مقالات الأهرام العربى

قبل الانفجار

ما أحلى الأصوات العاقلة فى لحظة النصر، وقد حقق اللبنانيون نصرا خالصا بانسحاب إسرائيل من الجنوب وإتمام عملياتها الانسحابية فى 25 مايو، الذى أصبح عيدا وطنيا للمقاومة والتحرير، ووضع حدا لاحتلال الجنوب الذى دام 22 عاما، وأغلق أحد الفصول المؤلمة فى تاريخ منطقتنا، وفتح الباب لمرحلة جديدة. وهكذا عادت %10 من مساحة الوطن اللبنانى بخروج آخر جندى  إسرائيلى فى ظلام الليل جنوبا عبر الحدود.

وبحلول الرابع والعشرين من مايو أنجز باراك ـ رئيس الوزراء الإسرائيلى ـ وعده لناخبيه قبل انتخابه بإنهاء المأزق اللبنانى قبل المهلة التى حددها بـ 6 أسابيع كاملة.

وإذا كان اللبنانيون خاصة حزب الله قد انتصروا، والدليل واضح، فإن النصر الحقيقى هو لإرادة السلام فى المنطقة، فالسلام هو الذى فرض الانسحاب وعجل به، وكانن إرادة المقاومة وصلابتها وتوازنها فى نفس الوقت سببا جعلنا نتذوق حلاوة النصر، ونشعر بكل نتائج ما يحدث فى منطقة الشرق الأوسط من مخاض التغيير، واستخلاص الرؤى المتغيرة التى جعلت كل القوى تدرك جيدا، أننا ندخل زمنا جديدا بقوانين جديدة ومعادلات جديدة.

وإذا لم ندرك معنى النصر، فقد نخسره ويتحول إلى عبء بل إلى انفجار كبير، فالجنوب اللبنانى لم يكن أرضا محتلة، تم استعادتها فقط، بل إنه وبكل الفهم كان خلال ربع القرن الأخير حجر الزاوية فى سياسات الشرق الأوسط الحديث.

جنوب لبنان نقطة ارتكاز لكل بؤر الصراع الإقليمى المتبقية بين العرب والإسرائيليين، فعلى أرضه تدور رحى الصراع على المستقبل ˜35 ألف جندى سورى يحرسون لبنان و300 ألف فلسطينى ينتظرون استكمال السلام وقيام دولتهم وحصولهم على حقهم المشروع بالعودة إلى ديارهم ودولتهم المرتقبةŒ.

تحرير الجنوب، وتذوق لبنان لطعم الحرية، وطواف الرئيس ˜لحودŒ فى المنطقة المحررة بعد ساعات من رحيل الإسرائيليين، جعلنى أشعر بالعزة العربية، وأدرك أن الحكومة اللبنانية والمقاومة تدركان أعباء النصر وتبعاته، ودعوة ˜لحودŒ لعودة الجنوبيين الهاربين، أكد لى أن الدولة اللبنانية واعية للانفجار وخطورته، وقد قال ˜لحودŒ لحشود من المسيحيين الجنوبيين خارج كنيسة فى إحدى القرى إنه أتى للاحتفال بالنصر معهم. ويجب أن يخبروا أقاربهم الذين تركوا البلد بالعودة لأن دولة القانون تحمى الجميع.

وهكذا أكد ˜لحودŒ وعى الدولة اللبنانية بتجنب الانفجار وانضواء الجميع تحت لواء الدولة الموحدة.

وما يشعرنى بالاعتزاز بالنصر اللبنانى، هو قدرة المقاومة ورئيسها حسن نصر الله ـ هذا الشيخ الشاب ابن الأربعينيات الذى فقد ابنه ˜هادىŒ ابن العشرينيات فى حرب الإنهاك بينه وبين المحتلين ـ الذى أثق فى سلوكه فقد تصرف بحنكة عقب النصر، مثلما تصرف كقائد عند فقد ابنه فى 97، أكثر من كونه أبا، ولم يلغ خطبة عامة كان قد أعُد لها مسبقا قائلا ببساطة إنه قد يشعر بالفخر عندما يقابل أسر الشهداء الآخرين.

وقد استطاع حسن نصر الله ورجال المقاومة أن يبطلوا الانفجار عندما تحدوا التوقعات التى أكدت راهنت على أن ˜حزب اللهŒ سيقوم بذبح المسيحيين المشكوك فى تعاونهم مع إسرائيل، فأعطى تعليماته، التى نفذتها المقاومة بدقة، تشهد بحكمة الرجال وحنكتهم، وقال نصر الله لمحاربيه عندما دخل قرية مسيحية إن حزب الله مكرس بأكمله لحمايتهم وخيرهم، وإن دماءهم ˜يقصد أهل القريةŒ هى دماؤهم، وإن شرفهم هو شرف ˜حزب اللهŒ.

و˜حزب اللهŒ بعد هذا التطور عليه أن يواجه تحديات جسيمة، وأن يتحول من منظمة للمقاومة إلى حزب للعمل السياسى، وهو اختيار عصيب لا يقدر عليه إلا المجاهدون الأصحاء، الذين يعرفون معنى بناء الدولة والمحافظة على استقرارها، ولا ينحرفون إلى جر المنطقة وإغراقها فى صراعات لن تستطيع أن تخرج منها مرة أخرى، وستفتح الباب لتدخلات أجنبية جديدة، لن يكون لحزب الله طائل من ورائها وسيجر بلاده إلى الانفجار الذى رتبت له قوى خارجية عديدة.

وأثق فى أن حزب الله وقائده ˜حسن نصر اللهŒ، الذى تحولت المقاومة تحت قيادته من جماعة تؤيد خطف الأجانب وتوسيع عمليات الإرهاب، إلى حركة تتمتع باحترام واسع فى لبنان حتى بين المسيحيين، واستطاع بسلوكه القتالى ضد إسرائيل أن يقوم بتحويل الرأى العام الإسرائيلى ضد الاحتلال بعد أن تكبدوا خسائر بلغت 900 جندى إسرائيلى منذ عام 1982 حتى الآن، بينما خسائر اللبنانيين بلغت مليونا و237 ألف شهيد.

وأعتقد أن الشعب اللبنانى سوف يعطى فى أغسطس القادم ـ موعد الانتخابات البرلمانية ـ نصيبا من المقاعد لحزب الله كحزب سياسى تجعله ذا مكانة رفيعة فى لبنان، توازى انتصاره العسكرى، وببساطة فإن التحديات التى تواجه ˜نصر اللهŒ وجماعته فى المستقبل أكثر صعوبة من تحديات الحرب، ومحورها حماية الوطن من الانفجار الداخلى.

وأعتقد أن المرحلة القادمة بعد الانسحاب الإسرائيلى من جنوب لبنان قد غيرت خريطة السلام الإقليمى، ووضعت الجميع فى مأزق السلام، فباراك يقع عليه العبء الأكبر، وعليه أن يثبت أنه لم يهرب من لبنان خوفا على جنوده من المقاومة فقط، لكنه انسحب اقتناعا بأن سياسة السلام سوف تكتمل حلقاتها على كل المسارات، خاصة المسار الفلسطينى. وأن الفلسطينيين من الآن فصاعدا سوف يتململون من الوضع القائم فى الأرض المحتلة. خاصة فى حالة اقتناعهم بأن القوة والمقاومة هى وحدها الوسيلة المثلى  للتعامل مع إسرائيل محاكاة لما حدث فى لبنان، وبالتالى علينا أن نتوقع الانفجار، ونخسر قوة الدفع التى مثَّلها الانسحاب الإسرائيلى من الجنوب للسلام المرتقب.

أما على الصعيد السورى فإن الموقف أصبح هو الآخر أكثر دقة وحرجا وخطورة بدون العودة إلى مائدة المفاوضات بين الطرفين، وستكون الخسائر على  الجانبين فادحة، وأكثر خطورة على مستقبل السلام الإقليمى، والمأمول أن يدفع انسحاب الطرفين إلى الوعى بخطورة المرحلة القادمة على المسار السورى ـ الإسرائيلى.

على كل الأطراف أن تعى أن الانفجار عندما يحدث فسوف يشمل الجميع، لأن النيران ستلتهم الجميع فى بؤرة الارتكاز، وأول ما ستلتهمه هو السلام الإقليمى، إذن فلا مجال للمؤامرات أو إشعال الفتن، أو غرور القوة والتباهى بالانتصار الكاذب، فالوعى بالمستقبل أفضل للجميع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى