رهان الخطيئة

أصبحنا نخطو نحو الفرصة الأخيرة فى السلام، الذى أشاعه باراك منذ انتخابه، واعتلائه كرسى رئاسة وزراء إسرائيل فى السادس من يونيو فى العام الماضى، وبعد مرور عشرة أشهر أدخل باراك كل المسارات فى النفق المظلم بعد أن استطا ع جزئيا إشاعة إحساس بالأمل فى التغيير القادم معه، بعد سقوط »نيتانياهو« والمتطرفين من الليكود، وإذا كان العرب والعالم الخارجى والولايات المتحدة إضافة إلى جزء من الشارع الإسرائيلى الراغب فى السلام قد ساندوا باراك، الذى استفاد من الجميع، وانقلب عليهم، وألف حزبا خاصا بمعرفته للمتطرفين الحقيقيين، وأعنى هنا المتطرفين بالفعل لا بالقول، فالفرق بين رئيس الوزراء باراك وسلفه نيتانياهو، أن الرئيس الحالى يظهر غير ما يبطن تسمعه فتشعر بأنه قادر على التحمل واتخاذ القرارات الصعبة، وتَحمُّل تبعات السلام ثم تجده يسير فى عكس الاتجاهات التى يعلنها.
أما الرئيس السابق فهو عنيف شكلا ومضمونا فاستطاع الجميع كشفه وتعريته وإسقاطه مبكرا، رغم طموحاته وآماله التى كانت تعبر عن جيل جديد يأمل فى حكم إسرإئيل.
باراك ذلك الوحش الاستيطانى ـ كما أسماه الرئيس عرفات ـ فى لقاء أخير جمعنى معه ومع الزملاء الصحفيين المصريين حيث صنفه من واقع خبرته فى التعامل معه، بأنه يخضع للمتطرفين، بل يعتبر نفسه رئيسا لهم، ولعل رسالته للمستوطنين تكشف عن أنها لا تصدر من شخص عاقل يدرك عواقب الأمور، فكل أفعال باراك تكشف عن عدم قدرته على اتخاذ القرارات الصعبة، رغم أنه يعلن ذلك.
باراك هدد بإزالة المستوطنات غير الشرعية، وبنى 7128 وحدة سكنية فى المستوطنات القديمة، وهى أكبر مما بناه نيتانياهو خلال 3 سنوات.
باراك خذل السوريين الذين وصفوه بأنه الرجل القوى والصريح بعد أن أصبحوا قرب النقطة الأخيرة من الاتفاق، فقد توصلوا إلى 85٪ من النقاط، وحصلوا على كل ما كانوا يتطلعون إليه من سلام وتعاون ونقاط أمنية، فإذا بهم يلعبون فى المناطق الحساسة والاستراتيجية أو النقاط التى لا تستطيع سوريا تجاوزها، وهى اللعب فى الجغرافيا السياسية الحاكمة لمكانة سوريا الإقليمية، فى محاولة فاشلة لإملاء حدود جديدة حول بحيرة طبرية ـ ترمز من بعيد لانتصار إسرائيلى فى الحرب ـ رغم أننا فى موضع تفاوض ونسعى لسلام وتعاون وتغيير لواقع مؤلم فى المنطقة، لكن ماذا نفعل أمام غرور القوة وغطرسة العسكرية الإسرائيلية، التى تكشف عن أن باراك رئيس الوزراء لم يغير بذلته العسكرية ويرتدى حلة أو بذلة رئيس الوزراء المدنى، فهو يتفاوض وعينه على الحقائق العسكرية على الأرض.
باراك حتى فى انسحابه المرتقب من جنوب لبنان يريد أن يعقِّد المواقف عربيا، فهو فى ذلك يبحث عن السلام الإقليمى.
كل ذلك يذكرنا بتاريخ باراك السياسى، فهو نفسه الشخص الذى اعترض على اتفاق »أوسلو« بين رابين وعرفات فى سبتمبر 1993.
وهو نفسه الوزير السابق الذى اعترض على أستاذه ورئيسه رابين، ورفض مساندته عند التصويت على اتفاقية أوسلو الثانية، وصرخ فى أحد الاجتماعات قائلا إن إسرائيل تعطى التنازلات بسرعة دون أن تحصل على ضمانات فى مقابلها، ويكفى أن ندلل على أن باراك كان آخر الذين فجروا بركان غضب رئيسه الراحل إسحاق رابين فى مجلس الوزراء الأخير له، حيث صاح فيه فى حالة غضب شديد قائلا على الذين لا يؤيدوننى أن يقدموا استقالاتهم فورا.
وكانت الأزمة بين رابين وباراك مرشحة للتفاعل، ولم يؤد إلى فك الاشتباك بين الرجلين إلا رحيل رابين الدامى فى الرابع من نوفمبر 1995.
وكذلك كان باراك أول المستفيدين من الرحيل، وكان بالخارج فعاد يطالب بسحق المتطرفين اليهود.
وهكذا نرى الصورة الآن قاتمة فالفلسطينيون الذين انتعشت آمالهم بهزيمة نيتانياهو، وانسحاب باراك من 6.1٪ من أراضى الضفة، يعانون الآن خيبة الأمل الكبرى بمصادرة الأراضى الفلسطينية وتدمير البيوت، وقسوة الحياة، وزيادة مساحة المستوطنات فى الضفة الغربية، بل إن باراك قام بتسريع وتيرة الاستيطان عما كانت عليه سابقا.
إن انفجار الغضب الفلسطينى أصبح وشيكا، فعناصر التطرف الفلسطينى تستشعر الآن خطورة الموقف، فهم الأكثر إدراكا لحالة الامتعاض واليأس التى تنتاب الرئيس عرفات والسلطة الفلسطينية فالرئيس عرفات ومنظمته وسلطته لا يستطيعون أن يسيطروا على الموقف فى حالة فشل التفاوض واستمراره بدون جدوى بل إنهم سيصبحون أول المطالبين بأن يكونوا جزءا من فورة الشعب الفلسطينى فى حالة فشل السلام المأمول.
والعرب يتساءلون الآن عن الرهان الإسرائيلى هل يراهن باراك على أن العرب تخلوا عن القضية الفلسطينية أو حتى تجاوزا الجولان وجنوب لبنان؟
هل يراهن باراك على أن قطار السلام لا يستطيع أحد أن يوقفه حتى هو بتعنته وبعدم استكمال مفاوضات الحل النهائى على كل المسارات؟
هل يراهن باراك على الخلافات العربية وعدم قدرة القادة العرب على الاجتماع فى قمة لبحث أحوالهم المستقبلية؟
هل يراهن باراك على أن قطار التعاون والسلام ينطلق من موريتانيا ويسير مع عدد من السائحين فى اليمن؟
أم أنه يراهن على كسب الوقت باللعب على المسارات ومخاطبة الرأى العام العالمى على أنه صانع السلام، بينما هو فى الحقيقة ينتظر قلاقل عربية أو ظهور تيارات عربية حاكمة جديدة فى سوريا وفلسطين، لا تستطيع أن تكون قادرة على صنع السلام أو حتى التفاوض فيعيد صناعة الوجوه القبيحة التى تمكنه من ممارسة هواياته بالمؤسسة العسكرية وإعادة الدائرة الجهنمية من سقوط المنطقة فريسة للحروب الجديدة.
كل هذه الرهانات تكشف عن برميل البارود ـ أو الصواريخ ـ الذى تعيش فوقه منطقة الشرق الأوسط.
ولاشك أن الولايات المتحدة وأوروبا والمجتمع الدولى يرتكبون خطيئة كبرى عندما يتركون باراك والإسرائيليين يلعبون فى المنطقة واستقرارها، تلك اللعبة الخطرة التى لاشك أنهم لايدركون عواقبها الخطيرة.
فاللعب على الشعوب وكرامتها ومستقبلها أخطر من اللعب بالجيوش والحروب النظامية، فالمنطقة الآن لم تصبح ملكا للجيوش النظامية والحروب التقليدية كما كانت فى السابق بل هى ملك للشارع وللشعوب، وانتبهوا جيدا للخطورة، فالشارع العربى لن يقبل هذا الوضع بعد أن قدم الغالى والثمين، وقبل بالسلام والتفاوض، ثم وقع فريسة للمساومات الإسرائيلية التى لا تنتهى، فإسرائيل لن تستطيع أن تحيا فى ظل حالة اللاسلم واللاحرب، بل ستقع فريسة للفوضى والإرهاب، وليست هى وحدها، بل المنطقة كلها وذلك يعنى سقوط رهانات باراك وبالتالى وقوع الجميع فريسة لخطيئة باراك وعجزه.