهب والإستراتيجيات وأن تسهم شعوب الشرق الأوسط برصيدها ومخزونها الروحى والإنسانى والاقتصادى بفاعلية كجزء من موزاييك وسبيكة العالم فى النظام العالمى المستحدث.
تلك هى الاتجاهات العامة التى حكمت رواد التغيير فى النظام العالمى الراهن، الذين حلموا بوضع حد للصراعات السياسية والدينية بانتهاء الحرب الباردة، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن زعماء مصر وقادتها المعاصرين فى سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى الآن كانوا روادا مدركين للتغيرات السياسية والاقتصادية فى نظامنا العالمى، وساعدوا أمريكا وأوروبا، وحتى أكون أكثر تحديدا ساعدوا الاتجاهات العالمية للاستقرار والتغير عقب انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتى.
ولم يكن السادات ومبارك اللذان قادا مصر طوال هذه الفترة يضعان عينيهما على الاستفادة أو المساعدات الخارجية، بقدر ما كانت عيناهما على تحقيق الاستقرار الإقليمى وتهيئة شعوب الشرق الأوسط لعصر جديد.
فلم يقايض السادات النفوذ السوفيتى بالنفوذ الأمريكى، لكنه طرد الخبراء السوفيت فى مطلع السبعينيات دون انتظار لمقابل أمريكى أو غربى، وخاض حربا عسكرية فى 1973 معتمدا على إمكاناته العسكرية وروح جنوده ورغبتهم فى النصر وإثبات الوجود فى بيئة وأوضاع عالمية وعسكرية غير متكافئة، لكن القدرة الروحية وغنى الشعوب العربية بالكامل هزم غطرسة القوة والتكنولوجيا الإسرائيلية المدعومة بلا حدود من أمريكا حتى أصبح الصراع العربى ـ الإسرائيلى فى جزء كبير منه صراعا عربىا ـ أمريكىا، لكننا تحملنا أن نلوم أنفسنا، وأن نجلد ذواتنا على اعتبار أننا كعرب هزمنا إسرائيليا، فى حين أن المواجهة العربية ـ الإسرائيلية لم تكن فى حقيقتها مواجهة بين العرب والإسرائيليين، لكنها كانت مواجهة مع أمريكا والغرب، وثروات اليهود التى تتحكم فى أموال وإعلام العالم.
وفى هذه الأوضاع وتلك المقاييس فإن الصمود العربى فى مواجهة تلك القوى العاتية يصبح انتصارا عربيا مبهرا، والدلائل أمامكم كثيرة فالأخطاء العربية القاتلة وعدم وجود مؤسسات، أمام القوى العالمية المتحكمة بنفوذها وتكنولوجياتها وقدراتها المتجددة يضع العرب فى وضع غير متكافىء دائما، لكن الصحوة والقدرة على اتخاذ القرار الصعب التى ظهرت فى مصر والتكيف مع تلك المتغيرات أثبتت قدرة ومكانة الإنسان العربى المعاصر، وسوف تحسب له، لأنه استطاع أن يسبر غور الأشياء، ويصل إلى حقيقتها ويسير فى درب التغيير، ويسهم بفعل واع وفاهم فى إحداث النقلة التى تتناسب مع تلك الرؤية المتغيرة.
ودور الرئيس مبارك فى الحفاظ على استقرار النظام العربى عقب حرب الخليج فى التسعينيات ودوره فى مكافحة التطرف والإرهاب، واستقرار مصر وقيادة العرب نحو السلام الإقليمى فى قمة 96، يضع مكانته العالمية بقامة سامقة لا يستطيع أن يطاولها أحد، ومن هنا تصبح الإدعاءات حول الشرعية والمكانة والدور التى وردت على لسان فريدمان فى خطاب كلينتون المزعوم فى غير مكانه، وأنه خطاب أخطأ صاحبه، فمكانة الرئيس مبارك فى النظام المصرى والنظامين الإقليمى والعالمى المعاصرين تجعله فى موقع متفرد لم يصل إليه أحد، بل تجعله الشرعية الوحيدة القادرة على التغيير فى المنطقة، لذلك فالمطلوب منه كثير والآمال المعقودة عليه أصبحت فوق الطاقة.
ومن هنا فلا يجب أن نقول له مَنْ مدين لمَنْ، فالجميع مدينون للرئيس مبارك، نحن فى مصر نقدر أنه يقود معركة صعبة للإصلاح الاقتصادى والنمو الخروج منها يحتاج إلى بنية بشرية واقتصادية غير موجودة بالدرجة الكافية التى تناسب طموحاتنا وتطلعاتنا.
نقدر له سعيه الحثيث إلى الإصلاح السياسى وإطلاقة الحريات وزيادة دور وفاعلية المؤسسات، وتحقيق التوازن بين حماية مصر من الفوضى والتطرف، وإطلاق الحريات السياسية ونعرف تماما أنه يقودنا إلى ديمقراطية حرة بالمقاييس العالمية، لكنها تحتاج إلى بنية سياسية وبشرية غير متوافرة، تحتاج إلى فرص وإمكانات هائلة حتى نجتاز ظروفنا الصعبة.
أما إقليميا وعربيا فعندما نتحدث، نقول بلا حرج أو حساسية أو مبالغة. إن الدور المصرى يسعى إلى السلام العادل على كل الأصعدة، ولا يبغى سلاما على حساب الضعفاء، فيقود المنطقة إلى الوراء أميالا، بعد أن خطت إلى الأمام أمتارا، هذا السلام يراعى مصالح الجميع، الإسرائيليين قبل العرب، لذا حظى الرئيس مبارك بثقة الجماعات العاقلة وغير المتطرفة فى الشرق والغرب، وأصبح واجبا علينا أن ندعو له بأن يحميه الله تعالى من أصدقائه قبل أعدائه من المتطرفين، ومن يشايعهم فى كل اتجاه.
هل مازال السؤال مَنْ مدين لمَنْ قائما؟ أعتقد أن الرئيس مبارك إذا طالب بديونه أو حقوقه ستكون كبيرة على كل صعيد.