مقالات الأهرام العربى

معادلة 2000 الصعبة

يحل عام 2000، ويبدأ العالم ـ حسب التقويم الزمنى  المعاصر ـ مرحلة جديدة من حياته، ببداية العد من الصفر، وهكذا عشنا دورة حياة كاملة وتمكنا من أن نمسك لحظة زمنية فريدة فى معناها وجوهرها.

وإذا كان العالم يجرى وراء كشف الحساب وجرد الزمن، فنحن نريد أن نهرب وراء المعنى وما نستخلصه من حقائق الحياة والزمن.

وإذا كان اليوم الأول من السنة الجديدة هو احتفالية بالمستقبل، تسودها روح التفاؤل، فإننى أعتقد أن العالم كله ونحن معه نحتفل بالنجاة أو الاستشفاء من القرن الماضى، الذى عشنا أحداثه وما فيها من هرج ومرج، وتغيير شامل وخوف واقتتال حيوانى، وتقدُّم إنسانى لا مثيل له، وأننا استطعنا أن نمرق بالكاد فى الليلة الماضية من هذا القرن الذى رفض أن يذهب أو ينقضى إلا وهو يأخذ معه ألفية كاملة.

هل نحتفل بدخول ألفية سيملك فيها الجنس البشرى حرية اختياراته، أو يملك قدرة العيش بإنسانية ويهزم الحيوان داخله، الذى أدخله فى متاهات القرن المنقضى، وسيطر على كيانه وألغى إنسانيته؟

أعتقد أن أبرز انتصار إنسانى علينا أن نحتفى به فى القرن الراحل، لم يكن هو الشائع حولنا من الانتصارات العلمية وسيادة عصر التكنولوجيا والاتصالات التى جعلت العالم قرية كونية واحدة، أو هو الصعود إلى الفضاء والطيران بالنفاثات حول الأرض والبحار، أو غزوات العلوم والطب والفلك والهندسة، وتغيير حياة الإنسان، أو استخدام أجهزة الكمبيوتر والإنترنت والمحمول، أو حتى ما ينتظرنا من تغييرات مدهشة عندما نتحدث مع الأجهزة الحديثة، ونجعلها تفهمنا وتعايشنا، وتحقق أحلامنا العاطفية والنفسية فيما وراء المادة.

لكن أهم تغيير إنسانى طرأ على حياتنا وأتوقع  أن يسود فى القرن والألفية الجديدة، وهو قبول الآخر، والسعى إلى تكريس التعددية، واحترام حق الاختلاف جنسيا ودينيا وثقافيا وسياسيا، بدون اقتتال أو حروب،  بعد الحروب العالمية الساخنة والباردة التى ميزت وسيطرت على حياة الإنسان فىالقرن الماضى.

أهم تغيير  هو أن العالم والبشرية أنهوا عصور الديكتاتوريات وسيطرة الحزب أو القائد الملهم والزعيم الأوحد ـ حيث أصبح القادة العسكريون والديكتاتوريون »بواقى« القرن المنقضى ـ حتى لو وُجدوا لأصبحوا كائنات مندثرة، أو أضحوكة العالم، تنتظر مصيرها، والتصحيح الذى ربما يجىء من الداخل أو الخارج، لكن حركة وثورة المعلومات والتكنولوجيا والفضائيات، وانتشار الأخبار، ستجرفها أمامها حتى تكون فى »مزبلة« التاريخ.

أهم تطور إنسانى هو أن الديمقراطية التى ستسود، واحترام رجل الشارع والإنسان البسيط واحتياجاته، فالتقدم لم يصبح رهانا قويا فقط، لكن للجميع ومسئوليته لم تصبح على عاتق دولة واحدة، بل على العالم كله، بل مسئولية الجنس البشرى ككل، فلن يكتمل التقدم بدون مشاركة الجميع، ولعل سقوط الأنظمة الفاشية والشيوعية لم يتم بمؤامرة كما يدعى أنصار الماضى والتغييب، لكنه تم لأن هذه الأنظمة لم تستطع أن تستوعب الجميع وتوفر لهم احتياجاتهم، وكانت أنظمة للقلة والفساد وحجب الرأى والرأى الآخر، ولذلك سقطت وانتهى أمرها، لتبدأ الألفية بتدشين عصر الحرية للجميع.

الديمقراطية والسلام تطور إنسانى دُشن فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، ليصبح بناء متكاملا فى القرن القادم، ونحن فى العالم العربى لا يمكن أن نتخلف عن التطورات العالمية فى عالمنا المعاصر، وإلا فسوف تذرونا الرياح.

ولمن يصورون القبول بالسلام والتعايش مع الآخر بالضعف والهزيمة أن يصحوا من غفوتهم، ليعرفوا أن القوة والانتصار الحقيقى هما القدرة على التكيف مع المتغيرات الجديدة، ومعايشتها بفعالية، والمشاركة باقتدار بدون خوف أو تردد، فالصراع والحروب معادلة ثبت أن من يدخل فيها ليس انتصارا، بل هروبا من المواجهة الحقيقية للحياة بكل معادلاتها الصعبة، والمشاركة من خلالها فى تغيير الواقع، وصنع التقدم الإنسانى.

ينتهى هذا القرن، وقد تعلمنا الفرق بين الترويع والترهيب، وأنه من السهولة  أن يتعرف الشخص على عدوه، كما يمكن أن يتفادى الحروب والإرهاب، فلم يعد أى شىء مستحيلا، بل كل الأمور متاحة وشائعة.

كما أن الديمقراطية هى السمة الثابتة الماثلة أمام الأذهان، فالمستقبل والقرن  الجديد، يحملان للشعوب المشاركة فى صنع القرارات السياسىة والاقتصادىة والاجتماعىة، ومن يتخلف عن  صنع مؤسساتها وإتاحة الفرصة أمامها، يفتح الطريق للإرهاب والفوضى، والمساءلة التاريخية، بل العقاب الشعبى.

إن الانزلاق فى الفوضى والدمار يكون عادة بصورة مفاجئة، كما أن العواقب تكون دائما ساحقة وطويلة المدى.

ولنتأمل أن القرن التاسع عشر قد انتهى، الذى كان فيه استعباد الإنسان هو القاعدة، وليس الاستثناء، وأن الموقف فى عام ٩٩٩١ حصيلته أنه حرر ٨٨ دولة من إجمالى ١٩١ دولة تضم 3,4 مليار شخص حوالى 40٪ من إجمالى سكان العالم.

وهذه الدول تتمتع بالانتخابات الحرة والحقوق السياسية التقليدية وهناك  ظلال رمادية تضم 53 دولة، إجمالى سكانها 1,6 مليار شخص فيها الانتخابات والحريات المدنية عرضة للمساومة، فعلى سبيل المثال روسيا ـ حرة جزئيا ـ والصين مازالت بعيدة عن الحرية على الإطلاق.

ونحن فى العالم العربى فى حاجة ماسة لأن نأخذ قضية الحرية والديمقراطية، وبناء المؤسسات بجدية أكثر، كما نأخذ قضية السلام، وإذا انتبهنا إلى المتغيرات فسوف نأخذ قضية التعاون الإقليمى والتحديث ومشتقاتها من التعليم والعلوم، ونضعها فى مكانها الصحيح فى سلم أولوياتنا فى القرن الذى نستقبل أول أيامه مع التهنئة للجميع الذين شاهدوا هذه اللحظة الفارقة فى حياة الإنسانية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى