يجب ألاّ نلوم إلاِّ أنفسنا

أنظر دائما ـ منذ الإعلان عن قيام تجمع إعلان دمشق فى 91 عقب حرب الخليج الثانية ـ إلى تكون لوبى عربى مناوىء لاحتلال الكويت، وساع إلى تحريرها، محافظة على استقرار هذه الدولة العربية بشكلها الراهن، ومنع انهيار المنطقة والنظام العربى كما عرفناه طوال القرن العشرين، حتى لو تحقق هذا الهدف بتلقين العراق ـ إحدى دول أركان النظام العربى ـ درسا قاسيا بالتعاون مع المجتمع الدولى، وأن هذا الإعلان جاء كاعتذار من الدول العربية التى اجتمعت داخله، أو رد ـ لنكون أكثر تحديدا ـ على التفكك العربى الذى نشأ عقب هذا الحدث الجلل، والذى ـ رغم مرور أكثر من عقد كامل على أحداثه ـ مازال محورا للأحداث العربية، وظل أثرا واضحا على تكريس الانقسامات العربية، فالعراق أصبح أزمة تضاف إلى قوائم أزماتنا. وحصاره أصبح نقمة توجع الضمير العربى. وتغذى التطرف. وتفتح أبواب المخاوف الشخصية العربية. وتكبح جماح تطلعاتها للدخول إلى العصر الجديد. وتمنع تحركات وسياسات كثيرة تموج بها المنطقة العربية للخروج من الأزمة.
ولعلنا نكون أكثر تحديدا فنشير إلى أن العقل العربى ينظر إلى الأزمة العراقية وفى داخله شك ـ يرتقى إلى مرتبة اليقين ـ فى كل مساعى السلام العربى ـ الإسرائيلى، الرامية إلى إيجاد حل فى تلك المنطقة. ثم يرى تكريسا للأزمة فى منطقة أخرى، وتأثيرها فى معاناة شعب وموت أمة، ويستخلص نتيجة مؤداها أن هناك اتجاهات لرهن الشعب العراقى وتأجيج أزمته، حتى يمكن المقايضة فى بعض النقاط الحيوية فى أزمة الصراع العربى ـ الإسرائيلى، من هنا يجب حل أزمة الشعب العراقى، لكى نخفف الضغوط على ضميرنا الوطنى، ونوقف زحف عناصر التطرف البغيضة التى لن تتوقف جهودها الحثيثة لتأليب الشعوب العربية وجرها للاصطدام بالحلول السلمية التى ترفضها، باستخدام أزمة مثالية وحقيقية وهى أزمة الشعب العراقى.
أمام الظروف الصعبة والمخاوف المستحكمة، من الممكن للعرب المقايضة والقبول بما لا يمكن قبوله فى خطوات الحل النهائى بين العرب والإسرائيليين، وتحديدا فى القدس أو فى عودة اللاجئين. وتلك قضية حيوية، وأكثر من مثيرة..
لكن لفت نظرى فى اجتماعات إعلان دمشق التى انتهت فى القاهرة الأسبوع الماضى، أنها حاولت إنعاش الروح المعنوية للتجمعات العربية وللشارع العربى، لإعادة التذكير بأن كل التجمعات من الممكن أن تعود إليها الحياة مرة أخرى. وأن هناك محاولات جادة لعودة الأجزاء المتفرقة إلى الكل. رغم المعاناة والتشتت.
حيث وافق المجتمعون دول الخليج الست ومصر وسوريا على إعلان دقيق، أكدوا خلاله على رغبتهم فى العودة إلى الجامعة العربية، والموافقة على قمة عربية شاملة، وزادوا على ذلك بأنهم شجعوا اللجنة الخماسية المعنية بتقنين آلية الانعقاد الدورى للقمة.
وفى هذه النقطة الحيوية، فإن إعلان دمشق كان موضوعيا ولم يسع إلى تكريس الانقسامات العربية، بعقد قمة عاجلة لأعضائه، واعتبارها بديلا للقمة الشاملة، وتلك ملاحظة جوهرية تحسب لهذا التجمع الذى نشأ فى أعقاب الأزمة. ولا يسعى لتكريسها ، بل يريد أن يعيد الوضع العربى إلى مكانه الصحيح لكل العرب، فأكد بلورة والتعجيل بآليات تنفيذ اتفاقية تنمية التبادل التجارى بين البلدان العربية ككل. ومنطقة التجارة الحرة لبلدانها.
وبعودة القمة وتفعيل الآليات للتعاون العربى الشامل يكون هذا التجمع، نقصد إعلان دمشق، قد أدى دوره فى الحفاظ على التطلعات العربية للتعاون والحد من الانقسامات فى وقت الأزمة. وسلم الأمانة للمنظمات الطبيعية وللقمة الدورية لكى تحافظ على الحد الأدنى، وترتفع بالتعاون العربى، إلى ما يستطيع العرب تحقيقه وما يتمكنون من اجتيازه بالعمل معا للتغلب على عقبات الانقسام والتشرذم والبحث عن أدوار صغيرة تكرّس الأوضاع العربية الراهنة وتؤثر على المصالح الجوهرية وعلى مستقبل كل الشعوب العربية مجتمعة.
إعلان دمشق ـ يجب ألا نحمِّله أكثر من طاقته، فهو لا يمكن أن يكون بديلا عن النظام العربى السابق على قيامه ـ ولكنه إعلان هو ابن الأزمة وردُُ عليها، ولم يكن بديلا كفؤا، حاول الحركة، لكنه فشل، وإحياؤه ـ للأمانة ـ أمر صعب جدا. والأفضل له أن يتحرك للعودة إلى الأمور الطبيعية بتعاون كل العرب، لمعرفة مصيرهم ومستقبلهم، والتخلص من أزماتهم.
ووضع حلول للمرحلة القادمة، فإدارة الأزمات وتحديدا فى نقطة الصراع العربى ـ الإسرائيلى على كل المسارات سورياً ولبنانيا وفلسطينيا وصلت إلى مرحلة شبه مسدودة، وأصبحت تستوجب التحرك العربى الجماعى، والرؤية المستقبلية للقادة. فالصراع الآن لم يصبح على طاولة المتفاوضين على المسارات المختلفة. بل هو على طاولات المسرح العالمى كله بكل تداخلاته وصراعاته ومصالحه المتشابكة والمتداخلة، ومصلحة العرب تستوجب تدخل القادة والحكام، بتفاوض شامل مع أمريكا وأوروبا وإسرائيل على مستقبل المنطقة ككل.
ولن يمكن تحديد ذلك بدون حوار وتفاوض عربى ـ عربى للوصول إلى شكل منطقى وتفاهم عملى لما يريدوه العرب ويسعون إلى تحقيقه فى المنطقة ومع العالم للوصول إلى سلام حقيقى وعادل، وحماية لمستقبلهم بعده.
والمأمول أن يحققوا ذلك فى قمة عربية مرتقبة، يتمكنون من عقدها، وبلورة رؤية موحدة ومتماسكة يقدمونها للمجتمع الدولى.
تلك القمة ستضع حداً للصراعات العربية والانقسامات، وستصل بالعرب إلى تفاهم إقليمى يحققونه بين بعضهم البعض قبل أن يتفاوضوا مع شركائهم فى المنطقة، ومع المجتمع الدولى على طرق التعاون والتفاهم، بل التنافس المستقبلى فى ظل عالم مختلف تضطرب فيه الأمور وتفرض التفاوض فى كل النقاط، وإذا لم يتحقق ذلك فيجب ألا نلوم إلا أنفسنا إذا اجتمع الأقوياء وقرروا ماذا يريدون لنا، وألزمونا بالتنفيذ والطاعة، وسوف تضيع كل مصالحنا المتبقية وساعتها يجب ألا نلوم إلا أنفسنا.