مقالات الأهرام العربى

موسى وبيكر

عشت الأسبوع الماضى حدثا عاما، لكنه كان بالنسبة لى حدثا شخصيا، فقد سعدت بتنظيم »مؤسسة الأهرام« لملتقى القاهرة للتنمية، وكان مبعث سعادتى قبول جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا الأسبق فترة حكم جورج بوش 1992-1989 دعوة »معهد الأهرام الإقليمى للصحافة« لإلقاء المحاضرة الرئيسية فى هذا الملتقى، وقد كنت فى استقبال بيكر فى المطار، فهو الوزير الذى أحمل له تقديرا خاصا لدوره الكبير الذى لعبه فى عملية السلام فى منطقة الشرق الأوسط، وتشجيع الأطراف المختلفة على التفاوض، وكان مهندس اتفاقية أوسلو التى أدخلت الفلسطينيين معترك التفاوض من أجل السلام، ولم أكن وحدى المتحمس للوزير بيكر، بل كان معى الوزير عمرو موسى وزير الخارجية، الشخصية العربية اللامعة، الذى تزداد مكانته كل يوم علوا فى القلوب والعقول، لفاعليته وقدرته الفائقة على القيام بمهامه، ولعلنا جميعا سوف نتذكر دائما محاورته التليفزيونية مع الوزير شلومى بن عامى وزير خارجية إسرائيل بالوكالة، والتى كانت درسا بليغا فى السياسة والدبلوماسية والوطنية، فقد حدد بأسلوب فائق الروعة والدقة حقوق العرب فى القدس، واستطاع بتسلسل أفكاره وتمكنه وإيمانه بقضيته أن يقنع كل مستمعيه بعدالة القضية التى يدافع عنها، بل إن المراقبين لا يبالغون عندما يقولون إنه أقنع حتى محاوره بما يقول، لدرجة أنه قدم له الاعتذار مرارا، وأظهر أمام الرأى العام العالمى لأول مرة قوة الحجة العربية أمام الدعاوى الإسرائيلية التى سقطت كلها أمام منطق وقدرة عمرو موسى مع الوزير بن عامى.

نعود إلى ملتقى القاهرة لنرى كيف أن الوزير موسى ـ رغم مشاغله العديدة واستعداده للسفر إلى إفريقيا فى مهمة دبلوماسية ـ سهر معنا فى حفل تم تنظيمه فى النادى الدبلوماسى لتكريم الوزير بيكر ومنظمى ملتقى القاهرة يوسف منصور ـ رئيس شركة منصور الدولية ـ وكلود كونز ـ رئيس شركة فيليب موريس العالمية ـ وكان لقاء ممتعا شاركنا فيه السفير الأمريكى فى القاهرة دانيال كيرتزر، وكان ذكاء عمرو موسى يتدفق ويؤكد قدرته على التعبير الدقيق، الذى قد يبدو بسيطا  أو ضاحكا، لكنك عندما تعود إلى ما يقول وتمعن التفكير فيه تجد أن الوزير العربى الكفؤ لم يضع دقيقة واحدة دون التأكيد بأكثر من أسلوب ـ النكتة، القفشة، التعليق ـ مدافعا عن مصالح القضية العربية، خاصة الفلسطينية، مما جعلنا نشعر بأن الدبلوماسية قد تغيرت، وأنها أصبحت وعاء لكل الثقافات والحضارات، وأننا أمام شخصية متميزة أسرة للقلوب، تعبر بالأسلوب السهل الممتنع، هذا التأثير لم يصل إلىَّ وحدى، بل وجدته لدى ضيوفى جميعا، فكل تعليقاتهم كانت على الوزير موسى، الذى بادله الوزير جيمس بيكر ذكاء بذكاء، وكانت مباراة فى الدبلوماسية جعلت الجميع يُمعنون النظر والتفكير فيما يقولان.

ولم يكتف عمرو موسى بعشائه الفاخر للوزير السابق بيكر، بل حرص على تقديمه فى صبيحة يوم المؤتمر بلغة جميلة أثرت فى الضيف، جعلته يعبر عن سعادته البالغة بكلام وزير خارجية مصر، الذى احتفى بشخصه وتاريخه السياسى، وقد وصفه بدقة، وأنه بالرغم من مكانته الرفيعة فهو رجل بسيط مع الجميع، أما مكانته العالمية فقد حددها بدوره عقب سقوط الاتحاد السوفيتى، وكيف استطاع إنهاء العداء الروسى ـ الأمريكى لبدء حقبة جديدة، وأوضح دوره فى الشرق الأوسط وكيف أنه وقف ضد من حاولوا اللعب بمستقبل المنطقة.

خرج عمرو موسى من اللقاء وقد كسب نقاطا كثيرة لدينا ولدى كل من سمعه ليظل رصيده كبيرا ومستمرا.

أما الوزير بيكر فقد استطاع فى اللقاء الذى لم يستغرق أكثر من 25 دقيقة أن يلخص فلسفة الاقتصاد الحر ومستقبله، وكيفية الوصول إلى الدولة الصالحة والمواطن الصالح وحذر الدولة التى ترغب فى التغيير والتقدم من أن تنزل الملعب كلاعب، بل عليها أن تقوم بتهيئة المناخ المناسب لاقتصاد السوق، الذى يعتبره الطريق الوحيد لتحقيق الرفاهية والرخاء.

لكن الأهم كانت مطالبته بدولة القانون وتحذيره من الفساد وغياب الشفافية،  وانعدام المنافسة أو سيطرة الوسطاء ورجال الأعمال والبنوك، ومطالبته بأن تعمل الحكومات مع رجال الأعمال.

وبالرغم من أهمية محاضرة بيكر الاقتصادية وبلاغته فى التعبير مع مراعاة الدقة، فقد وقفتُ أمام إشاراته السياسية بإمعان عن دور مصر والرئيس مبارك فى تحقيق السلام للمنطقة، وأنه لولا مبارك والدبلوماسية المصرية ما تحقق شىء من سلام الشرق الأوسط.

أما الأستاذ إبراهيم نافع فقد حرص رغم انشغاله فى دبى فى أعمال جائزة دبى الصحفية الكبرى، التى تتم برعاية اتحاد الصحفيين العرب، الذى يرأسه، حرص على إرسال كلمة موجزة شرح فيها دور مؤسسة الأهرام التى امتدت رسالتها من تغطية الأحداث إلى الإسهام فى صنع البعض منها وكلماته المعبرة عن أن التنمية لا تتم فى ظل الصمت، لكن بالحوار الهادف بين قطاعات المجتمع المختلفة، مما يجعل من الواقع ومتغيراته وآلياته عاملا فاعلا وأساسيا فى تقرير السياسات وإقرار الخيارات وتشجيع هذا الحوار ليتحقق السلام، الذى كان نتيجة لتغير حقيقى ناتجا عن الانحياز للواقع والاستجابة لتفاعلاته المختلفة، وأن الرؤية الواقعية يمكن أن تصل بعملية السلام إلى غايتها وتضع نهاية لسلسلة من الأزمات لم تكن تلوح بها من قبل نهاية.

وبالرغم من النجاح الكبير الذى تحقق لمنتدى القاهرة فى يومه الأول كانت مفاجأة لى من د. عاطف عبيد ـ رئيس الوزراء ـ بأنه سينضم إلى الملتقى، ليلتقى بضيوفنا من الشركات المصرية والعالمية فى اليوم الثانى والأخير، لكى نتعرف على مستقبل الاقتصاد المصرى، وكان رئيس الوزراء صريحا كعادته، دقيقا فى التشخيص، واضحا فى الرؤية المستقبلية التى ينفذها بكفاءة واقتدار، التى جعلت مصر خلال الفترة القليلة الماضية من رئاسته للوزارة، محط أنظار الشركات العالمية، فقد أدركت أن الاقتصاد المصرى فى طريقه الصحيح، وأنه اليوم أكثر قدرة على التعامل مع الاقتصاد العالمى من أى وقت مضى، فهو جاذب للاستثمارات الأجنبية. وقد أفرزت سنوات الإصلاح هياكل اقتصادية جديدة وسياسات أكثر قدرة على تلبية احتياجات الاستثمار، وفتحت مجالات عمل وإنتاج غير مسبوقة فى ربوع خريطة جغرافية تشمل رقعة مصر كلها.

د. عاطف عبيد خرج من المنتدى وكل الضيوف يقولون إن مصر تملك رئيس حكومة يجمع ما بين الرؤية الاقتصادية المتكاملة ويعرف الطريق إلى تنفيذها.

وهكذا استطعت فى نهاية المنتدى أن أشعر بسعادة غامرة، فقد جمعنا ما بين الحكومة والشركات  المصرية والعالمية التى تشير إلى رؤية جديدة فى التعامل مع قضايانا الاقتصادية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى